روجيه نبعة *
ساحات متداخلة
أ ـ أسر الجنديين والساحة اللبنانية
لقد أدرجت عملية حزب الله في سياق المنحى الذي اتخذته الأحداث في لبنان، منذ اغتيال رفيق الحريري، التي جاءت لمصلحة الأطراف المناهضة لسوريا (قوى 14 آذار)، وانتهت بانسحاب سوري مباغت وسريع من لبنان و«هزيمة» ما بات يعرف اليوم بمحور دمشق ـ طهران. هذا المنحى الجديد دام حتى نهاية عام 2005 تقريباً. ولكنه ما لبث أن انقلب لمصلحة القوى المقرّبة من هذا المحور (قوى 8 آذار) التي استعادت زمام المبادرة وبدأت تسجيل النقاط ونجحت في لجم قوى 14 آذار وعرقلة مشاريعها: بدءاً بأزمة مؤتمر الحوار الوطني الذي لم يؤت أية ثمار، مروراً بأزمة إقالة رئيس الجمهورية الذي ما زال في منصبه، وصولاً إلى الأزمة مع حزب الله الذي ما زال يحتفظ بسلاحه. وأسوأ من ذلك ، فان قوى 8 آذار أعادت تنظيم صفوفها بعد انضمام الجنرال ميشال عون إليها ـ ولو لأسباب أخرى ـ وذلك في جبهة معارضة لا تقبل بأقل من رأس الحكومة على لائحة مطالبها وبإجراء انتخابات نيابية مبكرة. وقد رافق حملاتها مسيرات احتجاجية صاخبة (التظاهرات المتكررة ضد غلاء المعيشة) وأخرى عنيفة (الحوادث التي شهدتها التظاهرة المندّدة بالرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول وتلك المستنكرة لمضمون برنامج «بسمات وطن» الذي تناول السيد حسن نصر الله).
إذاً، لقد جاءت عملية حزب الله صبيحة 12 تموز تتويجاً لهذه الحركة المتصاعدة على الساحة الداخلية، وكي يصبح عدم نزع سلاح حزب الله أحد أهم مكاسبها فضلاً عن تكريس سيطرته على الجنوب «حزب الله لاند» بحسب تعبير بعض المسيئين.
ب ـ أسر الجنديين والساحة الإقليمية
إن «المقياس يصنع الحدث» يقول هيغل، لذلك يمكن إدراج عملية حزب الله في إطار الواقع الإقليمي حيث إن انتصار الحزب، بما يمكن أن يخلّفه من مفاعيل على النظام أو النسق (الإقليمي)، من شأنه تعزيز تمدّد نفوذ إيران وتنامي قدرة سوريا على التسبب بالأذى وتقوية عزيمة المقاومة عند المجاهدين الفلسطينيين.
قبول انتصار حزب الله على الساحة اللبنانية يعني تعزيز النفوذ الإقليمي لإيران، وهذا أمر غير مقبول. لذا عمدت إسرائيل والولايات المتحدة عند هذا المستوى تحديداً إلى فتح الساحة المحلية على الإقليمية والعالمية، وذلك حين أصبح الخضوع لدول وقوى الممانعة يوازي الغدر بالهيمنة الأميركية الكاملة على المنطقة.
كان من الضروري الانتقال من الساحة «المحلية ـ الثنائية» التي يسيطر عليها حزب الله إلى الساحة «الإقليمية ـ العالمية» التي تختارها الولايات المتحدة، وإسرائيل التي تعزّز موقفها بسبب تواطؤ الولايات المتحدة معها في إطار الدور الأميركي المزدوج كلاعب إقليمي وعالمي، وقد خاضت إسرائيل من خلال الحرب على لبنان معركة ضد حزب الله من أجل الوصول عبرها إلى إيران والآخرين الباقين.
