عصام نعمان *
هدأت الحرب غير أن الحصار بقي سارياً على موانئ لبنان البحرية والجوية. المسؤولون الإسرائيليون تناوبوا على القول إن الحصار لن يُرفع إلاّ بعد استكمال انتشار القوة الدولية في جنوب لبنان وعلى المعابر والمنافذ الكائنة على حدوده الشرقية مع سوريا. لكن رئيس الحكومة فؤاد السنيورة أكّد أن لبنان لن يطلب انتشار القوة الدولية على حدوده الشرقية، وسيكتفي بالاستعانة بعناصر منها غير مسلحة لإدارة تجهيزات تقنيـة للمراقبة. سوريا رفضـت، على كل حال، انتشار القوة الدولية على حدودها مع لبنان وهددت بإغلاقها. الحصار، إذاً، مرشح للاستمرار إلاّ إذا تدخّلت الولايات المتحدة، المتواطئة مع إسرائيل، لرفعـه أو لخفض إجراءاته. هذا الاحتمال ليس قوياً.
ثمة احتمال آخر مثير للجدل: أن تشن إسرائيل جولة ثانية من الحرب على لبنان. رئيس الحكومة إيهود أولمرت ووزير الحرب عمير بيرتس ووزير المال إفراهام هيرشزون اجتمعوا مع مسؤولين دفاعيين وماليين قبيل الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء وقرروا أن حساب كلفة الحرب على لبنان يجب أن يكون جاهزاً بحلول نهاية الأسبوع الجاري. جاء في بيان صدر عنهم أن فريقاً من الخبراء سيضع أيضاً توصيات لموازنة عــام 2007 تتضمن كلفة الاستعداد العسكري «لتحديات مستقبلية». مشاركون في الاجتماع قالوا إن ذلك يعني الاستعداد لجولة جديدة من القتال في حال فشل الهدنة الراهنة مع المقاومة اللبنانية (حزب الله). الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله كان قد استبعد في مقابلة تلفزيونية جولةً ثانية من القتال. قال إن الغاية من الحديث عنها مجرد تهويل لتخويف اللبنانيين وحملهم على الخضوع لشروط إسرائيل. ثم تساءل كيف تكون إسرائيل في صدد جولة ثانية وقد باشرت، تحت إشراف أولمرت شخصياً، في إعادة النازحين الإسرائيليين من الشمال إلى بلداتهم وقراهم ومصانعهم وأعمالهم، وجعلت من إعادة إعمار الشمال أولوية في هذه المرحلة؟
الحقيقة أن لحديث الجولة الثانية ما يبرره. ثمة قاعدة في المذهب العسكري الإسرائيلي تقضي بضرورة «عدم النوم على فشل». حرب إسرائيل على لبنان أخفقت في بلوغ أغراضها، بل تسببت نتيجة المقاومة اللبنانية الضارية في هتك قوتها الرادعة وفي اندلاع أزمة مستفحلة على المستويين السياسي والعسكري. ليس من المستبعد، والحالة هذه، أن يلجأ أولمرت وبيرتس ورئيس هيئة الأركان الجنرال دان حالوتس الى جولة ثانية في المستقبل القريب أو المتوسط لمحو آثار الهزيمة. تزيد في أرجحية هذا الاحتمال ثلاث واقعات:
الأولى، الاستعدادات المعلن عنها، مالياً وعسكرياً، لجولة جديدة من القتال.
الثانية، حرص إسرائيل، وقبلها الولايات المتحدة، على وضــع «حزب الله» اللبناني وحركة «حماس» الفلسطينية ومقاومتهما للاحتلال في إطار «الحرب على الإرهاب» التي تشنها إدارة بوش في شتى أنحاء العالم منذ أحداث أيلول 2001. والحال أن الحرب على «الإرهاب» في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان لم تنتهِ بعد، فلعلها مرشحة لمزيد من التصعيد مع حلول تاريخ حسم «الملف النووي» الإيراني. الحسم قد يتمّ في مجلس الأمن أو قد ينحصر بعقوباتٍ اقتصادية إضافية تفرضها الولايات المتحدة منفردةً على إيران. بكلام آخر، إذا كان قرار الحرب على لبنان قد اتخذته واشنطن في إطار صراعها المتصاعد مع طهران ودمشق بقصد إضعاف حليفهما اللبناني (حزب الله) فإن هذا الصراع مرشح لمزيد من التصعيد في المستقبل القريب على نحوٍ قد يستوجب جولةً جديدةً من الحرب لإضعاف حليف آخر لإيران هو سوريا تحديداً.
