ماجد عزام *
بترقّب واهتمام شديدين تابع الشارع الفلسطيني كما النخبة السياسية الفلسطينية أحداث وتطورات حرب لبنان الثانية. كان ثمة تعاطف كبير في الشارع مع المقاومة وحزب الله وكان ثمة إجماع على أن هذه الحرب ستترك تداعيات هائلة على فلسطين أيضاً، غير أن النخبة السياسية تابعت الحرب بشكل مختلف يعتمد أساساً على البقعة أو الأرضية السياسية والفكرية والثقافية التي تتمترس أو تقف عليها القوى السياسية المختلفة، وعموماً يمكن القول إن ثمة تيارين أساسيين على الساحة وهما تيارا التسوية والمقاومة تابعا تلك الحرب وحاولا الخروج بنتائج واستخلاصات أولية تدعم المقاربات السياسية التي يطرحها كل تيار تجاه الصراع الفلسطيني الاسرائيلي وتعقيداته.
تيار التسوية أو تيار السلطة وللدقة تيار رئيس السلطة والمحيطين به من حركة فتح راقب الحرب بأمل في أن تنجح اسرائيل في توجيه ضربة قاضية لحزب الله تترك أثرها وتداعياتها على المقاومة الفلسطينية وركنها الأقوى المسيطر الآن على الحكومة أي حركة حماس، هذا التيار تلقّى إشارات واضحة من وزيرة الخارجية الأميريكية كوندوليزا رايس لترتيب البيت الداخلي والاستعداد للمرحلة الجديدة المقبلة أو مرحلة الشرق الأوسط الجديد وفق التصور الأميريكي والمفترض أن يخلو من كل بؤر المقاومة والممانعة لتؤول القيادة مرة أخرى الى تيار التسوية المستعد للتساوق والانضواء تحت أجنحة المشاريع والخطط الأميركية والاسرائيلية بحجة أن لا خيار أو طريق أمام الفلسطينيين سوى الاستجداء للحصول على ما تسمح به موازين القوى من حقوق وآمال وطنية. وحتى بعد جلاء غبار الحرب واتضاح حجم الانتصار الاستراتيجي الذي حققه حزب الله على جيش الاحتلال ونوعيته لم يغيّر هذا التيار قناعاته وحاول التصرف على طريقة النعام والهرب من الاستخلاصات الصائبة والمناسبة للحرب، فاعتبر أن قرار مجلس الأمن سوف يؤدي الى طرد حزب الله من الجنوب ونزع أسلحته وإرسال قوة دولية الى هناك، الأمر الذي يتمنى هؤلاء تكراره ونقله الى فلسطين، والأدهى من ذلك هو فهم الحلقة المقرّبة والضيقة المحيطة بالرئيس عباس للحرب وتداعياتها التي تُظهر كمّاً من الانفصام والانفصال وفك الارتباط مع الواقع والمغزى السياسي للحرب، إذ قال أحد هؤلاء بالحرف الواحد: «هناك أجواء جديدة دولية وإقليمية يجب الاستعداد لها والاستفادة منها فالحرب على لبنان خلقت جواً جديداً في العالم العربي، الدول العربية وفي مقدمها المملكة العربية السعودية تتحدث اليوم عن ضرورة توحيد الموقف العربي من القضايا العربية، الدول الأوروبية ترسل اليوم جنوداً الى لبنان وهذه أجواء جديدة ومفيدة للفلسطينيين، فبعد لبنان إما أن نظل في الدائرة نفسها وفي حالة جمود وإما أن نحدث تغييراً على نحو نزيل فيه الذرائع الاسرائيلية لمواصلة العدوان علينا». أما التغيير الذي يفكر به رئيس السلطة فيتمثّل في استغلال الضعف والانكسار العربي الرسمي الذي أفرزته الحرب والتوغّّّل الأميركي السافر للتخلّص من حكومة حماس وتأليف حكومة تكنوقراط لا تلائم ولا تفي بالحد الأدنى الذي توافق عليه الفلسطينيون وتُرجم في وثيقة الأسرى التي يريد محمود عباس القفز عنها باعتبارها غير ذات صلة وتأليف حكومة جديدة توافق على الشروط الدولية المطروحة على الفلسطينيين وتضمن الاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف والاعتراف والإقرار بالاتفاقيات السابقة الموقّعة مع اسرائيل وتجاهل وغضّ النظر عن كل الأحداث والتطورات التي جرت في فلسطين ولبنان خلال الشهرين الماضيين والتصرّف وكأن الرابع عشر من آب يتلو مباشرة الخامس والعشرين من حزيران تاريخ أسر الجندي الاسرائيلي جلعاد شاليت الذي أدى الى حملة تنكيل اسرائيلي أوقعت مئتي شهيد وألف جريح وأدت إلى اعتقال عشرات الوزراء والنواب، وكذلك من الصعوبة بمكان ترتيب الأوضاع على الساحة الفلسطينية وتأليف حكومة جديدة من دون التعامل الجدي والحاسم مع ملف جلعاد شاليت الذي لا يجب أن يتحول الى سيف مسلط على رقاب الفلسطينيين على رغم أنه من المفترض أن يحدث العكس.
