لا تدخل إلى جلسة مع أخصام للمقاومة إلا ويضعون دورها وسلاحها في دائرة الاشتباه أو الاتهام. أصلاً، لا موضوع عندهم يستحق كدّ الكلام، وجهد الشجار، وعرق النضال، أولى منه. الموقف منها لا يتصل براهن الأحداث، حتى يقال إنّ نشاطاتها التي تجاوزت حق الدفاع عن لبنان في وجه العدو الإسرائيلي إلى الانتشار في ساحات الإقليم، هي سبب ما يمور وينهض من اعتراضات قاسية وانتقادات فجّة، بل الأمر يعود في الأساس إلى نوع الخيار الأيديولوجي الذي يؤبّد رغبتها في إزالة «العدو الإسرائيلي»، سواء اتصل هذا الخيار بمشاعر وآماني القوميين العرب الأولى التي تريد استعادة فلسطين «من البحر إلى النهر»، أم بالتوهّج الثوري الإيراني الذي يلحظ في عقيدته الدينية واستراتيجيته العسكرية «إزالة إسرائيل من الوجود». وبرأيهم أنّ المقاومة حينما تنشدّ إلى المدار «العروبي» أو «الفارسي» تجعل لبنان عرضة للأهوال وساحة تفيض بالنفوذ الخارجي، كما أنّ استقلالها بقرار الحرب يؤول إلى وضعٍ يفوق قدرة البلد الصغير على التحمّل ويرتّب كلفةً باهظةً على كل مواطن. ثمّ كيف يمكن القبول بأنّ يجاور الدولة مَنْ يُضيّق عليها فسحة السيادة والسلطة والدور وينافسها المكان ويضارعها السمات؟ والإجابة على إشكاليات الخصوم له مداخل كثيرة، لكن المدخل التاريخي والوعي النظري بسياقات الصراع مع العدو الإسرائيلي وصولاً إلى اللحظة الحالية، مهم لمعرفة أنّ المقاومة لم تنشأ من إلزامات الثورة الإيرانية ولا قامت على محددات وتعريفات المدّ القومي الناصري. هي في الأساس تركيب محلي خالص تشكّل رداً على الاعتداءات الإسرائيلية التي هددت أرض اللبنانيين بالضياع التام ووجودهم بالفناء الكامل.
الذي يشكو
من فائض التدخل
الخارجي
تراه لا يكترث
لما تفعله الولايات المتحدة
والرواية التاريخية التي توّثق بدايات الاعتداءات على جنوب لبنان بعيدة عن التزيين والتمويه والتمثيل، والشواهد على الأحداث الأليمة التي وقعت ونقلتها وسائل الإعلام السمعية والبصرية والمقروءة أكثر من أن تحصى، وكلّها تُضيء على حقيقة المشهد ومسارات العمل المقاوم الذي انطلق على قاعدة الاعتبارات الوطنية والقومية وحتى الأممية وذلك قبل أن ينشأ حزب الله. المناخ العام في لبنان منذ الستينيات تقريباً وهو يشتعل بالشعارات الثورية، والميدان يعجّ بالتيارات المقاوِمة التي تنوّعت هوياتها وخلفياتها العقائدية والسياسية، قبل أن تنضج على نار الوعي التاريخي حركة جديدة هي نتيجة طبيعية للتفاعل بين الموروث والوافد داخل ساحة الصراع مع العدو الإسرائيلي التي طرأت عليها الكثير من المتغيّرات والتبدّلات. وبما أنّ العمل المقاوم هو شكل مفتوح ومرن، فإنّه يظل دائماً في حالة صنع ونمو وتراكم وتعرّف وبحث على الآليات والصيغ الثقافية والثورية، ولا شكّ أنّ صعود الثورة الإسلامية الإيرانية على مسرح الأحداث دفع الحركة الوليدة لمحاكاة تصوراتها الإنسانية والتحمّس لنموذجها القيمي والقبول بها كحاضنة بعدما تخلّى النظام الرسمي العربي عن حماية سيادة لبنان وعن رفد قوى وفصائل المقاومة بتشعباتها المختلفة بالغطاء السياسي والدعم المادي والعسكري.