وأخيراً، تكتسب خطوة حزب الله بعداً رمزياً سياسياً حيث إنها تعتبر دعوة للتقرّب من المجاهدين الفلسطينيين، وهم سنّة كما هو معروف، والتحالف معهم، وهو ما تشير إليه تصريحات المسؤولين في طهران كما المساعدة التي قدمتها إيران لحكومة «حماس» فضلاً عن الفاصل الزمني بين العمليتين (25 حزيران ـ 12 تموز: أي أقل من أسبوعين) إلى جانب التشابه في الأسلوب بين عمليتي حزب الله و«حماس»:
«في الخامس والعشرين من حزيران، تسللت فرقة كوماندوس من الفلسطينيين الإسلاميين إلى الأراضي الإسرائيلية وأسرت الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط وقتلت إثنين آخرين».
«في الثاني عشر من تموز أقدمت فرقة كوماندوس من حزب الله على تجاوز «الخط الأزرق» (الحدود اللبنانية الإسرائيلية) وأسرت جنديين إسرائيليين وقتلت ثمانية آخرين».
وقد سعت الولايات المتحدة وإسرائيل، بعدما قررتا استغلال البعدين الإقليمي والعالمي للأزمة، إلى دمج هذه الساحات جميعاً في واحدة فحسب، وتحويل حادث حدودي إلى أزمة كبرى. لذلك عمدت إسرائيل بعد ساعتين فقط على الحادث إلى تنفيذ رد تصعيدي.
مجريات الحرب
أ ـ من جانب إسرائيل: «دمروا، يقول»
إن الاستراتيجية التي اتبعتها إسرائيل أثناء الحرب الثانية على لبنان أظهرت تناقضاً بين الغايات والوسائل، لم تنجح بحله.
فغايات الحرب الحالية (تفكيك حزب الله ونزع سلاحه عبر تطبيق القرار 1559) مثلما كانت الحال في الحرب الإسرائيلية الأولى على لبنان (1982) التي هدفت إلى القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، يتطلب إنجازها تبعاً لنظرية «كلوزفتز» تنفيذ عملية برية أي تحقيق «نصر حاسم» على الأرض. ولكن إسرائيل أرادت تفادي المعركة البرية هذه المرّة «كي لا تضطر للغرق في الوحول اللبنانية» مثلما حصل عام 82. لذلك ومن أجل تفادي المواجهة البرية المكلفة، خاضت إسرائيل حرباً خاطفة بخلاف الحرب الأولى التي كان الاجتياح البري عصبها الرئيسي، يدعمه سلاح الجو. كان الطيران الحربي هو المحرك الرئيسي للحرب الثانية (صيف 06) فيما كانت المواجهة البرية شبه غائبة.
ولكن سرعان ما نجحت المقاومة الضارية من قبل حزب الله في إفشال الاستراتيجية الإسرائيلية، فقادت إسرائيل إلى حرب استنزاف، ولكن وفقاً لشروط الحرب الخاطفة. علماً أنه ليس هناك أكثر فظاعة من حرب الاستنزاف عندما تقاد بهذه الشروط، وتزداد فظاعتها إذا ما أريد لها أن تتحول إلى «حرب إكراه كانت تهدف:
1ـ على الجبهة الشيعية إلى تدمير «الأرض الشيعية» ـ في الجنوب حيث نفذت إسرائيل عملية تدمير مبرمجة ومنظمة لإخلائه من السكان ودفعهم إلى الفرار «للضغط على حزب الله» بحسب تعبير وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي آفي ديختر، وفي الضاحية الجنوبية لبيروت حيث تعرضت منطقة حارة حريك حيث تقع مقرات حزب الله والمناطق المحيطة بها، إلى التدمير على دفعات، إذ كانت المقاتلات الإسرائيلية تروح ذهاباً وإياباً فوق المنطقة وتطلق الصواريخ على الأنقاض على أمل الوصول إلى مقر السيد نصر الله نفسه. وفي البقاع حيث نفذ سلاح الجو الإسرائيلي سلسلة من الغارات على مخابئ الأسلحة وشاحنات النقل والمستشفيات، ترافقت مع عمليات إنزال.. كل ذلك بهدف الضغط على حزب الله لتسليم أسلحته وحث الشيعة على فك الارتباط معه.
