نزار صاغيّة *
منذ بدء حرب تمّوز 2006، أبدت المنظّمات الحقوقيّة الدوليّة ــ وأبرزها منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس واتش والفيدرالية الدولية لحقوق الانسان ــ اهتماماً بالغاً بأحداثها. وقد عبّرت عن هذا الاهتمام بأساليب مختلفة، منها، أولاً بيانات التنديد أو الإعراب عن مطالب أو مخاوف، الصادرة عنها بشكل شبه دوري، وثانياً التذكير بأحكام القانون الدولي كـ«مجموعة الأسئلة والأجوبة» الصادرة عن هيومان رايتس واتش وأيضاً «القواعد الملزمة دولياً» الصادرة عن منظمة العفو الدولية، وثالثاً الرسائل الموجهة الى الدول أو الأطراف المعنيين، ورابعاً التقارير التي تصدر نتيجة تحقيقات ميدانية، علماً بأن هيومان رايتس واتش كانت السبّاقة في هذا المجال، فيما باشرت منظّمة العفو عملها وتتهيّأ الفيدراليّة الدوليّة لذلك.
وفي سياق أعمالها، أعلنت المنظّمات المذكورة التزامها الحيادية وأن خير ضمان لذلك حصر أعمالها بمراقبة مدى التزام أطراف الحرب لقواعد «الحرب العادلة»، في معزل عن مدى شرعيّة اللجوء إليها. فأن تحصر أعمالها على هذا الوجه يجنّبها الخوض في جذور النزاعات الدائرة (السياسة) ويجعل عملها ــ وهذا هو الأهمّ ــ تقنيّاً صرفاً. وهذا ما عبّرت عنه بوضوح منظمتا هيومان رايتس واتش والعفو الدولية في مستهلّ الإرشادات الصادرة عنهما والمذكورة أعلاه.
وما ترومه هذه المقالة هو تحديداً إجراء تقويم أوّلي لأعمال هذه المنظمات، وخصوصاً من زاوية مدى التزامها الحياديّة. ولهذه الغاية، يقتضي أولاً التدقيق في مدى التزامها حدود اختصاصها (أي حدود التقنيّة القانونيّة في وصف الأعمال الحربيّة)، قبل أن أتناول مدى فاعلية التقنيّة القانونيّة في ضمان الحيادية «المعلنة»، سواء عند تقويم الأعمال الحربيّة أو عند إبرازها أو إدانتها. وإذا بدت هذه المقالة نقدية لبعض جوانب عمل هذه المنظمات، فإن الموضوعية تقضي في المقابل بالاعتراف أن بعضها كان رائداً في أداء شهادة ثمينة في جرائم حرب كبرى معزوّة لاسرائيل، أبرزها مجزرة قانا. وهذا ما سأعاود التذكير به عند الاقتضاء أدناه.
مدى التزام المنظّمات اختصاصها «الحقوقيّ»
في هذا المجال، نلحظ أن منظّمتي هيومان رايتس واتش والعفو الدولية التزمتا على طول البيانات والتقارير الصادرة عنهما ــ على الأقل ظاهراً ــ حدود اختصاصهما، وذلك بخلاف الفيدرالية الدولية لحقوق الانسان التي أبدت ميلاً طبيعياً للتعبير عن آرائها السياسية على نحو يقارب الراديكالية أحياناً!
ولعلّ أبرز الخروقات في هذا المجال ما ورد في بيانها المؤرّخ في 31 تمّوز حيث أوردت حرفيّاً في سياق حديثها عن مناخ اللاتسامح: «ولا مجال لإنكار الدّور البغيض الذي تلعبه إيران وسوريا الخاضعتان لنظامين لا يحتملهما شعباهما، فكيف بالأحرى شعوب الآخرين؟».
واللافت أنها أعلنت هذا الموقف غداة مجزرة قانا، كأنها تستحضر «ما هو سياسيّ» بعدما بلغت جرائم اسرائيل حدّاً يصعب معه التوازن في ظل القانون وحده! ومن يقرأ بيان المنظمة جيداً، يدرك أنها تستشفّّ من كرهها للنظام الإيراني دليلاً كافياً على كره الشعب الإيراني له، خلافاً لما أكدته نتائج الاقتراع!
