أنيس نقاش*
أحسنت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس عندما كشفت عن الأبعاد القصوى للعدوان الذي شنّته القوات الصهيونية على لبنان بقولها إنه سيؤدي الى ولادة شرق أوسط جديد، ولأننا نعلم بأن لبنان لا يمـــــثل وحده هــــذا الشـــــرق الأوســـــط فالأمور تصبح واضــــــحة تمـــاماً: الــــولايات المتحدة والعدو الصهيوني يرغبان من خلال حربهم على لبنان الـــــتأثير على ساحات أخرى وبـــلدان أخرى، ومن خلال هذا التأثير، وربما استكمال الهجمات على ساحات أخرى، استكمال عملية بناء شرق أوسط جديد.
هذا يعيدنا الى دراسة كان قد كتبها روبرت ساتلوف، مسؤول مركز دراسات واشنطن للشرق الأوسط، بعد عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري وبدء ظهور ما سمّي أميركياً بعد ذلك ثورة الأرز. كتب ساتلوف حينها، أن لبنان مهم لعدة أسباب لخّصها بالنقاط التالية:
1 ــ تعدّد الطوائف في لبنان وتأثير أي عملية تفاعلية بين هذه الطــــوائف على الطوائف في المنطقة برمتها.
2 ــ وجود لاجئين فلسطينيين في لبنان، ما يجعل أي تحوّل سياسي في هذا البلد يؤثر على مسألة عودة هؤلاء اللاجئين أو حلّ قضيتهم.
3 ــ ارتباط حزب الله بالمقاومة الفلسطينية وتأثير أي تراجع لحزب الله بالضرورة على المقاومة الفلسطينية.
4 ــ تأثير السياسة اللبنانية الداخلية والخارجية ودور لبنان الإعلامي على ما يحصل في سوريا، ما يجعل من هذا البلد محرّكاً أساسياً لأي عملية تغيير في سوريا.
5 ــ ارتباط حزب الله بإيران سياسياً، وباعتباره قوةً مسلّحةً تشكّل امتداداً للنفوذ الإيراني، ما يعني أن تراجع دور حزب الله أو سحب سلاحه نوع من الهزيمة لإيران وتراجع لدورها الإقليمي.
في ذلك الحين لم يكن هناك حرب، ساتلوف والإدارة الأميركية كانوا يعوّلون على أدوات وأساليب مختلفة لإجراء عملية التغيير ونقل لبنان من موقع المقاوم والمتصدّي للمشاريع الأميركية الاسرائيلية، الى متعاون وأداة لهذه المشاريع، وذلك عن طريق ثورة الأرز الشبيهة بالثورات الوردية والملوّنة وغير البريئة التي وقعت في بلدان أخرى، كجورجيا وأوكرانيا وبولندا وغيرها.
عندما فشلت هذه الثورة المزعومة في تحقيق أهدافها وفشل القائمون عليها في القيام بأي دور جدّي يؤدي الى سحب لبنان من خانة المقاومة الى خانة التبعية، بدأت الإدارة الأميركية بالتهديد والوعيد لقوى إقليمية تعتبرها مساندة لمقاومة لبنان ومسؤولة عن فشل عملائها من تحقيق أي شيء يذكر حتى استحقّوا لقب الهامشيين على رغم أنهم يقبضون على مفاصل الحكم وأجهزة الأمن.
عندها لم يكن أمام الولايات المتحدة واسرائيل سوى اللجوء الى القوة العسكرية وبدأوا عدواناً همجياً على لبنان ظنّاً منهم أن هذه الحرب ستوصلهم الى أهدافهم التي فشلت ثورة الأرز في تحقيقها سلمياً عن طريق الاحتيال السياسي.