2ـ على الجبهة اللبنانية عموماً، سعت إسرائيل عبر حملات التدمير إلى عرض مشهدي «للكراهية تجاه الشيعة» باعتبارهم المسؤولين عن المآسي التي أصابت لبنان، وذلك لتأليب اللبنانيين عليهم. فعبر قتل اللبنانيين وتدمير لبنان بالكامل، قدّمت للبنانيين على مدى 24 ساعة يومياً وطوال شهر ونيف، مشهد العنف بالصوت والصورة، وأظهرت لهم الحرب بشكل مباشر، باعتبار أن العنف المرئي ومشاهدة اللبنانيين لهذا العنف التدميري سيكون له أثر فوري: دفع اللبنانيين للانقلاب على حزب الله، وإرغام هذا الأخير على نزع سلاحه.. أي باختصار، الضغط على اللبنانيين لتحقيق ما أخفقت في إنجازه! فهي لم تخض هذه «الحرب المشهدية» على أساس بريء، لأن تظهير العنف عن عمد يعود إلى استراتيجيتها العسكرية التي تعتبر الوسيلة المثلى «للإكراه». لكن هذا الأسلوب هو نفسه الذي تستخدمه في الحرب مع الفلسطينيين، والذي يؤدي إلى إحداث «مفاعيل على النظام» ويؤكد على تصميم إسرائيل ـ بالرغم من أنها لن تنجح في إنهاء حربها مثلما يدعو كلوزفيتز أي تحقيق «انتصار حاسم» ـ على تدمير كل شيء ومن دون خوف من العقاب وذلك بفضل الضوء الأخضر الذي حصلت عليه تل أبيب من الولايات المتحدة (والمجتمع الدولي).. أو باختصار تصميم إسرائيل على التسبب برعب جماعي للمدنيين عبر المغالاة في استخدام القوة.
ب ـ من جانب حزب الله: «قاوم، يقول»
إذا كانت إسرائيل تريد لحربها أن تكون مرئية، فإن حرب حزب الله كتب لها أن تجرى بعيدة عن الأنظار، بدءاً بالتحضيرات التي جرت في الخفاء حيث نجح الحزب في إقامة بنية تحتية محكمة لهذه الحرب. فقد حفر الأنفاق وأمّن مسالكها وأحكم تجهيزها وإخفاءها بعيداً من أنظار إسرائيل أو الولايات المتحدة. وهذا بحد ذاته كان إنجازاً له طعم الانتصار. ولقد خيضت الحرب في الخفاء أيضاً، إذ ان حزب الله أراد خوض «حرب ظلال وحركات» حيث استغل عنصر المفاجأة ولجأ إلى التحركات السريعة والمنظمة والصامتة والمتعرّجة للمقاومين الذين كانوا يظهرون على نحو مفاجئ ويختفون أيضاً على النحو عينه.
وهكذا أثبت حزب الله أنه قادر على إدارة ميليشيا تتمتع بالفعالية والسلاسة والخفة التي عادة ما تميّز الميليشيات، كما أثبت الحزب، لا عبر صواريخه فحسب، أنه يتمتع بخواص الجيش النظامي والقوة الموجّهة والمنظمة وأنه منظمة فائقة المهنية والاحتراف من حيث الهيكلية التسلسلية والتسلح والقدرات القتالية، كما أنه منظمة تقوم على إيديولوجيا ثابتة ومتمرّسة.
