منير شفيق *
اميركا تتهم إيران، وآخرون لهم الرأي نفسه، بأنها «تستغلّ تحالفها مع حزب الله من أجل تخفيف الضغوط الدولية عليها». ويذهب الآخرون الى أبعد من ذلك باتهام حزب الله بإشعال الحرب بقرار إيراني من أجل أن تأتي أميركا لمساومة إيران بقبول برنامجها النووي مقابل مساهمتها في نزع ترسانة الصواريخ من يد حزب الله.
بداية، بالنسبة الى مَن اتهموا حزب الله بأنه أخطأ في حساباته عندما قام بعملية «الوعد الصادق» وأسر الجنديين.. فهذا الاتهام لا يستقيم إلا إذا اعتُبرت عملية «الوعد الصادق» لم تستهدف إشعال الحرب، وإنما كانت عملية محدودة توقعت رداً محدوداً، يتبعهما تفاوض غير مباشر على تبادل الأسرى، فاستُغلّت من جانب إسرائيل لتشن حرباً شاملة متذرعة بتلك العملية. من هنا على الذين يقولون «إن حزب الله أخطأ في حساباته» ألاّ يشاركوا في اتهام إيران، أو سورية، أو حزب الله، بأنهم السبب وراء هذه الحرب من أجل الوصول الى نتيجة تُضطر معها أميركا لمساومة سوريا وإيران على حساب نزع أسلحة حزب الله، لأن هذا الاتهام يُسقط الخطأ في الحسابات، ويتناقض معه. أما من يتهم إيران بأنها أرادت من حزب الله أن يفجّر الحرب من أجل استدراج أميركا لمساومة إيران بقبول برنامجها النووي للأغراض السلمية، مقابل نزع أسلحة حزب الله، فعلى هؤلاء، أولاً، أن يثبتوا أن أميركا وإسرائيل جُرّتا جرّاً الى الحرب بسبب عملية «الوعد الصادق»، ولم تكونا تريدانها، أو تعدّان لها، أو لم يكن أمامهما خيارات أخرى للرد على تلك العملية، بما هو أدنى من شن الحرب الشاملة، وهو ما كانتا تفعلانه طوال الست سنوات الماضية منذ الانسحاب الإسرائيلي المُذلّ من أغلب أراضي الجنوب عام 2000. وعلى هؤلاء ثانياً، أن يفسروا ما وُضع لحرب العدوان الشاملة على لبنان من أهداف خلال الأسبوع الأول من اندلاعها، سواء أكان ما أعلنه أولمرت، أم ما أعلنه بوش وكوندوليزا رايس.. فقد تراجع هدف الرد على العملية، أو استرجاع الجنديين، الى مرتبة متدنية في أجندة ما أُعلن من أهداف. الذي يؤكد أن الحرب لم تكن ردة فعل على عملية «الوعد الصادق»، أو بهدف استرداد الجنديين من دون قيد أو شرط. بل يعجب المرء كيف لم يُقتل الجنديان الأسيران تحت قصف الطيران شبه الشامل لمواقع كان من الممكن أن يكون الجنديان فيها. فمن قصف على تلك الطريقة لم يفكر إطلاقاً بحياة الجنديين أو استرجاعهما على قيد الحياة.
أما السبب الثالث، وهو الأهم، فإن متهمي إيران بأنها أشعلت الحرب لتخفف من الضغط عليها، ولإجبار أميركا على مساومتها، يجب أن تقدم لهم جائزة في «التنبؤ» من الدرجة الأولى. فمن ذا الذي كان يمكنه قبل اندلاع الحرب أن يتصور أن تأتي نتائج المعارك على الصورة التي أتت عليها. أي أن يفشل الجيش الإسرائيلي بهذا الشكل وعلى هذا المستوى، والى هذا الحد. فالسيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله لم يكن مبالغاً حين رأى النتيجة «نصراً استراتيجياً وتاريخياً»، فما من أحد كان يمكن أن يتصور قدرة المقاومة على منع الجيش الإسرائيلي من أن يحتل شريطاً حدودياً من بضعة كيلومترات، أو أن يسيطر، بالتمام والكمال، على مجرد بضع قرى أو بلدات ضمن ذلك الشريط. إن أقصى ما بلغه العدو كان الإنزال في نقاط غير موصولة مع طريق الإمداد والعمق، أي نقاط محاصرة ومعزولة براً. حقاً كان كل ذلك من الناحية العسكرية مفاجئاً للجميع.