فشل الحملة العسكرية وانفضاح قوات العدو وانكشاف قدراتها أمام المقاومة أسّسوا لنكسة المشروع الأميركي وللطموحات الصهيونية. وتحوّل حلم النصر وتوجيه الضربة القاضية للمقاومة من أجل استكمال ما فشلت فيه قوى ثورة الأرز، ومن ثم استكمال سيناريو ساتلوف بالتأثير بالتواتر والانتقال بالمشروع إلى ساحات أخرى، فيؤدي هذا الأمر إلى ولادة شرق أوسط جديد. هذا الفشل في لبنان لا يوازيه سوى فشل الحملة العسكرية لاحتلال العراق الذي أدّت إليه المقاومة الباسلة التي يقوم بها الشعب العراقي، إضافة الى إفشال أهداف هذه الحرب على العراق.
ولأن العراق أصبح نموذجاً يدرس بدقة لمعرفة نقاط القوة والضعف عند العدو وخاصة الأساليب والوسائل التي يستخدمها، فمن الواجب تسليط الضوء على ما حصل جزئياً في العراق للاستفادة من بعض العبر.
مع سقوط بغداد ونهاية عملية الغزو وإتمام السيطرة على العراق كان من المفروض أن يتصدّر قيادة العملية السياسية والعسكرية وعملية بناء الديموقراطية وبناء البلد الجنرال غارنر. واختيار الجنرال غارنر لم يكن صدفة بل لكونه كان المسؤول لفترة طويلة عن العلاقة مع الأكراد في العراق وكان نجاح تجربته في بناء مجتمع سياسي تابع للســـياسة الأمــــيركية السبب في اختياره لهذه المهمةولكن سرعان ما استُبدل غارنر بالحاكم المدني بريمر رغم أن غارنر، بحسب المعلومات، كان الشخص الأكثر اهتماماً بقراءة الخطة التي وضعتها بعض مراكز الدراسات من أجل إعادة إعمار العراق. اختيار بريمر كان يعود إلى أن الأهداف قد تغيرت ولم يعد المطلوب إعادة بناء فقط بل عملية سياسية تطلب إعادة صياغة المجتمع العراقي وتكوين أحزابه ودستوره وقوانينه وشكله السياسي، وكان بريمر المتخصص بهذه المسألة خير من يقوم بهذه المهمة بنظر الإدارة الأميركية.
ولكن مع تصاعد دور المقاومة تبيّن للإدارة الأميركية أنها أمام حالة تمرد كبيرة وقوى منظّمة مصمّمة على مقاومة الاحتلال وأصبحت المهمة الأولى ضرب المقاومة. عندها استُبدل بريمر بنغروبونتي صاحب الملف الحافل في دول أميركا اللاتينية حيث حارب، من خلال جرائم معروفة، القوى الثورية في هذه البلاد وأهمها في الهندوراس.
مع وجود نغروبونتي بدأت الولايات المتحدة والقوات المتحالفة معها والدول المؤيدة من خلف الستار لأهدافها أكبر عملية سرية لمحاربة المقاومة من خلال برامج يعرفها نغروبونتي الاختصاصي في محاربة القوى الثورية من خلال العمليات السرية التي تسيء للمقاومة وتفرّق بينها وبين الشعب العراقي. وعند فشل نغروبونتي في هذا الدور ومع استمرار صعود المقاومة لم يعد هناك من طريق وسبيل أمام الولايات المتحدة التي لجأت الى سفيرها الأخير زلماي خليل زادة الذي عُرف بنظريته الشهيرة المتخصصة بتفكيك المجتمعات من أجل إعادة تركيبها. وفي هذه المرحلة شاهدنا صعوداً كبيراً لسيناريو الحرب الأهلية التي تمزق العراق. وبذلك تمظهرت نظرية الفوضى الخلاقة بأبشع صورها في العراق لتصبح مثالاً لأبشع الجرائم والمشاريع التي تريد الولايات المتحدة تعميمها في المنطقة من أجل ولادة شرق أوسط جديد.
إن هذه التجارب التي تمتد من أفغانستان الى لبنان وفلسطين مروراً بالعراق توضّح لنا التالي:
1 ــ إن الولايات المتحدة تستخدم عدة أساليب لتحقيق أهدافها تبدأ بالثورات الوردية غير البريئة مروراً بالسيطرة على الإعلام وإعادة تأليف التركيبة السياسية والاجتماعية لدول المنطقة حتى الوصول الى تفكيكها من خلال زرع عمليات الفتنة والفوضى البنّاءة.
