عندما تقوم الولايات المتحدة بتثبيت خطوط هجوم أعدائها المُفترَضين (داعش، طالبان) لأيام متتالية وعلى جبهات تمتدّ من سوريا إلى أفغانستان فهذا يعني أنها تتقصّد فعل ذلك، عملاً بالاستراتيجية التي تتّبعها حين تريد عدم حسم معركة ما، أو إبقاءها معلّقة وفي حالة من "التوازن الوظيفي". الإخلال بهذا التوازن ليس من مصلحة أميركا، ولذلك فإنّ الحفاظ عليه ولو تطلّب الأمر إزهاق عشرات الأرواح هو الحلّ الأمثل لتفادي حصول خلل في عملية إدارة القوّة الإمبريالية الأولى في العالم للفوضى التي تتسبَّب بها حروبُها.
"التحليل السياسي" للمجزرة

في حالة دير الزور حصل الأمر في لحظة "اشتباك" داخل القيادة الأميركية حول الموقف من بنود اتفاق وقف إطلاق النار مع روسيا. لم يستطع جون كيري وفقاً لتسريبات صحافية إقناع البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية بالمضي قدماً في تطبيق الاتفاق، فحصلت الواقعة التي ذهب ضحيتها أكثر من ثمانين جندياً للجيش السوري. ضجّ الإعلام بالمجزرة، فاضطرت الإدارة الأميركية إلى التبرير، واستُحضرت لهذه الغاية السردية الإمبريالية التقليدية حول "الأخطاء الجانبية" أو "غير المتعمّدة". لم ينتبه الكثيرون إلى السياق الذي بات يتكرّر كلما أُريد للفوضى الناجمة عن الحرب أن تستمرّ وتتحوّل إلى نظام قائم بذاته. وبدلاً من تفكيكه بنيوياً بوصفه العقدة الرئيسية لعمل الامبريالية الأميركية أثناء الحروب والتدخّلات العسكرية انشغل المعلّقون بالواقعة الجزئية المتعلّقة بنيّة الولايات المتحدة إفشال الاتفاق مع روسيا. والحال أنّ الخلاف بين البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية من جهة والرئاسة ووزارة الخارجية من جهة أخرى كان أساسياً في فهم سبب وقوع الغارة ولكنه من الناحية البنيوية لا يضع الحادثة في إطارها الصحيح. فارتباطه بالواقع السوري دون غيره من الساحات التي تتدخّل فيها الولايات المتحدة عسكرياً يبقيه عند حدود معيّنة هي حدود التداخلات التي تشهدها الأزمة السورية، وهي تداخلات لا تعبّر دائماً عن الطبيعة الفعلية للإمبريالية كما تتجلّى في الحروب ضدّ الشعوب والبيئات المحلّية المُستهدَفة بالحرب. ولذلك فإنّ التحليل السياسي له يبقى جزئياً، ولا يقدّم لنا حين يتناول كواليس القرار الأدوات اللازمة لتفكيك الآلية التي تحصل بموجبها هذه "الأخطاء"، والتي يتمّ عبرها غالباً الجمع بين قتل الأعداء والحلفاء معاً، بحيث تعُمُّ الفوضى ولا يخرج أحدٌ من المعركة منتصراً.
بعد وقوع مجزرة دير الزور بيومين أعادت القوات الأميركية الكرّة


