زياد نجار *
هناك من يحاول تدفيع العماد عون الفاتورة السياسية لما يراه «مغامرة حزب الله»، و في هذه المحاولة سعي حثيث لتجريد عون من بطاقته التمثيلية في نادي الصيغة اللبنانية الطائفية. وإذا كان التيار الوطني الحر يتباهى بعلمانيته وخطابه الوطني، وبتوزع مناصريه على مختلف الطوائف، فإن حضوره السياسي في الصيغة اللبنانية يبقى مرتبطاً بقدرته على تمثيل المسيحيين، وهذه ورقة لا يحتمل التيار خسارتها ما دام البلد محكوماً بالتوازنات الطائفية وما دام التيار عاجزاً عن ادعاء تمثيل الطوائف الأخرى أو شرائح العلمانيين. لكن محاولة حشر عون مسيحياً تنطلق من جهل لطبيعة التيار الوطني الذي يمثّل حالة تحوّل جذري في علاقة المسيحيين بمحيطهم اللبناني بعيداً عن منطقي الانعزال والاستتباع اللذين حكما هذه العلاقة.
ليس العماد عون سليلاً للمدرسة السياسية التقليدية التي خرّجت أسلافه من القادة الموارنة، هو لم يأت إلى السياسة وفقاً للمفاهيم التي كانت تحكم البيئة المسيحية في زمانه. لقد مثّل وصول عون في عام 1988 انقلاباً على نظرة سياسية حكمت البيئة المسيحية من خلال عقدة الخوف من الآخر. التهويل بأخطار كبرى تتعرض لها الساحة المسيحية جرّاء هجمة المحيط الإسلامي عليهم، أسس على مدى سنوات الحرب لحالة من الانغلاق والانكفاء، وطبع علاقة المسيحيين بمحيطهم وأترابهم اللبنانيين من بقية الطوائف بالريبة. جاء عون إلى الحكم بمقولة «لبنان أكبر من أن يُبلع وأصغر من أن يُقسم» مسقطاً مقولة «أمن المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار». وكان في استجابة الجمهور المسيحي لهذا الشعار تعبير عن الحاجة للعودة إلى صلب المعادلة الوطنية من خلال دور ريادي يتناسب مع الوظيفة التاريخية التي يحلو للموارنة التباهي بها، وهي دورهم كحارس الهوية اللبنانية. هكذا وجد عون، القائد المسيحي الطامح إلى دور لبناني، والساعي إلى محاكاة الشارع الآخر بلغة جامعة عنوانها الحس الوطني اللبناني، تربة خصبة في المناطق الشرقية التي كانت في حينها مشبعة بخطاب مخالف يدعو المسيحيين إلى حياكة مستقبلهم الخاص والانكفاء إلى كانتونهم تماشياً مع الفرز الديموغرافي الذي اجتهد أصحاب هذا الخطاب في تعميقه.
عندما انطلقت المجموعات العونية السرية في مطلع التسعينيات، كان هناك هاجس دائم يحكمها، يتمثّل في السعي إلى تثمير التعاطف الذي ظهر لدى العديدين في الشارع المسلم تجاه حالة الجنرال عون إلى التزام يعطي الحالة العونية بُعدها الطائفي الآخر الذي تتطلبه صفة الوطنية اللبنانية. بالرغم من تجاوب العديد من الأفراد المسلمين والتزامهم بالتيار الوطني الحر، بقي بناء حالة عابرة للطوائف صعب التحقق لأسباب عديدة ليس أقلها الحرم السياسي الذي كان قائماً تجاه أي محاولة لتجاوز خطوط التماس، وأخذ التيار الوطني الحر صبغة مسيحية طاغية. بالرغم من ذلك، فإن التيار بقي في جوهره حاملاً للنزعة نفسها التي طبعت نشأته، نزعة التمرد على الصيغة اللبنانية القائمة. فالتيار هو قبل كل شيء حالة رفض لواقع الحرب اللبنانية بوجهيها، وجه التدخلات الخارجية ووجه التمزقات الداخلية. لذلك فإن التيار سرعان ما وجد لنفسه مكاناً مريحاً ومقبولاً في البيئات المختلطة، فكان حضوره قوياً في الجامعات المتنوعة.
العماد عون يشذّ عن القيادات الأخرى في كونه مبادراً ومغامراً. لم تكن قراءة عون السياسية محصورة يوماً بما يتيحه المقبول والمتعارف عليه، فلم يسع إلى ملاقاة شارعه ومحاكاة أهوائه بقدر ما سعى إلى جذب هذا الشارع نحو خياراته التي كان يرى فيها خيارات مبدئية، وهذه قاعدة أساسية لفهم سلوك عون السياسي. هذا المنطق، وضع العماد عون في أكثر من مناسبة في حالة تضاد إلى حد العزلة مع محيطه السياسي، حتى إن خصومه نعوا حركته السياسية في أكثر من مناسبة، ليتبيّن مع مرور الزمن أن لعون في المحصلة قدرة فريدة على إعادة جذب مؤيديه و لو بعد حين وبعد تردد، وأحياناً بعد اختبار للخيارات المعاكسة.
