وليد شرارة
في نهاية شهر آب من كل عام، يلقي الرئيس الفرنسي جاك شيراك خطابه السنوي التقليدي أمام مؤتمر السفراء. يتركّز هذا الخطاب عادة على قضايا السياسة الخارجية ويحتل الشرق الأوسط باستمرار حيزاً هاماً منه. أعلن الرئيس الفرنسي منذ سنتين في الخطاب الذي ألقاه في المناسبة نفسها الخطوط العامة للاستدارة الكبرى، وهو التعبير الذي يستخدمه بعض المحللين الفرنسيين لوصف التغيير الكبير الذي طرأ على السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط. وبات من الواضح اليوم أن هذه الاستدارة نهائية ولا رجعة عنها على رغم محاولات شيراك التمايز شكلياً عن السياسة الأميركية.
تناول الرئيس الفرنسي في خطابه الذي ألقاه يوم أمس الوضع في لبنان فتوقّع «أن تُستأنف الأعمال الحربية إذا لم يُتوصّل الى حل شامل ودائم بين الأطراف كلها في المنطقة». وهو رأى أن القرار 1701 يوفّر الإطار لمثل هذا الحل لأنه «يرسم نهجاً سيؤدي الى نزع سلاح الميليشيات وتسوية المشاكل المتعلقة بالحدود بما في ذلك مزارع شبعا». يشكل هذا الموقف قطيعة كاملة مع المواقف السابقة للديبلوماسية الفرنسية التي كانت تعتبر أن التسوية، على قاعدة القرارات الدولية المعروفة الخاصة بالشرق الأوسط، ولا سيما القرارين 242 و 338، التي تنص على الانسحاب الاسرائيلي من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967، هي الطريق الى وقف العنف، أي وقف عمليات المقاومة، والاستقرار في هذه المنطقة. المقاربة الجديدة التي تبنّاها شيراك، والتي تشترط نزع سلاح حركات المقاومة مقدمةً للشروع في التسوية، هي المقاربة الأميركية حتى لو عُبِّر عنها بلغة أكثر ديبلوماسية. ينطبق الأمر نفسه على تعمّد الفصل بين الوضع في لبنان والوضع في المنطقة. كانت الديبلوماسية الفرنسية سابقاً تؤكد ترابط مسارات التسوية وأن حلّ الصراع «الفلسطيني ــ الاسرائيلي»، حسب تعبيرها، هو شرط لا بد منه للسلام الدائم والعادل. تجاهل الرئيس الفرنسي لقضية الجولان المحتل وللقضية الفلسطينية وللقرارات الدولية ذات الصلة بهذه الأخيرة وحديثه عن إمكانية حل دائم وشامل بين لبنان واسرائيل على قاعدة القرار 1701، جميعها مؤشرات هامة إلى أن الاستدارة الكبرى لا رجعة فيها.
مؤشر إضافي على عمق التحوّل في السياسة الخارجية الفرنسية هو حثّ الرئيس الفرنسي إيران على «القيام بالمبادرات اللازمة لتوفير مناخ الثقة» مع «المجتمع الدولي» في ما يتعلق ببرنامجها النووي. فبدل أن يبادر الرئيس الفرنسي قبل أيام الى التقاط فرصة عرض التفاوض غير المشروط الذي تقدمت به طهران، يكرر على مسامع هذه الأخيرة، بلغة النصيحة، الموقف الأميركي الذي تعرفه جيداً.
لقد خفض شيراك سقف الطموحات الاستقلالية لفرنسا الى مستوى كان يصعب توقّعه.