دولة الطوائف
أنا لبناني ككثيرين غيري ممن أمضوا حقبة طويلة من حياتهم خارج وطنهم. لكنني، كغيري، لم أنسَ بلدي، بل ناضلت لأدافع عن قضيته على المستويات الإعلامية والسياسية والاجتماعية، منذ مطلع الحرب ونضال الحركة الوطنية اللبنانية، الى مناهضة الاعتداءات الإسرائيلية ولا سيما اجتياح عام 82، وما أعقبها من معارك داخلية انتهت بالقصف السوري لقصر بعبدا والتواطؤ الدولي لإبعاد الجنرال ميشال عون تمهيداً لوصاية سورية تحت المظلة الأميركية، ووصولاً الى مجزرة قانا الأولى، وانتهاءً بانتصار عام 2000، وتحرير معظم الأرض اللبنانية.
كان السؤال الدائم بالنسبة إلي هو هل يمكن لبنان أن يقتدي بفرنسا، لجهة تنظيم التعايش بين مكوّناته المختلفة، وهل يمكن اللبنانيين أن يتصالحوا مع فكرة الوطن بمختلف انتماءاتهم المذهبية وقناعاتهم السياسية وولاءاتهم الإقليمية والدولية؟
في الأيام والأسابيع الماضية، كنا ضحية «القنابل الذكية»، وليتها كانت غبية لربما أخطأت في «اصطياد» أطفال قانا ومروحين والشياح وصور... لكن تلك القنابل التي عكست الهمجية الإسرائيلية تدفعني الى التساؤل عما إذا كانت تسمح بقيام جيل يرضى بالسلام مع العدو.
على مستوى السياسة الخارجية، نجد أن الدول عامة تحصر قنوات التعامل مع الخارج بوزير الخارجية ومستشاريه والسفراء، وبالتنسيق مع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.
أما في لبنان، فإن لكل حزب وطائفة وزعيم سابق وحالي ومستقبلي «وزيراً» خاصاً للشؤون الخارجية، الأمر الذي ينتج عنه مواقف متعددة ومتباينة تؤدي الى انعدام ثقة العالم الخارجي بنا، فضلاً عن تزعزع ثقة الأفرقاء السياسيين بعضهم ببعض. إن الخطأ يجرّ الخطأ، فغياب صانعي القرار الواحد الموحّد والمُلزم لكل أبناء الوطن، والمطبّق بعدل على كل المواطنين، بمعزل عن الطائفة والمنطقة التي ينتمون إليها، أدى الى سيادة شريعة الغاب حيث لا رقيب ولا حسيب.
أما لاستعادة هذه الثقة الضائعة فإنه لا بد من إيجاد ظروف حياة عادلة يتساوى فيها أبناء الوطن الواحد أمام القانون، من أعلى الهرم الى أسفله. فعلى سبيل المثال، نجد أن المسؤول السياسي أو الزعيم الإقطاعي أو ابن السلطة «البار» يقدم على انتهاك القواعد القانونية من أبسطها كتلك المتعلقة بإشارات السير، الى أكبرها... وينتهي الأمر معه «بقلب الصفحة»، أما المواطن فيُباع ويُشترى بالأموال الانتخابية، بطريقة مباشرة وغير مباشرة من دون حسيب. اليوم نعيش أكبر أزمات الحكم على صعيد إعادة إعمار الوطن. البعض يتّهم حزب الله بتفرّده بقرار التعويض عن المتضررين من الحرب الإسرائيلية على لبنان، ولكن قبل المسارعة إلى اتهام حزب الله، علينا أن نسأل لماذا بادر الحزب الى تحمّل هذه المسؤولية، وعلينا أن نسأل المسؤولين والقيّمين على الدولة عن سبب تلكؤهم عن القيام بهذه المهمة؟، مَن يتّهم حزب الله بتجاوز منظومة الدولة ينسَ التجاوز اليومي للدولة من الجهات نفسها التي تنتحل صفة الحرص على الدولة، ويغفل ملاحظة تلك المساعدات الدولية التي وصلت الى مؤسسات خاصة تابعة لبعض المسؤولين، بدلاً من أن تصل الى الهيئة العليا للإغاثة ومؤسسات الدولة.
مَن يراقب يشعر بأن لبناننا هو مجموعة مزارع، ولكل مزرعة تقاليدها وحاكمها ومصالحها وانتماؤها الخارجي ومصادر تمويلها. والسبب أن لكل طائفة مصالحها الخاصة المستقلة عن مصالح الطائفة الأخرى. والمضحك أننا وبعد كل الدمار الذي ألحقته بنا إسرائيل، نسمع إدانة لتحالف حزب الله مع إيران (عسكرياً ومادياً) ومع سوريا، وفي المقابل نرى السفراء والموفدين لا يكفّون عن إملاءاتهم على هذا أو ذاك من الأفرقاء وتوزيع شهادات حسن سلوك عليهم. ومع ذلك، بدلاً من أن نسمع رفضاً للتدخل الأجنبي مهما كان مصدره (سوري، إيراني، أردني، سعودي، مصري، فرنسي، أميركي، بريطاني...) نجد التنديد بالإيراني، وشرعنة إملاءات الآخرين تحت عنوان «رغبات المجتمع الدولي». فهل يحق للأميركي والفرنسي والبريطاني ما لا يحق لغيرهم؟!
إن الحل والمخاض وولادة لبنان الجديد غير ممكنة إلا إذا وقف، كلٌّ منّا، وقفة الرفض لأي تدخل خارجي. عندها فقط لن نحتاج لحماية أنفسنا من أي تدخل خارجي، لأنه لن يكون هناك مكان بيننا لهذا السفير أو ذاك الموفد الدولي. وعندها لن يكون هناك حاجة لنزع سلاح حزب الله لأنه لن يعود قائماً أو موجوداً.
محمد إ. صفا- أستاذ جامعي