أميركا لم تتزحزح قيد أُنملة عن إصرارها على وقف البرنامج النووي الإيراني، وستثبت الأيام المقبلة أن الضغوط الأميركية كلها، سواء أكانت على لبنان أم على سوريا أم على إيران أم على فلسطين أم إقليمياً ودولياً، ستظل خاضعة لهدف وقف البرنامج النووي الإيراني.
وهذه ليست بالاستراتيجية الجديدة، بل هي التي حكمت السياسات الأميركية ــ الإسرائيلية في منطقتنا والعالم منذ انتهاء الحرب العدوانية على العراق. وهذا يفسّر الحرب الراهنة على حزب الله ولبنان من وجهة النظر الأميركية. فحرمان إيران من التخصيب ولو في حدود الأغراض السلمية (%5)، هو الهدف المركزي للاستراتيجية الأميركية ــ الإسرائيلية، إذ وصل التماهي الى حدّ جعل «المحافظين الجدد» إسرائيليي أميركا، بل الأكثر إسرائيلية من شارون ونتانياهو وأولمرت: تأملوا، فقط، جون بولتن المندوب الأميركي في هيئة الأمم المتحدة وقارنوه بالمندوب الإسرائيلي، أو تابعوا السياسات الأميركية في أثناء الحرب. ولهذا كان الحريص على اندلاع هذه الحرب هو أميركا وإسرائيل لا حزب الله أو سوريا أو إيران. ويجب أن نتوقع أن الهدف من هذه الحرب هو التمهيد للحرب على إيران، بسبب فرضيات أميركية ــ إسرائيلية بتدخل حزب الله إذا شُنّت تلك الحرب على إيران، الى جانب السعي لعزل إيران لبنانياً وسورياً وفلسطينياً وعربياً ودولياً من أجل الضغط عليها سياسياً لتتنازل عن التخصيب أو مواجهة الحرب.
لقد أثبتت التجربة العملية على مدى سنوات عشر، أن إسرائيل تعايشت مع واقع سلاح حزب الله وصواريخه، فما الذي استجدّ حتى تنقض هذا التعايش وتنتقل الى شن كل هذه الحرب العدوانية الوحشية على لبنان؟ الجواب يكمن في اقتراب موعد الحرب الأميركية ــ الإسرائيلية ضد إيران. وقد تكرس قرار الحرب بعد اللقاء الإيراني ــ الأوروبي في بروكسيل في 11\7\2006، مع رفض لاريجاني إعطاء رد على العرض الأوروبي (الصفقة المقترحة على إيران)، في ذلك اليوم السابق لانعقاد قمة مجموعة الثماني في بطرسبورغ، مُصرّاً على أن يكون قبل نهاية آب 2006.
كان بوش يصرّ على أن يأتي الرد الإيراني قبل انعقاد قمة مجموعة الثماني التي أراد استخدامها، بسبب حرص روسيا على نجاحها، لكي تغطي موقفاً دولياً ضد إيران. وقد استخدمت، أيضاً، لتغطية حرب العدوان على لبنان، وربما عجّلت بها من أجل ذلك الغرض. ومن هنا يمكن القطع بالقول: لو جاء رد لاريجاني في بروكسيل إيجابياً بقبول وقف التخصيب والدخول في الصفقة، لما اندلعت حرب العدوان على لبنان حتى لو كان الأسرى خمسة جنود إسرائيليين أو أكثر، ولجاء الرد الإسرائيلي ضمن قواعد اللعبة إياها. فالمسؤولية في حرب العدوان على لبنان، كما في فلسطين، تقع على عاتق أميركا وإسرائيل بالكامل.
ومَن هدفه إقامة شرق أوسط على الصورة الأميركية ــ الإسرائيلية فعليه أن يشن سلسلة من الحروب العدوانية من فلسطين الى العراق الى لبنان الى سوريا وإيران، وأن يمزق في البلدان العربية وصولاً الى «خريطة الفسيفساء».
* كاتب فلسطيني