كرم الحلو *
وقف الجميع مذهولين، أصدقاء وأعداء، إزاء البطولات الخارقة التي واجه بها المقاومون اللبنانيون أحدث الترسانات الحربية وأعتاها، مسجلين انتصاراً تاريخياً لا يقلّل من حجمه ومغزاه وتاريخيته مدى الأذى والخراب الذي ألحق بلبنان واللبنانيين. هذا الانتصار وإن يكن قد شكل مفاجأة غير محسوبة في زمن التراجع والتنازل والاستسلام، ونبتاً غريباً على هامش الهزائم والانكسارات العربية المتتالية منذ دخول العرب الزمن الاسرائيلي، إلا انه ليس استثناء في التاريخ العربي الحديث والمعاصر الذي يشهد منذ القرن التاسع عشر حركات جهادية قدم فيها العرب تضحيات كبرى أكدت شجاعتهم وإصرارهم وتفانيهم في الدفاع عن قضاياهم الوطنية والقومية والدينية والاجتماعية. فقد عرف لبنان في القرن التاسع عشر عاميّات شعبية استبسل مناضلوها حتى الاستشهاد في مقاومة الإقطاع السياسي الجائر. وقبل قرن وربع قرن استطاعت الثورة المهدية في السودان، وبتسليح بدائي، أن تهزم جيوش الامبراطورية البريطانية وأن تحتل الخرطوم، وقدّمت الثورة العرابية في الآونة نفسها صورة مشرقة من صور الكفاح السياسي والاجتماعي والوطني. وكذلك كان القرن العشرون ميداناً لحركات جهادية شعبية وقومية ووطنية قدم فيها العرب ملايين الشهداء في فلسطين ولبنان والعراق ومصر والجزائر واليمن والسودان. لكن نظرة إجمالية الى الواقع العربي تبين ان المحصلة على رغم كل هذه التضحيات، وعلى رغم كل ذلك القهر والمعاناة، كانت محبطة بل مخيّبة. فالثورة المهدية في السودان لم تستطع الاستمرار أكثر من ثلاث عشرة سنة، وثورة عرابي في مصر سقطت بصورة مدوية بعد أقل من سنتين على قيامها، وانتهت ثورة المليون شهيد الجزائرية الى حرب المئة ألف قتيل الأهلية، كما انتهت الثورة الناصرية بعد رحيل عبد الناصر الى اتفاقات كمب ديفيد المذلة، وخلصت الثورة الفلسطينية الى اتفاق أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية التي انتهكت حقوق الإنسان في ظلها بأقبح مما جرى تحت الاحتلال الاسرائيلي، وبيروت التي أبدت بطولات خارقة في دحر العدوان الاسرائيلي في ثمانينيات القرن الماضي، لم تلبث ان تحولت الى سوق تجاري مفتوح لكل الصفقات والمساومات، وعراق الثوارت الوطنية الباسلة انتهى الى احتلال يمعن في تدميره وتفكيكه، ويمن الشعارات الثورية الباهرة انساق الى حرب أهلية قبلية مدمرة. إزاء كل هذا الإحباط وكل هذه الخيبات، تبدو تضحيات شعوبنا العربية وبطولاتها ودماء شهدائها، وكأنها قد ذهبت سدى أو تكاد، فلماذا لم يرقَ العرب من كل هذه التضحيات العظيمة الى بناء دولتهم الموحدة القوية ومجتمعاتهم المحصنة وثقافتهم المبدعة؟ لماذا ينتصرون في معركة الجهاد والمقاومة ويخسرون معركة بناء المجتمع والدولة، والوطن والأمة.
هذا الإشكال الكبير عائد في نظرنا الى ان معركة المقاومة لم تتحول الى ثورة سياسية وقومية واجتماعية واقتصادية وثقافية، ما مثّل إعاقات كأداء حالت دون انتصار العرب في المعركة القومية والوطنية. فالمقاومة لم تتحول الى ثورة اقتصادية مصحوبة بتبدل جذري في الانتاج. وما برح العرب عالة على غيرهم في قوتهم ووجودهم، يستوردون 75 في المئة من غذائهم و90 في المئة من سلاحهم و95 في المئة من علومهم الحديثة. وفيما يبقى الدخل القومي العرب الاجمالي دون دخل دولة أوروبية متوسطة الحجم كإسبانيا، يرزح المجتمع العربي تحت الفقر والأمية وتُبدَّد الثروات العربية على شراء أسلحة عقيمة وتكنولوجيا استهلاكية وتُستنزف الطاقات العربية من دون جدوى. ولم تتحول مقاومة الاستعمار والاحتلال الى ثورة سياسية، فعلى رغم انفتاح العرب منذ رحلة رفاعة الطهطاوي الى باريس عام 1826 على قيم الغرب الليبرالية والدستورية.ولم تتطور المقاومة الى ثورة قومية تؤطّر العرب في انتماء قومي وحدوي عربي، ففيما يتجه العالم نحو التكتلات السياسية والقومية الكبرى لم يفلح العرب بعد في تجاوز مجاميعهم العصبوية في اتجاه إقامة حد أدنى من التكتل القومي، وبعد أكثر من قرن على دعوة نجيب العازوري الى وحدة الامة العربية، ودعوة أنطون سعادة الى وحدة سوريا الطبيعية، ثم مناداة أمين الريحاني وقسطنطين زريق بالوحدة العربية الشاملة، وبعد قرابة قرن ونصف قرن على دعوة بطرس البستاني وفرنسيس المراش الى انتماء وطني منزّه عن الطائفية، يظهر العالم العربي، مطلع هذا القرن وكأنه عصي على الاندماج القومي والوطني، مهدّد بالحرب الأهلية والنزاعات الما قبل قومية والما قبل وطنية. ولم يحسم الفكر العربي بعد أيّاً من الأسئلة النهضوية المربكة، من سؤال الحداثة الى أسئلة العقل والدين والحكم والتقــــــدم والغرب والمرأة، فضلاً عن علاقة هذه الأسئلة بعـــــضها ببعض وبالتحديات التي تطرحها الثورة العلمية والمصــــــرفية المعاصرة، بينمـــــا يبدو العـــــقل العربي مطلع هذا القرن محاصراً بعقل القرون الوسطى وفكرها الظلامي.
*كاتب وباحث لبناني