2 ــ إذا فشلت الأساليب المدنية والعمليات السرية وزرع العملاء في الوصول الى أهدافها تلجأ الى القوة المسلحة للتدمير والاحتلال وإخضاع المنطقة بالقوة.
3 ــ إن كل هذه السيناريوهات لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال وجود قوى داخلية أبدت أو تبدي استعدادها للتعاون في مشاريع العدو.
4 ــ إن كل هذه السيناريوهات تستهدف إسقاط كل مفاهيم المقاومة والوحدة والروابط الاجتماعية والتاريخية والسياسية للأمة، لذلك نجدها جادة في ضرب مفهوم الأمن القومي وضرب مفهوم التضامن بين شعوب الأمة لضرب أي تعاون بين القوى المقاومة، وتسعى إلى عزل الدول الممانعة بعضها عن بعض وفرض الحدود والشروط التي تقسّم القوى عوض توحيدها.
إن العدو يسعى إلى استبدال مبدأ الوحدة والتضامن بين قوى الأمة بالوصاية الدولية.
إن العدو يسعى إلى ضرب المفاهيم وزرع الفتن وإسقاط كل ساحة على حدة والانفراد من ثم بالساحات الأخرى.
لذلك كله فإن الرد لناجع على كل هذه الاستراتيجيا التقسيمية ونظريات الفوضى البنّاءة والحروب الاستباقية وفرض الوصاية الدولية لا يكون إلا بالرد الشامل عليها.
والرد الشامل على هذه الاستراتيجيات لا يتم إلا باستراتيجيات توحيدية تتجاوز الحدود الجغرافية لخرائط سايكس ــ بيكو ليأتي النضال على عكس نظريات التقسيم الجغرافية. الرد الشامل يجب أن يتجاوز بتشكيلاته التنظيمية والحركية حدود الطوائف والمذاهب لكي يلتفّ على مخططات الفتنة والفوضى الخلّاقة، من خلال الوحدة النضالية بكل أطيافها القطرية والمذهبية والطائفية لتكون وحدة النضال هذه مقدمة لإعادة بناء خريطة المنطقة الاجتماعية والسياسية والجغرافية، وتكون رافعة للوحدة والتطور والتقدم. إن عدونا متخصص، كما تقول مراكز الدراسات، بإطلاق ديناميكيات الأزمات والفوضى، وعلينا أن نكون متخصصين بإطلاق ديناميكيات المقاومة والنهوض والوحدة وإعادة تشكيل المنطقة من خلال هذا النضال المشترك ليكون نضالنا واعداً بفجر مشرق جديد، لا بإطلاق مقاومة سلبية تلحق الهزيمة بالعدو وتؤسس في الوقت نفسه لتناقضات داخلية أو تجهض الإنجازات على مذبح الأنانيات القطرية والمصالح الطائفية والمذهبية.
وما دام الصراع كله يدور على فلسطين وقلبها القدس الشريف، وما دام الصراع هو حول بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وما أكناف بيت المقدس سوى بلاد الشام التي تضم بين ما تضم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، فليكن الرد على هذه الساحة، وعلى مستوى التحدي بالتشكيلات المناسبة، وعلى مستوى التحدي في كل مستوياته الثقافية التي تحمي المفاهيم، والاجتماعية التي تحمي نهضتنا، وفي المقاومة التي تحمي أرضنا وحاضرنا ومستقبلنا.
إن قلب الشرق الأوسط هو بلاد الشام التي ما زالت خارج الهيمنة الأميركية تعجّ بالمقاومة والتصدي وليس علينا سوى أن نخطط بشمول باستراتيجيا بلاد الشام للرد على هذه الهمجية الوحشية ولإعادة بعث الروح في هذه الأمة ولإعادة مسيرة النهضة وتوجيهها الوجهة الصحيحة في اتجاه التحرر والوحدة.
* رئيس مركز الامان للدراسات الاستراتيجية