أمل سعد غريّب*
بلغ القتال بين إسرائيل وحزب الله مفترقاً حاسماً بعد أن قررت إسرائيل توسيع عملياتها البرية وفي وقت احتدمت المفاوضات في مجلس الأمن حول مشروع قرار لإنهاء النزاع بين الطرفين. الأكيد أن حرب إسرائيل على حزب الله قد جعلت الحزب قضية دولية، ومنحته احتراماً وتقديراً كبيرين في العالمين العربي والإسلامي، وعزّزت الدعم الشعبي اللبناني له.
إن فهم وجهة نظر حزب الله في ما يتعلق بانطلاق الحرب وأهداف الحزب الاستراتيجية، أمر ضروري لتقويم المسار المرجّّح للأحداث خلال الأسابيع المقبلة.
الكمين الذي نصبه حزب الله في 12 تموز: الدوافع والتوقّعات المتعلقة بالرد الإسرائيلي:
بعد الرد الإسرائيلي القاسي والموسّع على الكمين الذي نصبه حزب الله في 12 تموز لدورية إسرائيلية، اعتبر بعض المعلّقين أن تنفيذ الهجوم جاء بناءً على طلب إيراني وبتشجيع سوري من أجل إطلاق شرارة الحرب مع إسرائيل وجرّ لبنان إلى نزاع إقليمي أوسع، فيما رأى البعض الآخر أن الهجوم كان نتيجة خطأ في حسابات الحزب وهو ما عاد بالخراب على لبنان.
إن الخلل الأساسي في القراءة الأولى أنها لا تأخذ في الاعتبار العمليات المشابهة التي كان حزب الله قد نفّذها والتي مهّدت الطريق أمام عمليات تبادل للأسرى مع إسرائيل أدّت في حينها إلى تحرير مئات اللبنانيين وغيرهم من المعتقلين العرب في السجون الإسرائيلية. علماً بأن الحزب كان قد أعلن أن عام 2006 هو «عام الأسرى» (في إشارة إلى الأسرى اللبنانيين الثلاثة الذين رفضت إسرائيل إطلاقهم خلال عملية التبادل التي تمّت في عام 2004). هذه القراءة تتجاهل أيضاً محاولات الحزب المتكررة لاختطاف جنود إسرائيليين خلال الأشهر الماضية لمبادلتهم بأسرى في المعتقلات الإسرائيلية أيضاً. لذلك فإنه من وجهة نظر حزب الله، لا يشكل أسر جنود إسرائيليين تحوّلاً جذرياً في الاستراتيجية العسكرية للحزب بما يتطلّب موافقة إيرانية أو بما يستدعي رداً إسرائيلياً قاسياً. ودائماً من وجهة نظر الحزب، فإن اختطاف جنديين إسرائيليين لا يشكل تعديلاً كبيراً في قواعد اللعبة وخصوصاً في ظل الانتهاكات الإسرائيلية الروتينية للخط الأزرق. وفي ضوء هذه الاعتبارات أكد حزب الله أنه توقّع رداً إسرائيلياً اعتيادياً على عملية الأسر أي عدواناً محدوداً يتبعه عملية تبادل للأسرى، وهذا الموقف يتبدّى واضحاً في كلام نائب رئيس المجلس السياسي في حزب الله محمود قماطي الذي يؤكد أن حزب الله لم يتوقع أن يكون الرد الإسرائيلي بهذا الحجم.