وفي الاتّجاه نفسه، أقرّت المنظّمة في بياناتها بحق اسرائيل في الدفاع عن نفسها ردّاً على أسر جنودها في غزة وشمال الأراضي المحتلة، وإن اعترضت على تجاوز مبدأ التّناسب بين الاعتداء وردة الفعل، وذلك تماشياً مع موقف الاتّحاد الأوروبيّ. وتلوّنت اقتراحاتها يومي 17 و 20 تمّوز بألوان سياسيّة واضحة، ولا سيّما في ما يتّصل بمطالبة مجلس الأمن بتفويض قوّة دوليّة حفظ الأمن في الجنوب وضمان سيادة لبنان! فكأنها تستعيد بذلك النظرية القائلة إن وجود حزب الله يخلّ على السواء بالسيادة اللبنانية وبالأمن. هذه هي أبرز الملاحظات في شأن مدى تقيّد المنظّمات باختصاصها. بقي أن نتناول مدى حياديتها في تقويم الأعمال الحربية ثم في إبراز جرائم الحرب وإدانتها.
مدى الحياديّة في تقويم الأعمال الحربيّة
من المعلوم أنّ ثمة مشكلات تعترض تقويم الأعمال الحربيّة لجهة شرعيّتها. وبعض هذه المشكلات ينجم عن التباين في تفسير النّصوص القانونيّة كما هي الحال في عملية أسر الجنود أو شرعية الأسلحة المستعملة، فيما ينجم بعضها الآخر عن المنازعة في الوقائع المحيطة بهذه العملية، مما يفرض التثبت من صحتها قبل إبداء الرأي، كأن تدلي اسرائيل، رداً على اتهامها باستهداف مدنيين، أن حزب الله هو الذي يتخذهم دروعاً بشرية! وهذا ما سأحاول عرضه أدناه مع التركيز على مقارنة حجج المنظّمات تقويماً لبعض الأعمال الحربية وما تحتمله هذه الأعمال من تفسيرات مختلفة.
ففي شأن عمليّة أسر حزب الله للجنديين الاسرائيليّين، تتفق منظّمتا هيومان رايتس واتش والعفو الدوليّة على عدّها عملية أخذ رهائن وتبعاً لذلك جريمة حرب، مستندتين في ذلك إلى تصريحات السيد حسن نصر الله المحددة لهدف العملية بتحرير الأسرى اللبنانيين. وهذا الموقف يرجّع بالواقع مواقف المنظّمتين إثر أسر الجندي الاسرائيلي في غزّة على خلفيّة إعلان آسريه استعدادهم للإفراج عنه مقابل الإفراج عن ألف سجين فلسطيني، مع العلم بأن الجندي المذكور كان ينشط في أعمال حربية في أراض فلسطينية محتلّة! لا بل إن منظّمة العفو الدوليّة ذهبت آنذاك الى حد المطالبة بالإفراج فوراً عن الجندي الأسير، من دون أي إشارة الى آلاف المعتقلين الفلسطينيين في سجون اسرائيل! وقد استندت المنظّمتان الى المادة الثالثة من معاهدات جنيف التي تتضمّن الحدّ الأدنى من الأعراف الواجب التقيّد بها في أي ظرف درءاً للجرائم الأكثر خطورة ومنها عدم أخذ رهائن.
والواقع أن هذا الرأي لا يستقيم البتّة لو قاربنا العمليّة من منظار مختلف، أي انطلاقاً من الظروف الموضوعيّة لعملية الأسر.
