على وفق المُؤشِّرات الحاليّة فإنَّ تاء التأنيث ستحكم المُستديرة قريباً بسماتها الدافئة، بسلامها المَرْيَمِيِّ، ومكرها الزليخيّ بعيداً عمّا يُريده البعض أن يُزحزحها من القلب إلى الهامش؛ لتكون الحارسة الأمينة على الذاكرة، وجمع الشتات الإنسانيِّ بأريج خاصٍّ يُوحي بسياسة ورديّة. بات الحديث عن أنَّ الأقطاب النسويّة أقرب اليوم لأن تغزو العالم ما بين رئيسة وزراء بريطانيا مُؤخَّراً ابنتي القسّ ‏تيريزا ماي، وأنجيلا ميركل في ألمانيا، وابنة رجل الأعمال بالنسيج (‏هيلاري كلينتون) قريباً في الولايات المتحدة الأميركيَّة، وكذلك الأمر شمل المنظمة الدوليّة الأكبر، فالبديل عن بان كي مون الأمين العامّ للأمم المتحدة حتى الآن هو امرأة أرجنتينية، وهي سوزانا مالكورا.صعود المرأة على رأس القرار في النظام العالميِّ ليس بالجديد أمام أنديرا غاندي، وبنازير بوتو، والمرأة الحديديّة مارغريت تاتشر، ومادلين أولبرايت، وكوندليزا رايس، وأخريات، لكنَّ الجديد أن تصبح هناك خرائط نسويّة إنسانيّة تُعيد شكل سياسة العالم في الفراغات المنسيَّة كما يتوقـَّع البعض.
جدل التذكير والتأنيث قديم في سجالات الاجتماع، والتاريخ، ولم يقتصر على موضوعات الحقوق الفرديّة فقط، بل شمل كذلك مُفرَدات عالم العلاقات الدوليّة.
ففي عام 1998 كتب الأميركيّ ــ اليابانيّ فرانيس فوكاياما Francis Fukuyama نظريته حول «تأنيث المستقبل»، مفادها أهمية إعادة سلطة المرأة سياسيّاً؛ لأنَّ تأنيث العلاقات الدوليّة -حسب رأيه- سوف يُضيِّق الفرصة أمام الحروب، ولا سيَّما إذا أصبحت تلك المرأة في المجتمعات الديمقراطيّة في موقع القرار السياسيّ؛ لأنَّ المرأة سوف تكون أكثر رأفة بالناس من الرجل، بل أكثر حكمة عند اتخاذ القرارات.
فوكوياما جاء ليُؤكّد انعكاس الأنوثة الرقيقة على علم العلاقات الدوليّة، وهي -بالأصل- تتطابق مع فكرة طرحتها كارول كون Carol Cohn في مقالتها الشهيرة: «الجنس والموت في العلاقات الدوليّة ومُؤسَّسات الدفاع»Sex and Death in the Rational World of Defense Intellectuals، قالت فيها: إنَّ الذكوريَّة في المُؤسَّسة العسكريَّة هي التي ساهمت في صناعة ثقافة الحرب.
عالم العلاقات الدوليّة المملوء باللون الأحمر القاني، وصراعات الحروب الذكوريّة التي صنعها حضرة «السيِّد» هل ستتقدَّم فيه «السيّدة»؟
العنف الذي لم يكن مُقتصِراً على الرجال فقط. وللمزحة يتداول البعض موضوع ماري كوري مُكتشِفة اليورانيوم وهي المادَّة الأساسيَّة في صناعة القنبلة النوويّة لاحقاً بأنها امرأة ليست رسالة سلام نسويّة، بل حتى إن قُدِّر للرجال الدفاع عن موضوع ارتباط العنف بالذكور ألم يكن الرجال المُستبدِّون نتاج رحم نساء، فالمرأة صانعة للرجال. بربرا بيرس صنعت جورج دبليو بوش، وصبحة طلفاح صنعت صدام حسين.
جدل التذكير والتأنيث
قديم في سجالات
الاجتماع والتاريخ

ثمَّة مَن يرى أنَّ النُخَبَ النسويَّة الصاعدة في القيادة السياسيَّة قد لا يتمتعن بقدر كافٍ من نون النسوة من الرقة والأنوثة، وأنه لو لم يتمتعن بالقوة والصلابة لما ارتبط اسم النساء الحاكمات بالمرأة القويّة، والمرأة الحديديّة في المعترك السياسيِّ الفاقد للجوانب المعنويَّة والروحيَّة. مَن يقرأ مُذكـَّراتها سيستشفُّ دور مارغريت تاتشر في حرب الفوكلاند عام 1982 عندما لم تتفاوض مع الجماعات والجيوب الأرجنتينيّة ضدّ بريطانيا، بل جاء ردُّها عبر القوة الصلبة بمُشارَكة الأسطول العسكريِّ البريطانيِّ لحسم الأمر.
