عصام نعمان *الغالب يرث كل شيء. المقاومة غلبت أميركا بأن أحبطت أغراض حرب إسرائيل على لبنان. من حقها، إذاً، أن ترث «موجودات»

أميركا في لبنان، وأن تعيد تنظيمها وتوظيفها في خدمة البلد. المفارقة أن أصدقاء أميركا في لبنان لا يعترفون بأن أميركا وإسرائيل غُلبتا وأن المنتصر الاستراتيجي هو المقاومـة. لذلك تراهم يسارعون، والحرب ما زالت قائمة، إلى مطالبة المقاومة بأن تسلّم سلاحها إلى الدولة بلا قيد ولا شرط سنداً لقرار مجلس الأمن 1701.

أية دولةٍ هذه التي يريد أصدقاء أميركا وحلفاؤها أن تسلّمها المقاومة سلاحها؟ إنها «دولة» قوى 14 آذار. الدولة العاجزة التي تنصّلت من المقاومة ومن عملية 12 تموز. الدولة التي لم تتصدَّ لحرب أميركا وإسرائيل على لبنان بل لجأت إلى جورج بوش وكوندوليزا رايس لإقناع إسرائيل بتخفيف وطأة حربها على بنى لبنان التحتية، وما تجرّأت على مجرد التبرّم من إصرار بوش، سحابة شهر كامل، على منع مجلس الأمن من إصدار قرار بوقف إطلاق النار.
لم يكن اللبنانيون، والإصلاحيون بينهم في شكل خاص، بحاجة إلى حرب تدميرية شاملة تشنها إسرائيل عليهم ليقتنعوا بأن لا دولة لديهم ولا ما يـحزنون. ما عايشوه على مضض بل عانوه على الدوام لم يكن دولة بل مجرد نظام أو آلية لتقاسم السلطة والنفوذ والأسلاب بين متزعّمي الطوائف، ورجال المال والأعمال، وقادة الأجهزة الأمنية والاستخبارات في الداخل والخارج. القائمون على هذا النظام ومشغّلو هذه الآلية ما أقرّوا يوماً بوجود خطر يشع من إسرائيل. لو فعلوا لكان توجّب عليهم أن يقيموا دولةً قادرة، ويبنوا جيشاً مقاتلاً، ويربّوا النشء تربيةً وطنيةً قوامها المواطنة الصحيحة، والذود عن الوطن، وتقديم الولاء له ولدولة القانون والحق على أي ولاء طائفي أو مذهبي أو فئوي.
لأن تأسيس دولة المواطنين، وبناء جيش وطني، وإشاعة تربية وطنية تعيق جميعها مشروع الطبقة السياسية الفاسدة التي ورثت عن سلطة الانتداب «دولة» عاجزة، فقد أحبطت هذه الطبقة بالقمع والعنف تارةً، وبالتواطؤ مع قوى أجنبية طوراً كل مساعي الإصلاح الجاد والتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الصحيحة.
إن حضور المقاومة وصعودها إن هما إلا نتيجة حتمية لغياب الدولة. لو كانت الدولة حاضرة خلال غزو إسرائيل للبنان عام 1978 واحتلال رقعة من أرضه، وغزوه عام 1982 واحتلال نحو نصف مساحته بين حدوده الجنوبية وطريق بيروت ــ دمشق، والعودة إلى غزوه عام 1996 لتوسيع رقعة الاحتلال، لو كانت الدولة حاضرة لما أمكن المقاومة أن تصبح حاجة ومطلباً ومشروعاً وطنياً للتحرير.
كان الأمر ليهون لو أن «دولة» الطبقة السياسية الفاسدة سلّمت اضطراراً بحضور المقاومة وصعودها، واعترفت لها بمكرمة التحرير في 25 أيار 2000. لكنها تظاهرت بأنها سعيدة بعودة بعض الأرض إلى سيادتها وتغاضت عن استمرار إسرائيل باحتلال بعضها الآخر، وأخذت تنـادي بأن منطقة شبعا المحتلة صغيرة ولا تستأهل مقاومة متجددة لتحريرها، وأن السياسة والدبلوماسية كفيلتان باستخلاصها من براثن إسرائيل، وخصوصاً إذا ما أحسنّا التعاون مع أميركا في هذا المجال وفي غيره من المجالات!
في سياق هذا المنطق الهروبي والمعادي لقيام دولة قادرة وعادلة تعاونت فرنسا والولايات المتحدة في طبخ القرار 1559 بقصد إزاحة الوجود السوري لكشف ظهر المقاومة وتعطيل خط إمدادها اللوجستي. وعندما أخفق الثالوث اللبناني الرسمي ــ الفرنسي ــ الأميركي في تنفيذ القرار 1559، اغتيل رفيق الحريري أو، على الأقل، استُغلّ اغتياله لتـوليد تسونامي شعبية هائلة جرفت الوجود السوري في مدى شهرين، وأشاعت مناخاً نفسياً وسياسياً معادياً للمقاومة عبر إظهارها بأنها حليفة سوريا إن لم تكن أداتها.