إن هذا التأكيد قد يوحي بصحة القراءة الثانية. غير أنه سيكون إفراطاً في التبسيط أن نعتبر إعلان حزب الله أنه لم يكن يتوقع تصعيداً إسرائيلياً بهذا الحجم، دليلاً على خطأ في حسابات الحزب. إلاّ أنه قياساً بنجاح حزب الله في امتصاص صدمة القوة الجوية الإسرائيلية الهائلة وأدائه المتميّز في ساحات القتال، فضلاً عن قدراته الثابتة على إطلاق الصواريخ في اتجاه المدن والبلدات الإسرائيلية، يبدو أن الحزب لم يُباغت تماماً بحجم الهجوم الإسرائيلي. فمن المرجح أن يكون حزب الله قد أدرج رداً إسرائيلياً واسع النطاق ضمن السيناريوهات المحتملة ــ ولكنه لم يمنحه على ما يبدو الأهمية عينها التي منحها للسيناريوهات الأخرى ــ ويمكن بذلك القول إن الحزب وضع جميع الخطط الضرورية لمواجهات كل الاحتمالات. وهو ما عبّر عنه القيادي في حزب الله ووزير الطاقة اللبناني محمد فنيش من أن الحزب يضع جميع الأشكال الممكنة لنوع الرد الإسرائيلي المحتمل بما في ذلك أسوأ السيناريوهات ويستعدّ لها، وأن حزب الله لا يستبعد أسوأ النتائج المحتملة حين يتخذ قراراته.
في الواقع، ثمة دليل على أن حزب الله توقّع مواجهة مع إسرائيل في وقت ما في المدى القريب أو المتوسط. فقبيل اندلاع هذا النزاع، كان الحزب قد شارك في مؤتمر الحوار الوطني اللبناني الذي كان مصير سلاح حزب لله من ضمن جملة قضايا على جدول أعماله، وذلك في إطار اقتراحات حول «الاستراتيجيا الدفاعية». وكانت بعض القوى السياسية في «14 آذار» التي تؤلّف الأكثرية النيابية والتي تقيم علاقات متينة مع الولايات المتحدة وفرنسا، تحاول اغتنام المؤتمر للعمل على تنفيذ القرار الدولي الرقم 1559 الذي يدعو إلى نزع سلاح حزب الله. وبحسب قماطي، فقد كان الحزب مدركاً تماماً بأن المحادثات تتّجه نحو طريق مسدود ويتوقع أيضاً أن تعمد الولايات المتحدة إلى استغلال نتائج المؤتمر لفرض القرار 1559 عبر عملية عسكرية إسرائيلية ضد حزب الله. فهذا الأخير كان «مستعداً ولكنه لم يكن على دراية بتوقيتها».
هذا وكان أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله قد أعلن في تموز أن حزبه تلقى أخيراً معلومات تفيد بأن هناك مخططاً لشن عدوان إسرائيلي على لبنان في أيلول أو تشرين الأول المقبلين وأنه كان من حسن حظ حزب الله أنْ أسرَ الجنديين الإسرائيليين في هذا التوقيت بالذات: فهذا الأمر عجّل الحرب وأفقد إسرائيل «عنصر المفاجأة». وبدوره اعتبر قماطي أن إصرار إدارة بوش على رفض وقف فوري لإطلاق النار هو دليل على أن الولايات المتحدة تدير هذه الحرب التي كانت ستُشنّ بغض النظر عن عملية الأسر.
وبذلك تجاوز حزب الله موقفه التقليدي من الولايات المتحدة التي كان يرى أن دورها يقتصر على تقديم المبرّرات وشرعنة الخطوات الإسرائيلية، غير أنه أدرك الآن أنها هي المهندس الرئيسي للعدوان الإسرائيلي الراهن. وفي هذا الإطار فإن تصريحات المسؤولين الأميركيين التي اعتبروا فيها أن الأزمة في لبنان هي «فرصة» لترسيخ «الشرق الأوسط الجديد»، مضافةً إلى رفض الولايات المتحدة الدائم لأي شيء أقل من الشروط اللازمة لوقف دائم لإطلاق النار، كل هذه التصريحات يعتبرها حزب الله الدليل على أن الولايات المتحدة تفرض إملاءاتها لمواصلة النزاع الراهن. وهو ما عبّر عنه السيد نصر الله في كلمة ألقاها الشهر الماضي عندما قال «إن الإسرائيلي بات جاهزاً أو ناضجاً لوقف العدوان.. وإن الذي يصرّ على مواصلة العدوان على لبنان هو الإدارة الأميركية». وفي أي حال تُعتبر إسرائيل «أداة طيّعة» للسياسة الأميركية التي تهدف إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بدءاً من لبنان ومروراً بإيران وسوريا.