فالجنود الأسرى ينتمون الى جيش دولة محتلّة وفي حالة حرب مع بلديْ الآسرين، وتالياً يكون أسرهم عملاً مشروعاً تماماً كما هي حالة أسر أي مقاتل على أن يُعاملوا بالطبع معاملة أسرى حرب وفقاً للقوانين والأعراف السّائدة في هذا المجال. ووفقاً لهذه القراءة، تعدّ تصريحات الجهات الآسرة ــ التي استندت إليها المنظمتان ــ مجرّد تعبير عن غايات هذه الجهات من دون أيّ تأثير على مشروعيّة الوسيلة (أي عملية الأسر)! وهذا ما أكّده الصليب الأحمر الدوليّ، وهو الراعي الأساسي لتطبيق معاهدات جنيف (قوانين الحرب)، في قضيّة مشابهة تماماً. فعندما أسر الجيش الصّربي في البوسنة خلال عام 1994 أربعمئة عنصر تابع لقوى الأمم المتحدة بغية ثنيها عن شنّ غارات جويّة، اعترض الصليب الأحمر على موقف الأمم المتحدة بعدّهم رهائن مؤكّداً أنهم أسرى حرب ما دامت الأمم المتحدة قد باتت طرفاً في الحرب منذ قررت شن غارات جوية على القوى الصربية! وهو بذلك بنى موقفه حصراً على الظروف الموضوعيّة لعملية الأسر في معزل عن تصريحات الجهة الآسرة أو مطالبها أو تصرفاتها اللاحقة للخطف.
وهذه القراءة تتوافق تماماً مع نصّ معاهدة جنيف لجهة تعريف الأسرى المقاتلين بأسرى حرب وأيضاً ــ وهذا هو الأهم ــ مع روحيّتها. فالمبدأ الأساسيّ لقواعد الحرب وتالياً للتمييز ما بين الأعمال المشروعة والأعمال المحظورة هو حصر أهدافها بإضعاف القدرات العسكرية للعدو. وعملاً بهذا المبدأ، تكون عملية أسر جندي للعدو حكماً مشروعة ما دامت ضمن إطار هذا الهدف. وما يؤكّد هذه القراءة أيضاً وأيضاً هو أن الادعاء أن أسر جنود (احتلال) يشكل إحدى أخطر الجرائم كما توحي به معاهدة جنيف في شأن أخذ الرهائن، إنما يقارب العبثيّة والسفسطائيّة القانونيّة ويهدّد بتقويض الانسجام في منظومة قوانين الحرب برمتها!
مع العلم بأن اتّفاق مناهضة أخذ الرهائن المنظم في 1979 يقدّم ــ هو أيضاً ــ دليلاً بليغاً في هذا المجال، فواضعو هذا الاتفاق أصرّوا على تضمين مقدّمته ما مفاده التأكيد على مبدأ المساواة وتقرير المصير للشعوب. وهذا ما أعادوا تكراره بقولهم إنّ هذا الاتفاق لا يسري على النزاعات التي تناضل فيها الشعوب ضد السيطرة والاستعمار والاحتلال الأجنبيّ ونظم الحكم العنصريّة ممارسةً لحقّها في تقرير المصير (الكلمات واردة حرفياً في المادة 12 من الاتفاق على نحو ينبّه بشكل لا أوضح منه الى روحية المعاهدة). وهذا ما عاود لبنان تأكيده عند إقراره عام 1997، إذ صرح حرفياً أن لا شيء فيه يؤثّر على حق لبنان بدعم حقوق الدول والشعوب في مقاومة الاحتلال، وذلك ربما للتحفّظ دون تطبيقه على أخذ رهائن في العمق الاسرائيلي... ممّا أثار اعتراضات اسرائيل آنذاك.