الثالثة، قناعة حكومة أولمرت، على ما يبدو، بأن تسليح حزب الله وتدريب مقاتليه وتأمين إمداده اللوجستي تتولاه سوريا في الدرجة الأولى. فقد أبلغ رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية «أمان» الجنرال عاموس يادلين لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست بتاريخ 24/8/2006 أن حزب الله فضّل استخدام أسلحة سورية على أسلحة إيرانية في الحرب، وأكّد «أن معظم الصواريخ، عدا تلك البعيدة المدى من طراز زلزال، كانت من الترسانة السورية لا الإيرانية». ونبّه الجنرال يادلين المسؤولين والنواب إلى نظرة الرئيس السوري بشار الأسد، كما تبلورت في خطابــه الأخيـر، «التي تبدو فيها» طريق المقاومة «والقوة مثمرة تجاه إسرائيل». صحيح أن تصريحاته عن «طريق المقاومة» بدأت قبل الحرب، لكن الحرب أعطت دفعة إضافية لهذه التصريحات. هذه الحقائق والمعلومات توّفر للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، كما للولايات المتحدة، دافعا قوياً لترجيح خيار الجولة الثانية ضد سوريا، ربما في إطار المواجهة المرتقبة مع إيران.
ثمة دافع إضافي لتوجيه الجولة الثانية ضد سوريا، هو أن فشل إسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة، في نشر القوة الدولية على الحدود اللبنانية السورية سيعني استمرار تزويد حزب الله بالسلاح من إيران وسوريا. هذا الفشل المرتقب قد يدفع إسرائيل إلى مهاجمة سوريا لمعالجة المشكلة «من جذورها»، كما تهدد واشنطن دائماً.
ماذا سيكون موقف (أو دور) حزب الله إذا ما شنّت إسرائيل الجولة الثانية المرتقبة ضد سوريا؟ الجواب: سيكون أمراً صعباً للغاية إن لم يكن مستحيلاً انخراط حزب الله في الحرب انتصاراً لسوريا ما لم يتعرض لبنان أو قيادات الحزب وأسلحته ومعداته لاعتداءات سافرة في سياق هذه الجولة. فالقوة الدولية المنتشرة إلى جانب الجيش اللبناني على كامل مساحة «المنطقة العازلة» في جنوب لبنان بين نهر الليطـاني و«الـخط الأزرق» (الحدود) مع إسرائيل ستشكّل عائقاً أمام هجوم إسرائيلي بري وإن كانت لا تحول دونه. غير أن تخطّي إسرائيل هذا العائق بهجوم بري عبر سهل البقاع الجنوبي (ابتداء من محور الخيام ــ مرجعيون الى محور القرعـون ــ جب جنين ــ السلطان يعقوب ــ المصنع ) وصولاً الى طريـق بيروت ــ دمشق، ودعمه بغطاء جوي واسع، سيدفعان حتماً حزب الله والقوى المتحالفة معه إلى دخول الحرب بلا تردد دفاعاً عن النفس وانتـصاراً للبنان وسوريا معاً.
في غياب جولة قتال جديدة ضد لبنان أو سوريا، سيجد حزب الله أن من مصلحته عدم القيام بعمليات داخل إسرائيل والاحتفاظ بسلاحه كقوة رادعة تتكامل تدريجاً مع الجيش اللبناني بما هو منظومة الدفاع الرئيسة عن البلاد. غير أن ذلك يستدعي، أولاً وأساساً، اعتماد خيار تأسيس الدولة القادرة والعادلة، أو إعادة بناء «الدولة» الراهنة، بالتوافق مع القوى الوطنية والديموقراطية الحليفة، في سياق استراتيجيا وطنية متكاملة تعتبر إسرائيل عدواً قومياً وتناقضاً رئيساً وكياناً عنصرياً ومخلب قط شرساً في متناول الإمبراطورية الأميركية.
* وزير سابق