إذاً، المقاومة من منبت لبناني أصيل وليست نتاج فرض خارجي، وقد استندت في ولادتها وتفاعلاتها وتطورها واستمرارها إلى واقع تاريخي ومتغيرات حصلت في البنيتين المحلية والإقليمية على حدّ سواء. فمَن يشكو من نشأتها إلى جوار الدولة، فلأنّ الدولة كانت منقوصة السيادة، مسلوبة الإرادة، مشلولة القِوى، مقطّعة الأوصال، محدودة الخيارات، مقيّدة بقيود طائفية تمنعها أن تكون دولة عميقة بمؤسساتها، وجدّية في الدفاع عن مواطنيها. ومن الطبيعي بحسب المنطق الفيزيائي أنْ يأتي من يملأ الفراغ وأن تتوثب قوى لتلبث في المساحات التي انسحبت منها الدولة، لكنّ الفارق بين المقاومة وأحزاب مارست العمل المقاوم فلسطينية كانت أم لبنانية، أنّها لم تعزز هويتها الأيديولوجية عبر الانفصال عن مشروع الدولة أو مواجهته، ولا سخّرت نفوذها وانجازاتها على حساب فكرة الوطن، ولا مارست عصبية الانعزال الطائفي، بل كان الدم المسال والتضحيات الجسام تصبّ كلّها في إطار تدعيم بنية الدولة وتقويتها وإعادة العمل لمحركاتها للحفاظ على الوطن وتجنيبه كأس التقسيم وأشكاله الدرامية الدامية. فمَنْ يُلام في هذه الحالة المقاومة التي لا ترغب بممارسة دور الدولة لا أصالة ولا وكالة، أم الدولة التي أدارت ظهرها للعدو والمواطنين وأعفت نفسها من موقف شجاع لأنّها تخاف المسؤولية ولا تريد تحمّلها؟
ومن يشكو من دعم إيران لها، فلأنّ الدول الغربية الكبرى التي «تُقدَّس ديمقراطياتها ويُبرز حرصها على حقوق الإنسان»، لا تجد مصلحة لها في دعم بلد يقف في وجه الكيان الإسرائيلي. فكيف تدعم لبنان حين يُمسي عاقد العزم على الدفاع عن نفسه في وجه خروقات وانتهاكات الحليف الإسرائيلي الذي أنشأته ليضمن مصالحها؟ أو كيف تدعم مقاومة في عقيدتها إعدام إسرائيل وإفناؤها من الوجود؟ أمّا الدول العربية فبعضها متورط بالتبعية المطلقة للغرب وليس لها حظ من الاستقلال والإرادة الحرة لكي تُقدم على خطوة مناقضة لوظيفتها، وأخرى تخشى أشد الخشية القيام بأيّ مسعى أو نشاط أو تحرّك داعم للمقاومة يُدخلها في تعقيدات أو عمليات صراعية مع أنظمة الاستعمار هي في غنى عنها! فمِن أين نأتي بدولة عربية أو غربية بديلاً عن إيران إذا كانت الدول الغربية والعربية إما ضالعة بمساندة "إسرائيل" على جرائمها وإمّا نائية بنفسها إلى أقصى الحدود الممكنة.
ومن يشكو من مصادرة المقاومة لقرار الحرب، وهو زعم غير صحيح، ينسى أنّه بهو مَن يصادر قرار الدولة بالدفاع عن شعبها. فمنذ أن نشأت هذه الدولة وهناك استئثار نخبوي يعرقل أي توجه يمكّنها من أداء مهمّاتها في حماية البشر والحجر. لقد ظلّت الدولة محكومة بخطوط المصالح الطائفية والحزبية والجهوية، وعجزت عن تدبّر صيغة لضمان سيادة البلد. وموقفها الرسمي المكرر حتى اللحظة قائم على مناشدة الدول الغربية والعربية للمساعدة. وهذا ما أفضى إلى ضعف هيبتها أمام مواطنيها واعتمادها على مصادر المعونات الخارجية لمعالجة تراخي الوشائج بين الأطراف المكوّنة لها أو لمواجهة مخاطر تتجاوز السقوف المتفق عليها إقليمياً ودولياً لاستمرارها. ثمّ ألا يسأل هؤلاء الشاكون ما معنى مصادرة المقاومة لقرار الحرب؟ هل يعني أنّ المقاومة تتعمد توريط لبنان بحروب عبثية، وأنّ ما قامت به سمته الجنون والعنف الأعمى والجري وراء مصالح مذهبية أو تحقيقاً لغايات حلفائها؟ هل تحرير لبنان عام 2000 يصبّ في خانة مصادرة قرار الحرب؟ هل مطاردة الاحتلال من مزارع شبعا مصادرة قرار الحرب؟ هل في الرد على الانتهاكات الإسرائيلية اليومية في البر والبحر والجو مصادرة قرار الحرب؟ وعندما يحار الشاكون في الإجابة ويلوذون بالصمت أو الهروب إلى تجريديات تنفع بلاداً مثل السويد والدنمارك وليس لبنان، نراهم يتموضعون بمقولة: مَن خوّل المقاومة الدفاع عن لبنان؟
نعم، مَن خوّلها هو نفس وجود الاحتلال الإسرائيلي بدوافعه العدوانية، وهو نفس غياب الدولة التي لم تُعنَ لكرامة مواطن ولم تأبه لتغوّل عدو، وهو نفس منطق اللامبالين في هذه الحياة الذين لا يعلمون أنّ السير على طريقتهم مدعاة للذل والهوان والسحق وزوال الوطن الذي به يسرحون ويمرحون. وكأنّ بقاء الأوطان يكفي فيها التنظير و"حب الحياة» وحسن النية بالدول الكبرى والمؤسسات الدولية!