والتساؤل ههنا هو كيف ذهبت هذه المنظّمات الدوليّة ذات الخبرة الواسعة الى حدّ استكبار جريمة أسر جنديّ توصلاً الى عدّها ضمن الجرائم الأخطر، فيما ذهبت، في الوقت نفسه، الى استصغار حقّ الشّعوب في مقاومة جيوش الاحتلال متجاهلةً ما نصّت عليه الاتفاقات المعنيّة مرة ومراراً، استباقاً لأي انزلاق نحو تأويلات مناقضة لروحيّتها؟
ولعلّ أخطر ما في الأمر أن هذا الانزلاق قد شكّل غطاء حقوقيّاً للاعتداءات الاسرائيليّة، الى حدّ أنّ المنظمتين تجاهلتا تماماً السجناء المعتقلين في السجون الفلسطينية، فيما عكفت منظمة العفو الدولية وحدها إزاء استفراس جيش الاحتلال في القبض على وزراء ونواب (بينهم رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني) الى التساؤل عن أسباب احتجازهم وعما إذا جاز وصفهم بالرهائن بعبارات يتمنى المرء لدى قراءتها لو أنها لم تُقلْ. وهذا ما فعلتاه حيال القبض على أشخاص في بعلبك رغم تضافر أدلة عدة على كونهم مدنيين. والواقع أن هذا التفاوت في المواقف مريب جداً ولا سيما أن هاتين المنظمتين تعلمان جيداً أن أخذ الرهائن بات بالنسبة إلى اسرائيل سياسة دولة بنتيجة بعض الأحكام القضائية التي سوّغت في لحظة معينة احتجاز لبنانيين (ومنهم الشيخ عبيد والديراني) كعملة تبادل، ومنذ أصدر الكنيست قانوناً يجيز احتجاز أي شخص ينتمي الى منظمة تحارب اسرائيل، حتى لو لم يكن مقاتلاً وخلافاً لمعاهدة جنيف. وتصرّف المنظمتين على هذا النحو إنما يشكل مؤشراً إلى أن «الانزلاق» لا يقتصر على تأويل النّصوص أو فهمها بل ينسحب على اهتماماتها أو لنقل هواجسها الحاضرة.
وهذا الانزلاق تحديداً هو الذي دفع 25 منظمة حقوقيّة عربيّة الى اتّهام منظّمة العفو الدوليّة باعتماد منطق الحكومات والإدارة الأميركيّة، وذلك في بيان مشترك (2 تموز). فيما بقيت المنظمة على موقفها مكررة الاستشهاد بتصريحات الجهة الخاطفة، وعلى نحو يوحي، عن قصد أو غير قصد، قلب الأدوار بين الجلاد والضحية، ليس فقط في مجمل النزاع، بل حتى في قضايا أخذ الرهائن.
ومن الشواهد الأخرى على الحيادية في تقويم الأعمال الحربية، نشير الى بيان هيومان رايتس واتش عن استعمال اسرائيل قنابل عنقودية. فإذا كان للمنظمة فضل التأكيد أن اسرائيل استعملت هذه القنابل، فإنّها في المقابل خلصت الى القول إن هذه الأسلحة ليست محظورة دوليّاً في ظلّ القانون الإنساني الحالي وإن كانت تحبّذ حظرها! ومن هذه الزاوية، بدت كأنّها تعلن براءة اسرائيل في ظل القوانين الحاضرة، وأيضاً كأنها توحي أن القنابل العنقودية هي السلاح الاسرائيلي الأوحد المشكوك بشرعيته، متناسيةً الأسلحة التي تفوقها خطورة وعلى رأسها الصّواريخ الفراغيّة المستخدمة أساساً في هدم المباني أو ربما القنابل السامّة وفقاً لبعض التحليلات العلمية!
وسبب التساؤل هنا أنّ مشروعية هذه الأسلحة ــ بما فيها القنابل العنقودية ــ حالياً موضع نقاش واسع وأن عدداً من الدول ومن أساتذة القانون الدولي يعدّها محظورة على أساس المبادئ العامة الآيل الى منع استعمال الأسلحة التي تسبب أضراراً بشرية غير مجدية أو مجانية أو الأسلحة التي تسفر عن موت حتميّ لكلّ من يكون في محيط انفجارها، كما هي حال الصواريخ الفراغية. وهذه الآراء تستقيم تماماً في ضوء أرقام الحرب الحاضرة ولا سيما لجهة الجثث المفحّمة والعدد المرتفع للقتلى (ولا سيما المدنيون) بالنسبة الى الجرحى. وهذا ما أكّده بأية حال المرجع القانوني (Eric David) في صدد تعليقه على استخدام اسرائيل قنابل مماثلة في حرب 1982 في لبنان.
