امين محمد حطيط *
كانت حرب تموز 2006 المفصل التاريخي الذي فضح من غير التباس حكومة أنتجتها جريمة 14 شباط عبر تجمع يطرح الشعار ويمارس نقيضه .
فقد طرحوا السيادة والاستقلال، ورهنوا «الدولة» للوصاية الأميركية وطرحوا بناء الدولة، ولكن كان أول منجزاتهم تعطيل مؤسساتها، وطرحوا تطبيق الطائف بما فيه من المشاركة والتوازن بين الطوائف التي تؤمنها حكومة الوحدة الوطنية أو الوفاق الوطني، ومارسوا التفرد والاستئثار لكونهم تياراً حاكماً لا يشكل مجموع طائفة، كما أنه لا يمثل أكثرية شعبية، فكان واضحاً حكم الأقلية البعيد عن حكومة الوفاق الوطني، حكم تجلت ممارسات متقلديه الاستئثارية عبر تهميش الكتل واستبعاد الفئات اللبنانية الأخرى ضمن الممارسة التي تسلسلت كالآتي:
ــ أولاً: انطلقوا من الداخل السني، في عملية إلغاء لكل من ليس في تيارهم، وكانت أسوأ عملية إلغاء عرفها الشارع السني منذ استقلال لبنان لم ينجُ منها إلا من احتضن من كتلة انتخابية لا تتأثر بأهواء هذا التيار (4نواب من أصل 27 نائباً)، فجاء الاستبعاد في الانتخابات إلى الحد الذي رمى فيه هذا التيار إلى حصرية التمثيل السني بحيث لا يكون فاعلاً في الحياة السياسية برأيهم أي صوت سني سواهم، وهو ما أدى إلى تهميش زعامات تاريخية (رغم أننا لا نقر ولا نوافق على الوراثة السياسية، ولكن علينا أن نعترف بالواقع في لبنان)، وكذلك زعامات وطنية ناشئة من بطون الكتب والفكر وبعد النظر، وحتى يكمل الخناق على هؤلاء كان الاجتثاث المتدرج لهم في الإدارة والشارع عبر التضييق والتهويل، بمراقبة وزارة المال بعد أن أدركوا أن الشارع السني بمعظمه من الاقتصاديين الذين يتأثرون بهذه المراقبة التي قد تكون كيدية.
ــ ثانياً: وكانت المحطة الثانية في تهميش المسيحيين وإبعادهم عن السلطة عبر تقسيم تمثيلهم إلى جزءين، حيث فرضوا عبر مناطق ذات أغلبية يمسك بقرارها نواب الجزء الأول مستغلين قانون انتخاب يتيح لهم وللمال الذي يملكونه إضافة إلى العاطفة الشعبية الناتجة إثر الجريمة، يتيح لهم التحكم بنتائج الانتخابات. أما الفريق المسيحي الذي كانت صفته التمثيلية سليمة وفقاً للقواعد المراعاة في لبنان، فقد استبعد عن الحكومة، وهذا ما قاد إلى واقع يكون فيه المسيحيون إما ملحقين تابعين لا قيمة لرأيهم أو لقرارهم (ما خلا الفائدة الشخصية الكبيرة للتابعين يجنونها على حساب الوطن، عامة وطائفتهم خاصة)، وإما مبعدون لا ينصت لقولهم أو لتمنياتهم، أي خلاصة الأمر: لا وجود فعلياً للمسيحيين في القرار على طاولة مجلس الوزراء الذي هو حسب الدستور الممارس للسلطة التنفيذية. وحتى تكتمل خطة التهميش والعزل، حاصروا رئيس الجمهورية (الموقع المسيحي الأول والمعتد به لتأمين التوازن في السلطة والحكم)، بدعم من الخارج الذي يريد أن يقيم في لبنان حكم اللون الواحد ، ثم أقدم رئيس الحكومة على تجاوز رئيس الجمهورية وقيامه بتصرفات على غير ما يعطيه الدستور من صلاحية، إلى الحد الذي بدا في النظر العام أنه هو رئيس الدولة، وأتاح للرئيس بوش (رئيس الولايات المتحدة الأميركية ــ سلطة الوصاية الجديدة على لبنان) أن يقول عبارته الشهيرة: «ندعم لبنان بقيادة السنيورة»، أي إن رئيس الحكومة أصبح هو «قائد» لبنان بنظر الوصي، وطبعاً لا مكان لهذا القول في بند أو عبارة ضمنية أو صريحة في الدستور. وكانت وقاحة فرنسا أشد هولاً من ذلك، إذ إنها أملت على منظمي مؤتمر رؤساء الفرنكوفونية (رومانيا) أن يوجهوا دعوة الحضور إلى رئيس الحكومة بدل رئيس الدولة.