إن حزب الله وعلى خلفية مختلف هذه التطورات والمعطيات يرى أن النزاع الراهن هو نزاع فرضته الولايات المتحدة وإسرائيل في مواجهته، مما يجعل أهداف الحزب العسكرية أهدافاً دفاعية بحتة.
وكما أعلن نصر الله «نحن لم نرد الحرب لكنها فرضت علينا»، قد يبدو أن حزب الله لم يشعل عن عمد نزاعاً واسع النطاق قد يطاول منطقة الشرق الأوسط بأسرها، ولا يمكن اعتبار أن الحزب أخفق في توقّع احتمال حصول هذا السيناريو، إلاّ أنه من الواضح أن حزب الله لم يتوان عن استثمار الحرب لخدمة مصالحه الداخلية وكذلك الإقليمية.
أهداف حزب الله الاستراتيجية في النزاع الراهن
الأهداف العسكرية
إن أحد أبرز الأهداف الأساسية لحزب الله من هذه الحرب هو إيجاد تعريف جديد لمفهومي السلطة والنصر، وذلك بعيداً من مفهوم الأحجام والمعايير المادية. وقد أسهمت ثلاثة عوامل في الوصول إلى هذه الغاية. العامل الأول هو السقف العالي الذي يصعب بلوغه والذي وضعته إسرائيل في بداية النزاع ــ وهو القضاء نهائياً على حزب الله ــ واضطرار إسرائيل إلى تغيير أهدافها في ما بعد. والعامل الثاني هو حقيقة أن حزب الله لم يوضّح أهدافه العسكرية، واكتفى بالإعلان عن نيّته التوصل إلى عملية لتبادل الأسرى في مرحلة ما. ومن المنطقي أن النصر العسكري لحزب الله يقوم بشكل رئيسي على الحؤول دون تمكين إسرائيل من تحقيق أية إنجازات ملموسة. وحتى هذه اللحظة، يبدو أن الحزب نجح في هذه المسألة بما أن إسرائيل لم تحقق أياً من أهدافها العسكرية المعلنة، أي إطلاق جندييها الأسيرين من دون قيد أو شرط وتفكيك حزب الله أو أقلّه إضعافه إلى درجة يتعذّر عليه معها استئناف مقاومة القوات الإسرائيلية، والتخلّص من قدرات الحزب الصاروخية أو إجباره على التراجع إلى ما بعد نهر الليطاني. أما العامل الثالث فهو الطبيعة غير المتكافئة للحرب بين الطرفين ــ فحجم جيش الدفاع الإسرائيلي وقوته العسكرية الهائلة إذا ما قورنا بحجم مقاتلي حزب الله وقوتهم، لا يمكن أن يشير إلى ضعف عسكري على الجانب الإسرائيلي أو إلى قوة هائلة لدى حزب الله. لذلك فقد مكّنت هذه العوامل أمين عام حزب الله من الإعلان أن صمود حزب الله يُعتبرُ انتصاراً، والأمر عينه يسري على ما سمّاه «الثبات في مواجهة أعتى قوة عسكرية» و«الاستمرار في المواجهة». ويعتبر حزب الله نفسه منتصراً لأنه تفوّق في أدائه على كل الجيوش التقليدية التي سبق أن حاربت إسرائيل طوال فترة الصراع العربي ــ الإسرائيلي. وهذا يشمل قدرته على صدّ التوغّل الإسرائيلي وإلحاق أضرار جسيمة في صفوف الجيش الإسرائيلي، بالإضافة إلى نجاحه في نقل الصراع إلى داخل إسرائيل من خلال الهجمات الصاروخية. صحيح أن هذه الأهداف القصيرة المدى هي وراء تماسك حزب الله واستمراريته، إلاّ أنه كان يرمي أيضاً إلى تحقيق أهداف استراتيجية على رأسها تحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر. وفي أحد خطاباته أخيراً، أيدّ نصر الله كلام شمعون بيريز على أن الصراع العربي ــ الإسرائيلي هو صراع وجودي بالنسبة إلى إسرائيل. وتأسيساً على مفهومي «تحرير فلسطين» و«تدمير» إسرائيل، أعطى نصر الله معنىً لتصريح بيريز عن «الحياة والموت» على أنه مؤشر على مخاوف إسرائيل من تداعيات أي انتصار لحزب الله على مستقبل الدولة العبرية. وكما قال نصر الله «عندما يفقد شعب هذه الدولة الطارئة ثقته بجيشه الأسطوري تبدأ نهاية هذا الكيان لأن إسرائيل هي دولة أقيمت لجيش، وليس لإسرائيل جيش لدولة». ويصوّر حزب الله الدولة الإسرائيلية خاضعةً لجيشها، الأمر الذي يفسّر طبيعة هذه الدولة وهويتها وتأسيسها. واستناداً إلى هذا التحليل، فإنه بمجرد أن تلحق بالجيش الإسرائيلي الهزيمة الأولى حتى تهتزّ أسس هذه الدولة وتبدأ إسرائيل بالزوال.