وأساس التساؤل في هذا الصدد هو: لماذا اعتمدت المنظمة تفسيراً مناقضاً لتطلّعاتها خلافاً لما دأبت عليه المنظّمات الحقوقيّة إجمالاً لجهة اعتماد الآراء والقراءات الفقهية الأكثر ملاءمة لرؤاهم في مجالات حقوق الانسان، في قضايا أقل أهمية، كحرية التعبير أو أصول المحاكمة إلخ؟
وختاماً، في هذا المجال، تجدر الإشارة الى مسألة أخيرة تتصل بالتريّث في تقويم بعض الأعمال الحربيّة حتى جلاء الوقائع المحيطة بها، كما هي الحال في شأن الأعمال الحربيّة المعزوة لاسرائيل والآيلة الى استهداف المدنيين والمنشآت المدنيّة في ضوء ما ساقته من حجج. وهذا ما نلمحه في بيانات منظمتي العفو الدولية وهيومان رايتس واتش في بدايات الحرب. وعدا أن هذا التريّث بدا في أغلب الأحيان غير مبرّر لوضوح الوقائع، فإنه أدّى على كل حال الى منح «فترة سماح» كافية للتدمير والتهجير في ظل تهامس حقوقيّ يقارب الى حد كبير صمت مجلس الأمن! وأسوأ ما في الأمر أن هذا التريّث في تقويم أعمال اسرائيل بدا مناقضاً لمظاهر الاندفاع في إدانة قيام حزب الله بقصف شمال اسرائيل بالكاتيوشا، من دون أي التفاتة الى حججه. فالكاتيوشا سلاح يفتقر الى الدقة، الأمر الذي يجعل استعماله من حزب الله، في رأي هيومان رايتس واتش، بأحسن الأحوال قصفاً عشوائيّاً وفي أسوأ الأحوال استهدافاً متعمّداً للمدنيين، وفي الحالتين جريمة حرب. وهكذا بدا قصف محطة القطارات في حيفا جريمة حرب أكيدة فيما عدّ قصف المطار والمرافئ والجسور والطرق والقرى والأحياء ووسائل الإعلام مسائل فيها نظر!! علماً بأن حزب الله أعلن أكثر من مرة أن قصف شمال اسرائيل لا يتقصد المدنيين وهو من باب ردّة الفعل وأن الحزب على أتم الاستعداد لوقفه فور توقّف اسرائيل عن عدوانها. فما هو إذاً سند إدانة الحزب؟ جواب المنظمتين: المادة 51 من البروتوكول الإضافي الأول لمعاهدة جنيف التي تمنع قصف المدنيين ولو من باب ردّة الفعل. وعلّة هذه الحجّة أنّ المنظمتين أعلنتا أن الحزب ملزم فقط أعراف الحرب، وأنّه يكون ملزماً البروتوكول الإضافي فقط إذا كان مطابقاً لهذه الأعراف. فما الذي حمل المنظّمتين على اعتبار القصف بالكاتيوشا ردّة فعل وبالتناسب مع الفعل محظوراً عرفاً، في ظلّ قانون دولي يسمح صراحة باستعمال السلاح النووي، بما يدمّره من مدن، كردّة فعل؟ أليس من الأحرى القول خلافاً لذلك إن ردع الاعتداء بما يماثله هو القاعدة العرفية بل إنه يشكل مؤسسة عرفية بامتياز وفقاً لما يوحيه بعض أساتذة الفقه القانوني في هذا المجال؟
* محام لبناني
حلقة ثانية وأخيرة غداً

السؤال مفتوح، إنما المنظمتان ارتأتا تفاديه كلياً: ربما انحيازاً منهما لحماية المدنيين! ولكن على نحو يخالف حذرهما في شأن شرعيّة أسلحة اسرائيل وأعمالها الحربية ككلّ. وأهم من ذلك، على نحو يجرّد حزب الله من إمكان ردع الآلة الاسرائيلية بحجة أن أسلحته ليست دقيقة! فهل أصبحت حقوق الردع حصراً في الدول الكبرى ذات القدرات النووية، بما فيها اسرائيل، فيما يمنع عمّن كانت أسلحته بحاجة الى تطوير؟ وهذا ما يسمح لي بالانتقال الى تقويم مدى الحيادية في إبراز جرائم الحرب وإدانتها.
