عبد الله الأمين *
عندما أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس أن ما يجري الآن في الشرق الأوسط ــ أي الحرب الإسرائيلية على لبنان ــ إنما هو بشارة من بشائر «الشرق الأوسط الجديد»، ولم يكن هذا الإعلان التبشيري مجرد بيان سياسي أو إعلامي بل كان فعلاً مباشراً كشف حقيقة الدور الأميركي في الحرب على لبنان.
في اللحظات الأولى لانطلاقة العدوان بدا للكثيرين أن العمليات الحربية الإسرائيلية ليست إلاّ ردّ فعل على أسر المقاومة للجنديين الإسرائيليين، إلا أن إطلالة السيدة رايس وتصريحها الشهير بأن الحرب الدائرة الآن هي اللبنة الأولى في بناء صرح «الشرق الأوسط الجديد» أسقطا ما بدا لهؤلاء الكثيرين، وبانت الأمور على حقيقتها مكشوفة عارية. فالحرب ليست حرباً إسرائيلية على لبنان من أجل استرداد الجنديين بل هي حرب أميركية مباشرة يقوم الجيش الإسرائيلي بتنفيذ الأوامر الأميركية، وقد تكون هي المرة الأولى التي تقوم إسرائيل بدور الأداة في الحرب على العربالحرب ليست حرباً على لبنان وحده بل هي حرب على الشرق الأوسط من أفغانستان الى لبنان من أجل أحلام الإدارة الأميركية في السيطرة والهيمنة على هذه المنطقة برمتها، ولذلك أعطت إسرائيل مهمة الحرب القذرة والهمجية التي استهدفت كل أشكال الحياة في لبنان من البشر إلى مقوّمات الدولة اللبنانية بحيث تبدو الإدارة الأميركية بريئة من دم الأطفال والنساء والشيوخ اللبنانيين ويكون الدم اللبناني المسفوح في عنق إسرائيل وهي ــ أي الإدارة الأميركية ــ جاهزة عبر نفوذها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن وكل المنظمات الدولية لتغيير الحقائق فيصبح الدم اللبناني دم «الإرهابيين» والدم الإسرائيلي دم الأبرياء الذي أهرقه ضحايا قانا وصريفا والقاع وصور وبنت جبيل وعيتا الشعب وكل المدن والقرى في معظم الجنوب والبقاع والضاحية والشمال. المؤسف والمخجل هو هذا النظام العربي الذي وقف متفرّجاً على شاشات الفضائيات شأنه شأن أية دولة في أقصى أفريقيا أو أميركا اللاتينية ــ عفواً ــ ففي أميركا اللاتينية استدعى الرئيس تشافيز سفيره في إسرائيل وطرد السفير الإسرائيلي من بلاده احتجاجاً على جرائم الحرب والقتل الجماعي الذي مارسته الآلة الحربية الأميركية بأيدي الإسرائيليين الذين شكروا لواشنطن الثقة الكبيرة التي أعطتهم شرف قتل أطفال العرب ونسائهم من أجل «الشرق الأوسط الأميركي الجديد».
المؤسف والمخجل هو هذا النظام العربي الذي لجأ نتيجة عجزه وفقدانه الحدّ الأدنى من الشعور والمعرفة بأن ما جرى في الحرب الأميركية على لبنان ليس إلا بداية الحرب على أنظمتهم نظاماً وراء نظام، ولن يسلم منها أعز الأعزاء على قلوب الإدارة الأميركية، وعلى رغم أن الإعلان الأميركي على لسان كوندوليزا رايس كان واضحاً ووقحاً عندما قالت إن الحرب على لبنان هي بوابة الشرق الأوسط الجديد وإن الحرب على لبنان هي النموذج المثالي الذي ينتظر كل أنظمة النظام العربي الذي لجأ للدفاع عن نفسه بالهروب الى الأمام وبرّأ ذمته مما جرى في الحرب الأميركية على لبنان محمّلاً المقاومة مسؤولية الحرب، وأصبحت المقاومة بمفهوم النظام العربي معتدية على إسرائيل لكونها أسرت بعملية مشرّفة جنديين إسرائيليين لاسترداد مواطنين لبنانيين وعرب من غياهب المعتقلات الإسرائيلية النازية، واعتقد النظام العربي بأن هذه الحرب قد تخرجه من ورطة المقاومة ويسود السلام الأميركي في هذه المنطقة ويستريح النظام العربي في واحة السلام الأميركي ويندحر أولئك المغامرون الذين يعملون لتحرير أرضهم ومقدساتهم التي تناساها أولئك الذين يتحدثون عن أُولى القبلتين وثاني الحرمين وعن كنيسة المهد.