ومن يشكو من فائض التدخل الخارجي تراه لا يكترث لما تفعله الولايات المتحدة الأميركية في بلدان المنطقة ومنها لبنان. فأميركا (دولة عظمى) لا يُندد بسياساتها العدوانية وتدّخلاتها في شؤون الإدارة والقضاء والمال والغاز والجيش والأمن والإعلام إلى آخر التفاصيل التي لا حصر لها، وسفيرها تماماً كالمندوب السامي يحظى دائماً بالتكريم والحفاوة ويقرر لنا (رئيس جمهوريتنا أو الفوضى)! فهل يمرّ استحقاق من دون رضا أميركا؟ هل في تاريخنا ما يؤكّد أنّنا كنّا أسياد قرارانا أم أنّ سفراء الدول الكبرى كانوا يقررون ما يوافق مصالحهم ويعطلون ما يناقضها؟ عجيب أمر هؤلاء الشاكين. فلماذا تحظى دول كأميركا وفرنسا وبريطانيا بترحيب وتفهّم لسياساتها ويُتعاون معها ويُتملق لها ويُتودد لممثليها، وهي التي قسّمت بلادنا وتعاونت مع عدونا ضدنا وسكتت عن جرائمه بحق شعبنا، بينما تُشترع خطوط حمر عريضة حين تُقدم إيران على مساعدة لبنان على استعادة أرضه!
لا يوجد دولة لا تحتاج إلى دولة أخرى ولا يوجد شعب لا يتفاعل مع شعب آخر، لكنْ لماذا ادعاء القوة أمام إيران والتبجح بالسيادة بينما مع أميركا يُتخذ الخضوع قاعدة في العلاقات؟ ولكن يبدو أنّ من مظاهر التشوه في الحالة اللبنانية صعود طبقة من الوسطاء الطفيليين احتلت مساحة إسفنجية ضخت منها مفاهيم مشوّهة، واستحْلَت جعل الدولة منطلق انتفاع شخصي، فهزلت على أيديها قدرة الدولة على تعريف مصالحها، ثمّ صغّرت مرآى البلاد أمام العالم وشعوبه.
ما يحصل اليوم من تهجّمات واتهامات وتحريض من هذه الطبقة على المقاومة لا علاقة له بالتوجيه والنصيحة والشغل النقدي، لأنّه ليس المطلوب تصحيح خطأ في بعض المسارات أو إعادة النظر في بعض الوسائل والطرق والأولويات، أو العمل على بناء استراتيجية دفاعية تمثل كافة شرائح وتيارات المجتمع اللبناني لئلا تنفرد جماعة بحمل السلاح. لا، الأمر ليس كذلك. بل المطلوب من هؤلاء أن يُنزع سلاح المقاومة وأن يأخذ لبنان موقعاً ينأى بجانبه عن الأحداث على اعتبار أنّ السياسة الآمنة هي في الابتعاد عن الأزمات!
لكن يجب السؤال بوضوح عن طبيعة هذه الطبقة التي تنعق مع الناعق الأقوى الذي يسيطر على الفضاء الإعلامي ويملك المال والقوة العسكرية الضاربة. تهرب من المسؤولية عندما يكون العدو هو "إسرائيل" وتتغافل عن عدو آخر هو الجماعات التكفيرية. فهي حتماً تجد أنّ السباحة مع التيارات القوية يشعرها بالأمان ويحجز لها مكاناً على طاولة المغانم. لقد شاهدنا هذه الطبقة التي تتحكم بمفاصل الدولة طيلة مرحلة تحرير الجنوب وبعده، كيف كانت مستعدة للتنازل عن كل القيم الوطنية من أجل الاقتراب من كرسي الحكم أو الحصول على حظوة عن السيد الفرنسي أو الأميركي. ولنذهب أبعد من ذلك قليلاً ونسأل: عن المتسبب بكل الخراب السياسي والأمني والاجتماعي والاقتصادي حتى هذه الساعة في هذا البلد، ولولا فئة باسلة ومشاكسة لكان تقسّم الوطن ولكنّا عبيداً عند الإسرائيلي أو أضاحي بين يدي التكفيريين.
كل الذي جرى ويجري هو اختبار حقيقي لفئة لبنانية استوعبت مكانها في عمق الأمة وعمق الوطن وعملت بشكل علمي على صنع قوتها الذاتية لتواكب التطورات التاريخية التي من خلالها يُصان الوطن، وأخرى كانت أسيرة شهواتها وعصبيتها وشراهتها في نهب المال العام والاستحواذ على السلطة، وهذا مما تعفّ عنه المقاومة. وفي حالتنا مع هذه الطبقة، التي تأكل ولا تشبع وتسرق ولا تستحي وتهدم الدولة ولا تبالي وتحط من كرامة المجتمع ولا تأسف، ينطبق قول الروائي الإنكليزي جورج أورويل: "كل الصراخ، الأكاذيب، الكراهية، تأتينا من أناس لا يقاتلون".
* كاتب وأستاذ جامعي