مدى الحياديّة في إبراز جرائم الحرب وإدانتها
في هذا الصدد، نلحظ إجمالاً سعياً للمنظّمتين الى الظهور مظهراً متوازناً على أساس المنهجيّة المتمثّلة في تقويم الأعمال الحربيّة المعزوة لأطراف الحرب في ضوء القانون الدولي، مع التركيز على وجوب حماية المدنيين على جانبي الحدود. وهذا ما عبّرت عنه المنظّمتان في بياناتهما الأولى لتخلصا في بياناتهما اللاحقة الى توجيه الانتقادات للطرفين بما يوحي أنّهما، سواء في التعرّض للمدنيّين وانتهاك القانون الدولي، في معزل عن التفاوت الهائل في الأضرار والخلفيات والقدرات والمقاصد. وإذ دعت المنظّمتان الى التحقيق في جرائم الحرب المعزوة للطرفين، فإن منظمة العفو الدولية تفرّدت بالمطالبة بوقف تصدير الأسلحة إليهما.
وقد بلغ السعي الى التوازن أحياناً حدّ المزاوجة بين مسؤوليات ثابتة في ارتكاب مجازر عمداً ومسؤوليات افتراضية أو مسؤوليات سياسية خارجة تماماً عن النزاع. وهذا ما عبّرت عنه هيومان رايتس واتش في تضمين بياناتها حجج اسرائيل المتصلة بمسؤولية حزب الله (المفترضة) عن استعمال المدنيّين دروعاً بشريّةً أو القصف على مقربة من الأحياء السكنية. وهذا أيضاً ما عبّر عنه بيان الفيدرالية الدولية الصادر غداة مجزرة قانا حين ندّدت بنظامي الحكم «البغيضين» في إيران وسوريا في مسعى منها لاستعادة «زمام التوازن» كما سبق بيانه...
والواقع أن هذا التوازن بدا، مع تفاقم الإجرام الاسرائيلي، أمراً غير محتمل ما دام قد أدى عن قصد أو غير قصد الى تخفيف مسؤولية اسرائيل. فماذا يعني أن يُخاطب الطرفان باللغة نفسها في ظل التفاوت الشاسع في المسؤوليات والقدرات وفقاً لما يتحصل بشكل لا يقبل الجدل من أرقام الحرب؟ فعدد الضحايا المدنيين للقصف الاسرائيلي (ذي التحكّم الفائق) زاد على الألف ونسبتهم من أصل مجموع الضحايا في لبنان (بمن فيهم عناصر حزب الله) يزيد على 95 % فيما عدد الضحايا المدنيين في اسرائيل يقارب الأربعين بما لا يتعدى ثلث مجموع الضحايا. وهذا أيضاً ما تعكسه أعداد النازحين في لبنان التي تقارب المليون وحجم التدمير الهائل للأبنية والمنشآت المدنية. ففي حال كهذه، يصبح التوازن حكماً، وبأقل تقدير، استهزاء بالمنطق القانوني وبأصول العدالة، كمن يضع في سلة واحدة الذي يخرّب شعباً عن عمد وذاك الذي يخرب حقلاً أو بيتاً، بما يملكه من وسائل، من باب ثنيه عن الاستمرار في عدوانه. وما يزيد الأمر غرابة أن هذا التوازن «الحقوقيّ» بدا تجسيداً لكلمة سرّ «دوليّة» مؤداها السماح للجلّاد بالتعبير عن ساديّته وأطماعه على أرض الواقع كما يريد ومن دون أن يمسّه أي عقاب أخلاقي على أساس أن هنالك «الكلّ سواء».