ــ ثالثاً: المحطة الثالثة كانت في ساحة الطائفة الشيعية، إذ انطلق التجمع عبر رئيس الحكومة، مباشرة أو مداورة إلى تجاوز كل وزارة في الدولة أو ادارة لا يكون على رأسها شخص من التيار الحاكم، إما بخلق الجهاز أو الإدارة الموازية أو بإفراغ الإدارة من صلاحياتها ونقلها من غير وجه قانوني إلى إدارة أخرى يقبض عليها تابع لهذا التيار. ولأن تهميش المسيحيين أغناهم عن الوزرات والإدارات التي يديرها هؤلاء لأن القرار الفعلي ليس بيدهم بل بيد التيار الحاكم، فقد كانت العقبة الحقيقية أمام النزعة الاستئثارية التسلطية متمثلة في المسلمين الشيعة، وهي عقبة ذات أبعاد ثلاثة(كما يفهمها أصحاب ذاك التيار )، أولها وجود سلاح المقاومة، والثاني وجود الكتلة الشيعية المتحدة في السلطة، والثالث وجود الكتلة الشعبية الشيعية المتميزة من حيث الحجم الديموغرافي والانتشار الجغرافي، وقد عول الفريق الحاكم على القرار 1559 للتخلص من السلاح، ولما فشل في رهانه انتظر «الفرج» على يد الإسرائيلي في عدوانه، ولما فشل هو الآخر راح يبحث هذا الفريق عن طرق أخرى، يعالج بها ما هو أسهل، وجاءت الخطة الجديدة كما يبدو أو كما بات واضحاً كما يلي:
ــ المقاومة فُرض حصار عليها، إلى «حد خنق الأنفاس»، وكان النفاذ من التباس وغموض في القرار 1701، فعُقدت اتفاقات ثنائية مع «الاصدقاء في الحلف الاطلسي» لجعل هذه المقاومة عاجزة عن استعادة ما استهلكته في الحرب، ثم المتابعة بعد ذلك، كما يحلمون، للتطويق التجزيئي لخلايا المقاومة وصولاً إلى تجريدها من السلاح... لكن الخطة هذه سقطت بعبارات سيد المقاومة في مهرجان الانتصار: «المقاومة اليوم أقوى من أي يوم مضى، عدداً وتسليحاً وخبرة»، فإذا عطف هذا الكلام على كلام الإسرائيليين الذي يقول: «لا يوجد جيش في العالم قادر على تفكيك حزب الله «علمنا هنا مدى مأزق التيار الحاكم الذي ما زال يمني النفس بالمستحيل ، وهو أمر مذهل، إذ في حين ما زال الاحتلال قائماً في الجنوب، في مزارع شبعا ومناطق أخرى دخلت إليها إسرائيل بعد وقف الأعمال العسكرية بمقتضى القرار 1701، وفي حين تحاول إسرائيل ابتزاز لبنان بشأن انسحابها من هذه النقطة أو تلك، وتتعامل مع الأمر بشكل استفزازي مطمئنة إلى أن المقاومة لن تبادر في القريب المنظور إلى تحريك الوضع عسكرياً هناك لطرد الاحتلال، نجد أن تيار التسلط هذا لا يجد حديثاً إلا القول بأن حكومته هي التي أوقفت الحرب وحررت الأرض، وإن السلاح يجب أن ينزع... من دون أن يذكر أحد من هذا التيار ما يجــــري في الجنوب، فالمهم لديهم هو السلـــــطة، والاستئـــثار بها، وبعــد ذلك الطوفان.