التيار الآخر الذي راقب الحرب بتمعّن وعبّر عن سعادته البالغة بنتائجها هو تيار المقاومة الذي راهن على صمود وثبات حزب الله والذي فهم أن المعركة واحدة سواء أكانت في بنت جبيل أو نابلس أو مارون الراس أو رفح، وهذا التيار اعتقد بأن انتصار حزب الله الاستراتيجي لا بد من أن يُترجم في فلسطين عبر الالتفاف على خيار المقاومة كخيار وحيد لانتزاع الحقوق وحتى من أجل التوصل الى سلام عادل وشامل ونهائي في المنطق، إضافة الى ذلك يمكن الاشارة الى أنه ثمة محاولات لدراسة العبر والتجارب واستخلاصها من كيفية إدارة حزب الله للمعركة والأساليب التكتيكية التي اتبعها في مواجهة جيش الاحتلال على أمل الاستفادة منها في المواجهة اليومية الدائرة مع هذا الجيش في فلسطين. حرب لبنان الثانية وما أفرزته من نتائج سلطت الضوء مرة أخرى على مصير السلطة الفلسطينية وعما إذا كان من الأفضل حلّها والتفرّغ التام والكامل لخيار المقاومة الذي أثبت نجاعته وجدواه، أو أنه بالإمكان المزاوجة والملائمة بين عمل السلطة والعمل المقاوم وهي وجهة النظر التي لا تزال تتبنّاها حماس التي تدري أن نتائج الحرب قوّت موقف الحكومة التي تقودها الحركة وراكمت مزيداً من الصعوبات أمام المؤامرات والخطط الهادفة الى إسقاط الحكومة تمهيداً وتوطئةً لإسقاط المشروع المقاوم في فلسطين والمنطقة.
طبعاً لا يمكن الحديث عن قراءات فلسطينية لحرب لبنان الثانية من دون التطرق للأبعاد أو الجوانب الاسرائيلية ولجيش الاحتلال تحديداً الذي غالباً ما تعاطى مع الساحة الفلسطينية كساحة لتنفيس الاحتقانات والإحباطات والعثرات التي يواجهها في لبنان تحت قاعدة أن ما لم يتحقق في بنت جبيل يمكن تحقيقه في نابلس أو جنين حيث لجأ جيش الاحتلال بقيادة شاؤول موفاز آنذاك للاستشفاء من الجرح أو المرض اللبناني ولكن في فلسطين حيث تم الاستعداد مسبقاً لقمع أي تحرك فلسطيني قد يُستشف منه استغلال أو استفادة من الضعف الاسرائيلي الذي تجلّى بالهرب من لبنان، ولذلك لم يكن غريباً أن تُطلق مليون رصاصة في الثلاثة أسابيع الأولى من عمر انتفاضة الأقصى في محاولة لتخويف وإرهاب الفلسطينيين وردعهم وإفهامهم أن ما جرى في لبنان لن يتكرر في فلسطين على رغم أن التجربة أثبتت عكس ذلك كما تجلى في الانسحاب الاسرائيلي الأحادي من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية.
*مدير مركز شرق المتوسط للصحافة والإعلام ــ بيروت