عُموماً.. فقد تطوَّر المفهوم في علم العلاقات الدوليَّة حتى أصحبت (النسويّة) واحدة من أهمِّ النظريَّات في تفسير السياسة الدوليّة، وحاولت هذه النظرية ترتيب قطع «الميكانو» المختلفة التي تمارسها المرأة في السياسة بشكل عامّ، والعمل المهنيّ في الدولة بشكل خاصّ، ما بين الدبلوماسيّة، والعسكريّة، والاجتماعيّة، وتناقش تلك الاختصاصات من زوايا الذكورة والأنوثة، لكنَّ الإشكال المُثار في تلك النظريّة أنها تُهمِّش دور المرأة في العلاقات الدوليَّة عندما يكون معيار التمييز بين الجنسين وحدة التحليل الأساسيّة للنظريّة النسويّة في هذا الاتجاه؛ فإنَّ مُشارَكة المرأة ليست مِلـْحاً، أو بهارات خاصّة تـُضاف إلى الطبخة السياسيّة، وليست مكياجاً سياسيّاً، بل إنَّ الدور الأصيل للمرأة ينبع من ذاتها، ويمكن أن تتحوَّل بذاتها، كما تقول الروائية المصريّة الراحلة رضوى عاشور في روايتها «أثقل من رضوى»: «إنني من حزب النمل، من حزب قشة الغريق، أتشبّث بها، ولا أفلتها أبداً من يدي، من حزب الشاطرة التي تغزل برجل حمارة،... نمقت الهزيمة، ولا نقبل بها فإن قضت علينا نموت كالشجر واقفين ننجز أمرين كلاهما جميل: شرف المحاولة، وخبرات ثمينة».
مِعْوَل التاريخ الذي وأد حقَّ المرأة في السلطة السياسيّة موضوع ذو جدل واسع في التراث السياسيِّ الإسلاميِّ، تسبَّبت به الثقافة الأعرابيَّة التي ساهمت بشكل وآخر في الانتفاخ الذكوريِّ، ولكنَّ هذا الموضوع لم يقتصر على الفكر المشرقيِّ فقط، بل شمل حتى الفكر الغربيّ، فلم تحصل المرأة على حقّ التصويت في الولايات المتحدة الأميركيَّة حتى سنة 1920، والمملكة المتحدة ما بين عامي 1918 و 1928 لسان حال الرجال -على حدِّ قول نزار قباني-: «كيف يمكنني أن أربح المعركة؟ وأنا رجل واحد، وأنت قبيلة من النساء»، فالرومانسيّة السياسيّة التي قد يُصوِّرها البعض في العالم اليوم قد تحتاج إلى تسويات بلقيس خُصُوصاً في منطقة الشرق الأوسط، بالمقابل فإنَّ التعامل الدوليَّ صعب جدّاً... لا نـُريد أن نكون على مُستوى الملكة «فاندين» التي أمرت بسجن حلاقها الخاصِّ مُدَّة ثلاثة أعوام حتى لا يعلم أحد أنَّ الشيب قد ملأ شعرها.
كما لا يُمكن نكران صعود نساء في دول مُسلمة وآسيوية مثل رئيسة أندونيسيا ميغاواتي سوكارنو بوتري، والفيليبينية غلوريا أورويو، وشاندريكا كوماراتونغا من سريلانكا، وحسينة واجد وصلت إلى رئاسة الحكومة في بنغلادش.
صحيح لو تحقق ذلك، وكانت هيلاري كلينتون أوَّل رئيسة في تاريخ الولايات المتحدة، كما ذكرتها في كتابي «القيادة في السياسة الخارجيّة الأميركيَّة» الصادر عام 2014 في بغداد لن تكون السبَّاقة في هذا المجال، فقد سبقتها دول إسلاميّة، وآسيويّة، وإذا قُدِّر لهيلاري أن تفوز بمنصب الرئيس الخامس والأربعين لأميركا فهل إنَّ التأنيث سيشمل البيت الأبيض.
يبقى كسر حاجز التاريخ والزمن مُهمّاً؛ لذا فإنَّ نصيحة رائعة من الراحل السيد محمد حسين فضل الله قرأتها في أحد كتبه: «على المرأة أن تقاتل من أجل أن تجعل من عقلها عقلاً يحتاجه الناس، ومن جهدها جهداً يحتاجه الناس... ولكن لا تستطيع أن تصنع من المرأة قائداً، المرأة التي تحاول أن تعيش في نفسها مشروع قيادة اجتماعيّة، أو سياسيّة، أو ثقافية بحجم طاقتها»، وما زلنا بانتظار حلم قباني بأن تثور المرأة العربيّة على شرق السبايا، والتكايا، والبخور.
*الاستراتيجيّة ــ العراق