ــ أما المناصب التي يتقلدها الشيعة، فقد قامت الخطة على تجاوزها أو إفراغها من محتواها، وكان البدء في وزارة الخارجية، حيث تجاوز رئيس الحكومة الوزير الشيعي في معظم الأمور، ومارس مهام الوزير بنفسه أو عبر موظفين أو حتى مستشارين، وأصبح أيضاً بالنظر للخارج هو رئيس الدولة ووزير خارجيتها، ثم كانت المحاولات في وزارات الكهرباء والعمل (وفشلت لكنها لن تتوقف)، وبعدها كان دور صندوق الضمان الاجتماعي، ثم جاء دور مجلس الجنوب (وهنا لا أدافع عن هذا المجلس كما انني لا أستطيع أن اقبل الاتهامات المسوقة ضده من غير إثبات)، إذ ضيق عليه إلى حد الشلل التام، ولما جاء دوره بعد الحرب أوكل أمره إلى هيئة لا تملك من صلاحيات المجلس شيئاً بمقتضى القانون، ونصبت عليه وعلى سواه راعية، لا بل بديلة من غير نص تشريعي، بل هي إرادة رئيس الحكومة وكفى. ثم كانت الطامة الكبرى في الأمن العام، إذ إن السلوك حياله تجاوز كل حد من حدود الخجل أو الحذر من مخالفة القانون، حيث جاء القرار الوزاري 2403وما تبعه من تدابير مثالاً صارخاً على مقدار «احترام التيار الحاكم» للدستور والقانون، إذ سمح الوزير لنفسه بأن يخضع مديرية عامة، أنشئت لتضع ما تحصل من معلومات بتصرف الحكومة، استسهل الوزير الأمر وربط معلومات المديرية العامة تلك بفرع من شعبة من مؤسسة من المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، ثم يصدح الجميع باحترام الدستور والقانون .
ــ يبقى الشعب، فلا بأس من التضييق عليه وفقاً لرؤية التيار الحاكم، فأثناء الحرب منعت المساعدات على من خرج من بيته، الذي هدم، وأُعطيت لمن أجر بيته بمئات الدولارات شهرياً وكانت الهيئة العليا للإغاثة، مميزة في أداء دور منع المساعدة عن مستحقها، وعندما توقفت الأعمال الحربية، حاول التيار الحاكم بشتى الوسائل منع النازحين من العودة إلى ديارهم، وبعد ذلك حبست الأموال الآتية من المساعدات أو كانت محاولة لإنفاق البعض منها خارج المناطق المتضررة من الحرب، في البدعة الغريبة التي قالت بتخصيص أموال المساعدات التي أتت لإعمار ما دمرته إسرائيل، لتنفق في غير مواردها، ولن نسهب هنا، فالأمر معروف، أضف إلى ذلك عرقلة السعي المخلص من الخارج والداخل الرامي إلى إزالة آثار العدوان عمرانياً وبنيوياً.
نقول للتيار الحاكم: إن لبنان لن يكون جنوب أفريقيا العنصرية، ولن تقوم فيه سلطة الأقلية، حتى ولو امتلكت هذه الأقلية أغلبية برلمانية توصلت إليها بكل السبل غير المألوفة ديموقراطياً من مال سياسي، وتجييش للغرائز واتفاقات احتيالية. وإن لبنان، بلد التعدد، لا يمكن أن يكون بلد حكم الفئة الواحدة المستأثرة بالسلطة، وإن هذا النهج هو قطعاً لا يقود إلى بناء دولة، بل هو إنتاج للتسلط، والتسلط إن قبل ينتج العبيد، أما الأحرار فإنهم لا يقبلون تسلطاً، فمن ضحى بالغالي والنفيس ليحرر أرضه وإنسانه، فلن يقبل في غفلة من الزمن وجود من يسلبه هذه الحرية والكرامة. لذا نقول للتيار الحاكم: الأولى لكم أن تعودوا إلى الصواب، ففيه نجاة الوطن وبناء الدولة، اما الاستمرار في تجاهل الآخرين وهم الأكثرية، فإن فيه الخطر على المتسلط ذاته أولاً ثم على الأمر المتنازع عليه. ابنوا دولة لأبنائها، ولاتفكروا بسلطة أحادية الفئة والمصالح لأنها قطعاً لن تستمر.
* عميد ركن سابقاً في الجيش