الأهداف السياسية
ثمة هدف مركزي آخر لحزب الله هو مواجهة مشروع واشنطن لبناء «شرق أوسط جديد» والحؤول دون تمكين أميركا من تحقيق هدفها في لبنان والمنطقة. ومن وجهة نظر حزب الله، فإن القوى الوحيدة القادرة على وقف خطط الولايات المتحدة هم اللاعبون الأساسيون في المحور الاستراتيجي الذي يضم سوريا وإيران وحزب الله وحماس. ولهذا السبب، تسعى واشنطن إلى إزالة هؤلاء اللاعبين من طريقها، بدءاً بحزب الله في لبنان. وما عزّز هذا التوجّه هو تصميم الحكومة الأميركية على تصوير الصراع الراهن جزءاً لا يتجزأ من الحرب على الإرهاب ومن أجندة الرئيس جورج بوش لنشر الحرية، وهذا ما تبدّى جليّاً من خلال تركيز الرئيس الأميركي على أن حزب الله «يرغب في القتل واستخدام العنف من أجل وقف انتشار السلام والديموقراطية»، واعتباره هذه الحرب «جزءاً من صراع أكبر وأوسع بين قوى الحرية وقوى الإرهاب في الشرق الأوسط». ويعتقد مسؤولو حزب الله بأن القدر قيّض لهم أن يواجهوا هذه الخطة الملعونة وأن يُحبطوا أهداف هذه الحرب التي من بينها فصل لبنان عن تاريخه والتزاماته وثقافته وهويته الحقيقية ليصبح لبنان أميركياً ــ صهيونياً.
وكما يقول محمد فنيش، إن حرب حزب الله مع إسرائيل باتت «تأكيداً على حق شعب في مواجهة الاحتلال ورفضاً للنزعة الأميركية الإمبريالية». ومن خلال منع الأهداف الأميركية من التحقق، سيتمكّن حزب الله من «صدّ الخطة الأميركية» في المنطقة «ليس بأهدافها فقط وإنما بنتائجها أيضاً». إن ربط حزب الله بين نتائج المعركة الراهنة ونجاح أو فشل خطة الشرق الأوسط الأميركية، تبدّى جلياً في كلام نصر الله حين أعلن أن المعركة الراهنة «تتخطّى لبنان.. إنها معركة الأمة»، معركة سيتردّد صداها في أرجاء منطقة الشرق الأوسط بأكملها. ونظراً إلى الشعبية الكبيرة التي بات حزب الله يتمتّع بها في الأوساط السنيّة العربية والمجموعات الإسلامية، ستخلّف نتيجة هذه الحرب تداعيات ليس على الأهداف الأميركية في المنطقة فحسب بل على الأهداف الإسرائيلية أيضاً، وكذلك على ما يسمّى الأنظمة العربية «المعتدلة»، هذه الأنظمة التي يشهد إذعانها للوجهة الأميركية ــ الإسرائيلية على المزيد من اللامبالاة.
* أستاذة مساعدة في الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت. مؤلفة كتاب «حزب الله: السياسة والدين» (منشورات بلوتو، لندن، 2002).