المؤسف والمخجل هو هذا النظام العربي الذي نام مطمئناً إلى أن الغد ستشرق شمسه على سقوط المقاومة ودحرها واجتثاث جذورها في كل أنحاء هذا الوطن العربي الكبير، إلا أن شمس ذلك الغد صفعت وجه هذا النظام واستفاقت جماهير العرب في كل أنحاء الوطن العربي من أقصى مغربه الى أقصى مشرقه على انتصار صارخ للمقاومة التي هزمت إسرائيل هزيمة لم تشهدها في كل تاريخها العدواني على العرب، ولم تكن الهزيمة حصراً للإدارة الأميركية وأداتها إسرائيل بل هي هزيمة للنظام العربي وانتصار للجماهير العربية التي تظاهرت في كل المدن العربية وتعرّضت للضرب والاعتقال من زبانية هذا النظام الهرم والمتآكل الذي أصبح من مخلّفات التاريخ.
المؤسف والمخجل أن هذا النظام العربي لم يدرك حتى الآن أن «الشرق الأوسط الجديد» ليس إلا مذبحة حقيقية لهذه الأمة بكل أقطارها، وهو إلغاء شامل وكامل لمكوّنات هذه الأمة وحقوقها وحريتها ونهب لثرواتها وعود الى عصور الاستعمار والانتداب القديم ورسم جغرافيا جديدة لهذه المنطقة ودولها تمهيداً لسيطرة أميركية بإدارة إسرائيلية، وأن هذا النظام لا يدرك أيضاً المخاطر التي تحيط به من الداخل ومن الخارج لأن الانتصار المدوّي للمقاومة لم يكن انتصاراً عسكرياً على الإدارة الأميركية والإدارة الإسرائيلية فقط بل هو تحوّل تاريخي وانتقال من مرحلة الهزائم الى عصر الانتصار، وأن ثقافة المقاومة اخترقت كل حواجز القمع والأسوار التي يحتمي بها هذا النظام، وأن فجراً جديداً قد بدأ ولغة جديدة ولدت، لغة لا يفهمها هذا النظام وتعرفها الجماهير التي بانتصار المقاومة كسرت حواجز الخوف والظلم والهزيمة، وسيبدو هذا النظام العربي عارياً مكشوفاً خائفاً ليس له أي مخرج أو أية حماية.
لغة المقاومة الجديدة هي بناء شرق أوسط جديد حر ومتحرر من الهيمنة الأميركية ورادع للعدوانية الإسرائيلية، ومن النظام العربي الخائف والعاجز، شرق أوسط يقوم على ثقافة المقاومة وفعلها حافظاً لتراثه وتنوّعه الاجتماعي والطائفي والإثني، منفتحاً على العالم، قراره بيده، أنظمته تقوم على أسس الحرية والعدالة والديموقراطية. تلك هي ثقافة الشرق الأوسط الكبير، وتلك هي ثقافة المقاومة. أما «الشرق الأوسط الجديد الأميركي» فهو مشروع أسقطته المقاومة على تخوم مارون الراس وبنت جبيل وعيتا الشعب والطيبة والقنطرة ووادي الحجير، فالتحق بالمشاريع الاستعمارية القديمة من مشروع آيزنهاور الى مشروع جورج بوش الابن.
* وزير سابق