لا بل ما يزيد الأمر إيلاماً هو أن بعض هذه المنظّمات أجاز لنفسه أحياناً الخروج عن حدود التوازن في اتجاه التمييز ضد الضحيّة، سواء في كيفية إبراز الانتهاكات المعزوة للطرفين أو حتى أحياناً في ألفاظ الإدانة. وهذا ما نتبيّنه بشكل خاص في بعض أعمال منظّمة هيومان رايتس واتش. ففي 18-7-2006، أي بعد أيام من بدء الحرب، أصدرت المنظمة بياناً بعنوان «قصف حزب الله لحيفا بصواريخ مصممة لقتل المدنيّين» حيث أعلنت أن القصف بالكاتيوشا جريمة حرب كما سبق بيانه. واللافت أن هذا البيان بإدانة حزب الله جاء بعد يوم واحد من قصف محطة القطارات في حيفا فيما كانت المنظّمة اكتفت بالتذكير بضرورة حماية المدنيّين (عبر مجموعة من الأسئلة والأجوبة) بعد أيام من القتل والتهجير والتدمير من دون أي إدانة مباشرة. ولهذا السبب بالذات، بدا البيان بإدانة حزب الله وتجاهله الأفعال الأشد خطورة وإضراراً والمعزوة الى اسرائيل، منحازاً، في معزل عن صحّة مضمونه بالنسبة الى قواعد القانون الإنساني كما سبق بيانه.
على الجملة، وإذا وضعنا جانباً بعض الجرائم التي قد تهمّ هذه المنظمات بشكل خاص لسبب أو لآخر، نلحظ لديها نقصاً في المبادرة في استكشاف الجرائم الأخرى على نحو سمح غالباً بالتمييز. فبيانات هيومان رايتس واتش عن ضرورة تأمين ممرات آمنة (20 و 21 تموز) جاءت، ليس بضغط المأساة الحاصلة على مدى أيام، إنما صدىً لمحاولات الأمم المتحدة في هذا الخصوص. وإن مسارعة المنظمات كافة الى إصدار بيانات إدانة لمجزرة قانا جاءت تبعاً للتغطية الإعلامية الدولية. وهذا ما يفسر مثلاً صمتها ــ أو على الأقل ضعف حماستها ــ في التعقيب على مجازر لا تقل وحشية كمجازر صريفا والقاع والشيّاح والزراريّة إلخ... وأيضاً تجاهلها لأعمال حربية أقل ظهوراً كاستعمال بعض أنواع الأسلحة المحظورة وفقاً لما ذكرناه أعلاه، أو أيضاً الإساءة للبيئة (تلوّث البحر مثلاً). وإن قلة المبادرة بلغت أوجها في تعاملها الخافت مع المسائل السياسية الحساسة كتدمير المربّع الأمني والمنشآت المدنية التابعة لحزب الله واستهداف قياداته على نحو بالكاد يخفي آراء مسبقة بشأن حزب الله ووجهة استعمال المباني الواقعة في المنطقة المذكورة، وذلك خلافاً للقاعدة القائلة إن الشك بهدف معين يفرض التعامل معه على أنه مدني. وهذا ما نلمحه أيضاً في تجاهلها استجواب أحد الأسرى المدّعى انتماؤهم الى حزب الله وخصوصاً تجاهلها قصف محطة «المنار» وإذاعة «النور» بما يتعارض تماماً مع اهتماماتها الفائقة بشأن حرية التعبير!
أما على صعيد التمييز في الإدانة اللفظيّة، فتجدر الإشارة الى بيان الفيدرالية الدولية الصادر في 17/7/2006، حيث بدت كأنها تميّز بين حزب الله (الذي تدينه بشدّة ــ Severely condemn) واسرائيل المتّهمة فقط بتجاوز مبدأ التناسب، رغم فظاعة الانتهاكات الموحى بحصولها في البيان نفسه وأبرزها اعتماد أسلوب العقاب الجماعي في التدمير والتهجير! وكذلك الأمر في ما يتعلق بالبيانات الصادرة عن هيومان رايتس واتش في الأسابيع الأولى للحرب بحيث بدت دوماً مستعجلة لاتهام حزب الله بارتكاب جرائم حرب فيما دأبت على انتقاء عباراتها عند مقاربة أعمال اسرائيل والموصوفة في أحسن الأحوال بأنها قد تشكل انتهاكات للقوانين الإنسانية الدولية. وإذا كان الفارق بين العبارتين لفظياً صرفاً في نظر الاختصاصيين، فلا يخفى على أحد أنه شاسع في مفهوم العامة. وهكذا كان على متابعي هيومان رايتس واتش أن ينتظروا بيانها عن مجزرة قانا كي يسمعوا أن اسرائيل ارتكبت جريمة حرب!