رغم كل محاولات التشكيك والتجريح والتجييش والــــتـــــعـــــبئة، حافــــــظت المــــــقاومة على حدٍّ عالٍ من الالتفاف الشـــعبي حولها، وبدت عصيّة على أية محاولة محلية لتجريدها من السلاح. في هذا الإطار أوعزت الولايات المتحدة الى إسرائيل باستغلال عملية أسر جندييها في 7/12 لتنفيذ مخطط حربٍ على لبنان معدٍّ سلفاً كما جزمت بذلك صحيفة «سان فرانسيسكو كرونيكـــل» الأميركية، وكذلك المؤلف والصحافي الفرنسي تيري ميـــسان في صحيفة «نيويورك تايمس»، والكاتب المحقق الأشهر ســـايمور هـــــيرش في صحيفة «نيويوركر». في المقابل، كانت المقاومة قد أعدّت من خلال الحرب مفاجأة لنفسها ولإسرائيل إذ استبسل مجاهدوها الشجعان في التصدي لجنود «الجيش الذي لا يقهر» ولمدرعاته، رادمين بشجاعتهم وتدريبهم فجوة التكنولوجيا بين المقاومة والعدو الإسرائيلي، ثم أحسنوا استعمال نموذج متطور من القاذفات المضادة للدروع ففتكوا بعشرات الدبابات الإسرائيلية المتطورة من طراز ميركافا ــ الجيل الرابع، وبعدها فاجأوا العدو بنحو أربعة آلاف صاروخ دكّ أقصرها مدىً جميع المستوطنات القريبة من الحدود، ووصل أوسطها مدىً الى مدينة حيفا، وطاول أبعدها مدىً مدينة الخضيرة غير البعيدة عن تل أبيب، وقيل إن ثمة ما هو أبعد مدى من الصاروخ الأخير، يصل مداه الى 200 كيلومتر. ودمروا بارجتين وزورقاً حربياً بصواريخ متطورة أطلقوها من مواقع متحركة على الشاطىء.
المهم أن المقاومة أحبطت حرب إسرائيل على لبنان بجدارة وبسالة في نحو 33 يوماً، فحققت نصراً استراتيجياً كما أكد قائدها العام السيد حسن نصر الله. مع ذلك انبرى بعض قوى 14 آذار، بلا حياء، قبل 12 ساعة من حلول موعد تنفيذ قرار وقف العمليات الحربية الى مطالبة حزب الله بتسليم أسلحته الى الجيش اللبناني سنداً للقرار 1701! لم تكن الاشتباكات آنذاك قد توقفت، ولم تكن الدول المعنية قد حسمت موقفها من المشاركة في القوة الدولية المراد نشرها لتعزيز وحدات الجيش اللبناني، بل بالكاد كان رئيس حكومة العدو قد أعلن موافقته على قرار وقف العمليات الحربية. حتى عندما أعلن موافقته المنتظرة لم ينسَ أن يقول كلمته في ما يخطط لعمله في الحاضر والمستقبل: «ليس هناك من تسامح مع هؤلاء الأشخاص. سوف نستمر بملاحقتهم في كل مكان وزمان. إنه واجب أخلاقي علينا، وليست لدينا أي نية لنعفي أنفسنا من هذا الواجب أو أن نطلب إذناً من أحد».
الحرب مستمرة، إذاً، على حزب الله، قيادةً وكوادر ومجاهدين. القرار 1701 لن يوقف الحرب نهائياً. في قابل الأيام ستفعل إسرائيل بقادة المقاومة اللبنانية ما فعلته وتفعله بقادة المقاومة الفلسطينية: تغتالهم بواسطة المروحيات أو السيارات المفخخة. من يردع إسرائيل؟ الولايات المتحدة؟ ها هو ذا جورج بوش يحمّل، في مؤتمر صحافي، حزب الله وسوريا وإيران مسؤولية الحرب، ويؤكـد «أن حرب إسرائيل على الحزب مماثلة للحرب التي تقودها الولايات المتحدة على الإرهاب العالمي». الحرب، إذاً، ستكون استباقية ومتواصلة وضارية، فما جدوى القرار 1701؟
يتحصّل من مجمل ما تقدم أن لا دولة في لبنان، وأن غياب الدولة أدى الى ظهور المقاومة وتصعيدها، وأن غياب الدولة يحول دون تسليم سلاح حزب الله الى جهة لا وجود لها ولا هيبة، وأن الحرب على المقاومة وعلى لبنان مستمرة بدلالة ما توعّد به إيهود أولمرت المقاومة، وما سانده في شأنه جورج بوش، وأن ليس من الممكن ولا المعقول أن يحلّ حزب الله نفسه لينجو من ثارات أولمرت وبوش أو ليلبّي رغبات خرقاء لقوى 14 آذار، وأن الحل الصحيح، وطنياً وسياسياً واستراتيجياً، هو قرار تاريخي باعتماد خيارٍ من اثنين: دولة نؤسسها ونبنيها جميعاً اختياراً، أو دولة تنسجها المقاومة وحلفاؤها من حولها اضطراراً.
