[حلقة ثانية وأخيرة]

نزار صاغيّة *

السؤال مفتوح، إنما المنظمتان ارتأتا تفاديه كلياً: ربما انحيازاً منهما لحماية المدنيين! ولكن على نحو يخالف حذرهما في شأن شرعيّة أسلحة اسرائيل وأعمالها الحربية ككلّ. وأهم من ذلك، على نحو يجرّد حزب الله من إمكان ردع الآلة الاسرائيلية بحجة أن أسلحته ليست دقيقة! فهل أصبحت حقوق الردع حصراً في الدول الكبرى ذات القدرات النووية، بما فيها اسرائيل، فيما يمنع عمّن كانت أسلحته بحاجة الى تطوير؟ وهذا ما يسمح لي بالانتقال الى تقويم مدى الحيادية في إبراز جرائم الحرب وإدانتها.
مدى الحياديّة في إبراز جرائم الحرب وإدانتها
في هذا الصدد، نلحظ إجمالاً سعياً للمنظّمتين الى الظهور مظهراً متوازناً على أساس المنهجيّة المتمثّلة في تقويم الأعمال الحربيّة المعزوة لأطراف الحرب في ضوء القانون الدولي، مع التركيز على وجوب حماية المدنيين على جانبي الحدود. وهذا ما عبّرت عنه المنظّمتان في بياناتهما الأولى لتخلصا في بياناتهما اللاحقة الى توجيه الانتقادات للطرفين بما يوحي أنّهما، سواء في التعرّض للمدنيّين وانتهاك القانون الدولي، في معزل عن التفاوت الهائل في الأضرار والخلفيات والقدرات والمقاصد. وإذ دعت المنظّمتان الى التحقيق في جرائم الحرب المعزوة للطرفين، فإن منظمة العفو الدولية تفرّدت بالمطالبة بوقف تصدير الأسلحة إليهما.
وقد بلغ السعي الى التوازن أحياناً حدّ المزاوجة بين مسؤوليات ثابتة في ارتكاب مجازر عمداً ومسؤوليات افتراضية أو مسؤوليات سياسية خارجة تماماً عن النزاع. وهذا ما عبّرت عنه هيومان رايتس واتش في تضمين بياناتها حجج اسرائيل المتصلة بمسؤولية حزب الله (المفترضة) عن استعمال المدنيّين دروعاً بشريّةً أو القصف على مقربة من الأحياء السكنية. وهذا أيضاً ما عبّر عنه بيان الفيدرالية الدولية الصادر غداة مجزرة قانا حين ندّدت بنظامي الحكم «البغيضين» في إيران وسوريا في مسعى منها لاستعادة «زمام التوازن» كما سبق بيانه...
والواقع أن هذا التوازن بدا، مع تفاقم الإجرام الاسرائيلي، أمراً غير محتمل ما دام قد أدى عن قصد أو غير قصد الى تخفيف مسؤولية اسرائيل. فماذا يعني أن يُخاطب الطرفان باللغة نفسها في ظل التفاوت الشاسع في المسؤوليات والقدرات وفقاً لما يتحصل بشكل لا يقبل الجدل من أرقام الحرب؟ فعدد الضحايا المدنيين للقصف الاسرائيلي (ذي التحكّم الفائق) زاد على الألف ونسبتهم من أصل مجموع الضحايا في لبنان (بمن فيهم عناصر حزب الله) يزيد على 95 % فيما عدد الضحايا المدنيين في اسرائيل يقارب الأربعين بما لا يتعدى ثلث مجموع الضحايا. وهذا أيضاً ما تعكسه أعداد النازحين في لبنان التي تقارب المليون وحجم التدمير الهائل للأبنية والمنشآت المدنية. ففي حال كهذه، يصبح التوازن حكماً، وبأقل تقدير، استهزاء بالمنطق القانوني وبأصول العدالة، كمن يضع في سلة واحدة الذي يخرّب شعباً عن عمد وذاك الذي يخرب حقلاً أو بيتاً، بما يملكه من وسائل، من باب ثنيه عن الاستمرار في عدوانه. وما يزيد الأمر غرابة أن هذا التوازن «الحقوقيّ» بدا تجسيداً لكلمة سرّ «دوليّة» مؤداها السماح للجلّاد بالتعبير عن ساديّته وأطماعه على أرض الواقع كما يريد ومن دون أن يمسّه أي عقاب أخلاقي على أساس أن هنالك «الكلّ سواء».