قد نجد كل هذه الميزات في السجل العسكري لبعض حركات المقاومة الشعبية، ولكن ما يتمتع به حزب الله يؤكد على أصالة لافتة، إذ نجح عبر سلوكه المقاوم في خوض حرب متحركة ـ متنقلة داخل نطاق محصور. كما أن إسرائيل واجهت مشكلة لم تعرف مثيلاً لها من قبل. ففي الماضي تورطت في حروب كلاسيكية حيث واجه الجيش الإسرائيلي جيوشاً نظامية وحتى أثناء اجتياح لبنان عام 82 كانت المواجهة من النوع الكلاسيكي بما فيها حصار بيروت . فالحرب الخاطفة أو الحصار انتهيا بنجاح آنذاك. ولكن منذ ذلك الوقت، ومع ظهور حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين ـ بدأت إسرائيل مثلما حصل مع الولايات المتحدة في العراق ـ تعاني المشكلة نفسها التي تتمثل بمواجهة مجموعات صغيرة نسبياً ومتشابهة تناضل ضمن مساحات مقفلة أو محظورة.
إن نصر حزب الله هو نصر استراتيجي لأنه يعتبر فاتحة لحروب مستقبلية، ولأنه يضع الجيش الإسرائيلي في موقع إعادة النظر في قدرته على الرد على مختلف أنواع التهديدات وأنماط الحروب أو ما يعرف بـ«القدرة الرادعة». وإذا كان الجيش الإسرائيلي قادراً على الرد على كافة الاعتداءات بدءاً بالهجمات النووية، وصولاً إلى الحروب التقليدية، فإننا نلاحظ أن هذا النوع الجديد من الحروب يطرح مشكلة جوهرية يغذيها خوف إسرائيل مما يمكن أن يتولد عن هذا الوضع الجديد من إثارة شكوك قد تؤدي إلى الحد من اعتماد كثير من الدول على جيشها باعتباره قوة إقليمية في المنطقة.
لكن على الرغم من التغيير الذي أحدثه هذا النصر، فهو يبقى نصراً بالنيغاتيف (نسبة إلى نيغاتيف الصورة). إنه كذلك لسببين أساسيين يخيّمان بقوة على سياق الأحداث: أولاً، إنه نصر «بالنيغاتيف» لأن الذين أنجزوه هم ممانعون أكثر منه مقاومون. علماً أن ما تمكن حزب الله من إنجازه هو «عرقلة» المشروع الإسرائيلي و «إفشال» المخططات الإسرائيلية و«منع إسرائيل من تحقيق «أهدافها».. ولكن تكرار الإعلان عن النصر صبّ في خانة «النيغاتيف»، لأنه صحيح أن حزب الله يصبو إلى تحقيق النصر، ولكن المشكلة تكمن في أن يكون للحزب أهداف متطابقة سلبياً مع أهداف العدو. ففي حين ترغب إسرائيل في تفكيك حزب الله.. لا يريد الحزب، أو لا يمكنه أن يرغب، في تفكيك إسرائيل. إنها حرب غير متوازنة، وهذا ما يقودنا إلى السبب الثاني الذي يمكن التعبير عنه بتكرار ما كتبه تيتوس ليفيوس عن هنيبعل في كتابه «تاريخ الرومان»: «قد يحدث ألّا تعطي الآلهة كل شيء لإنسان واحد، فالذي يعرف كيف ينتصر قد لا يجيد الاستفادة من هذا النصر»، لأنه من أجل الاستفادة من النصر لا بد أن تكون القوة المنتصرة هي قوة إقليمية. ومن هنا أتت خشية بوش (وبالتالي الولايات المتحدة وأتباعها) من أن تستغل طهران المكسب الاستراتيجي لنصر حزب الله: «في علبة الأدوات الإيرانية، تبين أن حزب الله أداة مفيدة» وقوله إن «لبنان والعراق هما جبهتان لحرب واحدة «ضد الإرهاب الذي تدعمه إيران». وقد تساءل بوش علناً «ماذا كان النزاع (مع حزب الله وإيران) ليثمر لو كانت إيران تمتلك السلاح النووي الذي تسعى لامتلاكه؟».
(حلقة ثانية وأخيرة)
* فيلسوف وكاتب