الدولة الديموقراطية القادرة والعادلة، دولة القانون والحق والمؤسسات والتنمية المستدامة كانت مطلوبة قبل قيام إسرائيل وبعدها، وقبل حروبها الست علينا وبعدها، وقبل ما يتوعدنا به بوش وأولمرت من حروب استباقية على الإرهاب وبعدها. الدولة حاجة وطنية واجتماعية واقتصادية ودفاعية وحضارية لا سبيل الى تجاهلها أو ابتذالها أو تأجيلها. إذا كانت الدولة على هذا المستوى الاستراتيجي العالي من الضرورة والإلحاح والاستحقاق، فلماذا لا نتخذ في شأنها قراراً تاريخياً طال انتظاره واستحقاقـه؟ وهل ثمة ظرف أخطر وأدعى إلى الاقتبال والاغتنام من الظرف الحالي؟
بين الخيارين اللذين تطرحهما الحرب علينا نفضّل، بطبيعة الحال، خيار أن نهبّ مجتمعين الى تأسيس الدولة الديموقراطية القادرة والعادلة وبنائها من خلال المؤسسات الدستورية التي نقيمها بالانتخاب ونعزّزها بالاتفاق ونرتقي بها بالإنماء المتوازن. ذلك كله يتحقق بتأليف حكومة اتحاد وطني، مناصفةً بين القوى التقليدية والقوى الحية، من أجل البدء بأولى خطوات التأسيس وهي وضع مشروع قانون عادل للانتخاب على أساس التمثيل النسبي يصدر بمرسوم اشتراعي، ويُنفّذ بموجبه مضمون المادة 22 من الدستور التي تقضي بانتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، على أن يُستحدث بالتزامن معه مجلس شيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية (الطوائف) وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية والأساسية. بهذا النهج الديموقراطي الحر والعادل نضمن أن تكون لمجلس النواب، كما لمجلس الشيوخ، صفة الجمعية التأسيسية وفعاليتها التجديدية.
إذا أخفقت القوى التقليدية والقوى الحيّة في الاتفاق على اعتماد هذا الخيار، فإن المقاومة التي تحمّلت مع جماهيرها والقوى الحية المساندة لها والمشاركة في مجهودها وجهادها الآلام والخسائر والأضرار والتضحيات، ستجد نفسها مضطرةً، لجميع العوامل والأسباب والتحديات المار ذكرها وفي مقدمها حق الدفاع عن النفس وعن الشعب، الى النهوض لواجب تأسيس الدولة ونسجها من حولها وفاءً لضرورات إنسانية واجتماعية واستراتيجية وحضارية.
يثور سؤال: كيف تحقق المقاومة والقوى الحية المتحالفة معها هذا المطلب التاريخي؟
الجواب: بإقامة حكومة اتحاد وطني من جميع القوى التي لها مصلحة في هذه اللحظة التاريخية بتأسيس الدولة الديموقراطية القادرة والعادلة وبنائها، وذلك من طريق العمل الشعبي والتظاهرات والمسيرات والعصيان المدني، إذا اقتضت الحاجة، من أجل حمل الطبقة السياسية التقليدية على التنازل عن امتيازاتها والتعاون مع الكتلة الشعبية الأكثر حضوراً وتمثيلاً للاجتماع السياسي اللبناني، وبالتالي المشاركة وفق حجمها الطبيعي في حكومة الاتحاد الوطني المرتجاة.
إن الزخم الشعبي المتولّد من النصر الاستراتيجي الذي حققته المقاومة على العدو الإسرائيلي يشجع ويشرّع الإقدام على هذه الخطوة التاريخية بغية وضع لبنان على سكة التطور والتقدم والإبداع. ولا سبيل الى التخوّف من احتمال انزلاق البلد الى حرب أهلية تعوّض بها إسرائيل إخفاقها في حربها على لبنان، لأن أهالي لبنان كفروا بالاحتراب لحساب الآخرين، وكفروا بأكاذيب الطبقة السياسية التقليدية وفسادها، وأدركوا الآن أنه لا قضية لهم ولا مصلحة في حربٍ أهلية إذ سيزدادون فقراً وبؤساً وعبودية، وأيقنوا أن الظروف المحلية والإقليمية لا تسمح لتجار الطائفية والحروب بأن يلعبوا لعبتهم من دون أن يدفعوا أثماناً باهظة.
دقّت ساعة الحقيقة.
* وزير ونائب سابق ــــــ محام وكاتب