لا بل ما يزيد الأمر إيلاماً هو أن بعض هذه المنظّمات أجاز لنفسه أحياناً الخروج عن حدود التوازن في اتجاه التمييز ضد الضحيّة، سواء في كيفية إبراز الانتهاكات المعزوة للطرفين أو حتى أحياناً في ألفاظ الإدانة. وهذا ما نتبيّنه بشكل خاص في بعض أعمال منظّمة هيومان رايتس واتش. ففي 18-7-2006، أي بعد أيام من بدء الحرب، أصدرت المنظمة بياناً بعنوان «قصف حزب الله لحيفا بصواريخ مصممة لقتل المدنيّين» حيث أعلنت أن القصف بالكاتيوشا جريمة حرب كما سبق بيانه. واللافت أن هذا البيان بإدانة حزب الله جاء بعد يوم واحد من قصف محطة القطارات في حيفا فيما كانت المنظّمة اكتفت بالتذكير بضرورة حماية المدنيّين (عبر مجموعة من الأسئلة والأجوبة) بعد أيام من القتل والتهجير والتدمير من دون أي إدانة مباشرة. ولهذا السبب بالذات، بدا البيان بإدانة حزب الله وتجاهله الأفعال الأشد خطورة وإضراراً والمعزوة الى اسرائيل، منحازاً، في معزل عن صحّة مضمونه بالنسبة الى قواعد القانون الإنساني كما سبق بيانه.
على الجملة، وإذا وضعنا جانباً بعض الجرائم التي قد تهمّ هذه المنظمات بشكل خاص لسبب أو لآخر، نلحظ لديها نقصاً في المبادرة في استكشاف الجرائم الأخرى على نحو سمح غالباً بالتمييز. فبيانات هيومان رايتس واتش عن ضرورة تأمين ممرات آمنة (20 و 21 تموز) جاءت، ليس بضغط المأساة الحاصلة على مدى أيام، إنما صدىً لمحاولات الأمم المتحدة في هذا الخصوص. وإن مسارعة المنظمات كافة الى إصدار بيانات إدانة لمجزرة قانا جاءت تبعاً للتغطية الإعلامية الدولية. وهذا ما يفسر مثلاً صمتها ــ أو على الأقل ضعف حماستها ــ في التعقيب على مجازر لا تقل وحشية كمجازر صريفا والقاع والشيّاح والزراريّة إلخ... وأيضاً تجاهلها لأعمال حربية أقل ظهوراً كاستعمال بعض أنواع الأسلحة المحظورة وفقاً لما ذكرناه أعلاه، أو أيضاً الإساءة للبيئة (تلوّث البحر مثلاً). وإن قلة المبادرة بلغت أوجها في تعاملها الخافت مع المسائل السياسية الحساسة كتدمير المربّع الأمني والمنشآت المدنية التابعة لحزب الله واستهداف قياداته على نحو بالكاد يخفي آراء مسبقة بشأن حزب الله ووجهة استعمال المباني الواقعة في المنطقة المذكورة، وذلك خلافاً للقاعدة القائلة إن الشك بهدف معين يفرض التعامل معه على أنه مدني. وهذا ما نلمحه أيضاً في تجاهلها استجواب أحد الأسرى المدّعى انتماؤهم الى حزب الله وخصوصاً تجاهلها قصف محطة «المنار» وإذاعة «النور» بما يتعارض تماماً مع اهتماماتها الفائقة بشأن حرية التعبير!
أما على صعيد التمييز في الإدانة اللفظيّة، فتجدر الإشارة الى بيان الفيدرالية الدولية الصادر في 17/7/2006، حيث بدت كأنها تميّز بين حزب الله (الذي تدينه بشدّة ــ Severely condemn) واسرائيل المتّهمة فقط بتجاوز مبدأ التناسب، رغم فظاعة الانتهاكات الموحى بحصولها في البيان نفسه وأبرزها اعتماد أسلوب العقاب الجماعي في التدمير والتهجير! وكذلك الأمر في ما يتعلق بالبيانات الصادرة عن هيومان رايتس واتش في الأسابيع الأولى للحرب بحيث بدت دوماً مستعجلة لاتهام حزب الله بارتكاب جرائم حرب فيما دأبت على انتقاء عباراتها عند مقاربة أعمال اسرائيل والموصوفة في أحسن الأحوال بأنها قد تشكل انتهاكات للقوانين الإنسانية الدولية. وإذا كان الفارق بين العبارتين لفظياً صرفاً في نظر الاختصاصيين، فلا يخفى على أحد أنه شاسع في مفهوم العامة. وهكذا كان على متابعي هيومان رايتس واتش أن ينتظروا بيانها عن مجزرة قانا كي يسمعوا أن اسرائيل ارتكبت جريمة حرب!
* محام لبناني