إذا كان عون قد واجه العزلة بثقة تامة لا تتزحح بصوابية خياراته، فإن القاعدة العونية عانت ثقل العزلة في العديد من المرات، واقتربت من حد الأزمة إلى أن تعمدت بمعمودية المواقف الصعبة. عند وصول العماد إميل لحود إلى رئاسة الجمهورية، قوبل في مطلع عهده بترحيب شعبي جامح، بدا أن الجنرال الجديد قد خطف أضواء الجنرال السابق. كانت سنين المنفى قد بدأت تتآكل شعبية العماد عون، ومع ذلك خرج عون وحيداً لينتقد العهد الجديد بينما التزمت الطبقة السياسية صمتاً مطبقاً أمام حالة لحود وهو بعد في عزّه. بدا عون صوتاً أعزل، وبدا تياره ريشة في مهبّ الريح، وقيل إن عون انتهى سياسياً. ثم جاءت الانتخابات البلدية فقرر عون خوضها وفقاً لمعايير شبه تعجيزية تحت عنوان ثالوث المحرمات، لا تحالف مع الإقطاع السياسي والمالي والمذهبي، فبقي وحيداً، وقال الكثيرون إن تياره خرج من المعادلة. عندما ضاقت الدنيا بعون بعد سنين المنفى الطويلة، قرر طرق باب الولايات المتحدة، وكان قد تحسس إشارات تغيير ما في السياسة الأميركية التي كانت حتى ذلك الحين لا تزال ناقمة على عون لمعاكسته قرار تلزيم لبنان لسوريا. ذهب عون إلى الكونغرس فانهالت عليه اللعنات حتى من فريق 14 آذار الحالي، وراح رموز هذا الفريق يزايدون في شتيمة عون والدفاع عن سوريا، واسُتبعد أنصاره عن حلقات طلائع معارضة 14 آذار بالرغم من أن عون حرص على تحييد أي طرف لبناني عن الانتقاد أمام الكونغرس.
عندما بدأ التيار الوطني الحر بالبروز على الساحة الداخلية لاعباً محوري من خلال الانتخابات بعدما كانت نضالات هذا التيار تؤول إلى مكاسب توظف في حسابات الأطراف الأخرى، انطلقت موجة التشكيك، فبعد انتخابات المتن الفرعية في حزيران 2002، قيل إن دور التيار لا يعدو كونه إحدى القوى العديدة الداعمة للمرشح غبريال المر. بعد فرعية بعبدا ــ عاليه في آب 2003 التي أبلى فيها حكمت ديب، قيل إن التيار استفاد من ظرف استثنائي. منذ ذلك الحين، لا تكفّ هذه المقولة عن الطرق بقوة. في كل مرة يثبّت التيار موقعه، تستعاد مقولة الظرف الاستثنائي ويبدأ العد التنازلي لانحسار شعبية عون. بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، قيل إن عون فقد شعبيته نتيجة تحالفاته وسعيه إلى رئاسة الجمهورية و«تحالفه» مع حزب الله. وفاجأت فرعية بعبدا ــ عاليه الثانية خصوم الجنرال الذين كانوا أمام فرصة جدية لاختبار مقولتهم عن تراجع شعبية عون، انكفأ الخصوم واتُّفق على بيار الدكاش مرشح الجنرال مرشحاً توافقياً. تعود اللازمة نفسها اليوم، وما على أصحابها إلا وضعها موضع الاختبار لانتزاع ورقة عزيزة يلوّح بها الجنرال في كل حين ليحرج خصومه، وهي أنه صاحب التمثيل المسيحي الحقيقي وأن هشاشة وضع منافسيه تجعلهم في موقع الضعف الشديد تجاهه وتجاه حلفائهم في 14 آذار أيضاً.
حتى تثبت الانتخابات عكس ذلك، سيبقى العماد عون ممسكاً بورقة التمثيل المسيحي، وبالرغم من مزاعم خصومه أن شعبيته في تراجع، لا تبدو عليهم دلائل أي شهية لملاقاته في مطلب الانتخابات المبكرة. عون يبدو مرتاحاً إلى موقعه لأنه، في الحد الأدنى، يملك ورقة واحدة رابحة، هو حيث هو في موقع القيادي لا التابع لأنه لا يدين لأحد بمنّة حضوره السياسي، الأمر الذي يمنحه استقلالية في حركته. لقد اتخذ عون خياره الإستراتيجي منذ مدة، وعامل الوقت سيكون في المحصلة عاملاً إيجابياً لأنه سيسمح بتثبيت خياراته وتمرير قناعاته إلى جمهوره وامتصاص حالة التململ التي قد تنشأ في بداية الطريق، وسيكون بمقدوره الانطلاق نحو موقع وطني ثابت مع توسع قاعدة تياره المسلمة، فيكون بذلك أول زعيم يأخذ المسيحيين إلى أبعاد تتخطى حدودهم الطائفية الضيقة ويؤسس لحالة وطنية جديدة غير مألوفة في الساحة اللبنانية.
* باحث لبناني مقيم في كندا