مجزرة تارينكوت

بعد وقوع مجزرة دير الزور بيومين أعادت القوات الأميركية الكرّة، ولكن هذه المرّة على جبهة خالية جزئياً من التعقيدات، وفي صراع يُفترَض بالأميركيين خوضه ضمن تحالف واسع لا وجود فيه لقوّات معادية مثل الجيش السوري. التحالف هنا يضمّ إلى جانب القوّات الأميركية التي أبقتها إدارة أوباما في أفغانستان بعد توقيع الاتفاقية الأمنية مع كابول كلاً من قوّات حلف شمال الأطلسي والقوّات المحلّية الأفغانية التي تشرف الأخيرة على تدريبها ضمن برنامج الحلف لتأهيل عناصر الجيش والشرطة الأفغانيين وجعلها قادرة على مواجهة التمرّد الذي لا تزال تقوده حركة طالبان. في هذا السياق تساند القوّات الأطلسية بحسب الاتفاقية الموقّعة مع كابول الشرطة الأفغانية في مسعاها لمجابهة هجمات طالبان على المدن الأفغانية، وآخر هذه العمليات حصل في قضاء تارينكوت (380 كلم جنوب العاصمة كابول)، حيث كانت قوات الأمن الأفغانية تحاصر مجموعة كبيرة من مسلّحي طالبان. كان يفترض بالعملية المدعومة بغطاء جوّي أميركي (هكذا صرّح مسؤولون أفغان في وزارة الداخلية) أن تنتهي إلى القضاء على عناصر طالبان بعد الإطباق عليهم والاشتباك معهم بالتنسيق مع الطيران الأميركي الحليف، ولكن قيادة الشرطة الأفغانية تفاجأت بأنّ الاستهداف حصل لعناصرها وليس لعناصر طالبان، ما أوقع ثمانية قتلى في صفوفهم، بالإضافة إلى جرح ستة وعشرين آخرين. التوصيف الدقيق لما جرى أتى على لسان أحد المسؤولين الأمنيين الأفغان، حيث قال إنّ الطيران الأميركي وجه ضربتين (بفارق 15 دقيقة) ضدّ مواقع قوّات الأمن الأفغانية فور إتمام عملية المحاصرة، ما أسفر عن تقويض العملية بأسرها، وبالتالي تمكين مسلّحي طالبان من الفرار. مسؤول أمني آخر صرّح لوكالة "نوفوستي" الروسية بأنّ وزير الداخلية الأفغاني، تاج محمد جاهد، اقترح عقب العملية بأيام عقد جلسة لمجلس الأمن القومي الأفغاني "تُطرَح فيها إعادة نظر جذرية بالاتفاقية الثنائية المعمول بها مع واشنطن حول التعاون والعمل المشترك في مجال الأمن".

عواقب انتهاء الفوضى

سينعكس ذلك طبعاً على التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة إلى جانب حلف الناتو في أفغانستان، ولكن أثرها الأكبر سيكون على بنية العمليات المشتركة التي لن تعود مشاركة الأفغان فاعلة فيها في حال كانت الحكومة جادّة في طرحها، وإذا صحّ بالفعل ما نقلته "نوفوستي" أيضاً عن المسؤول نفسه بأنّ عدداً كبيراً من النواب الأفغان بات يطالب بإقالة الحكومة التي يرون أنها أصبحت عاجزة عن حماية المصالح القومية لأفغانستان أمام الولايات المتحدة. ومن دون هذه المشاركة فإنّ الغطاء الشرعي لعمل الناتو لن يكون موجوداً، وسيتوجّب عليه بالتالي في حال قرّرت الحكومة الأفغانية إيقاف العمل بالاتفاقية الأمنية مع أميركا مواجهة حركة طالبان منفرداً، مع ما يقتضيه ذلك من تَبعات على طبيعة العمليات التي يلعب فيها التوظيف الاستعماري للانثروبولوجيا دوراً أساسياً عبر الربط بين الانقسامات الاجتماعية الأفغانية والفاعلية السياسية للأفرقاء الخاضعين لهذه الانقسامات. ذلك أنّ البقاء هناك وإدارة العملية السياسية لمصلحة الولايات المتحدة مرتبط أساساً بتجذير هذه الانقسامات وعدم السماح بتجاوزها، وهذا يعني أنه يتطلّب إلى جانب التحالفات التقليدية داخل الناتو قدراً من المشاركة لكافّة الفعاليات الموجودة في البلاد بما في ذلك حركة طالبان نفسها، بحيث يتورّط الجميع في الفوضى الناجمة عن تحطيم الامبريالية الأميركية للدولة والمجتمع الأفغانيين. وفي سبيل ذلك كانت الإدارة الأميركية تحرص عقب كلّ "خطأ جانبي" ترتكبه ويذهب ضحيته مدنيون أفغان على التبرُّؤ من العملية، وقطع الوعود للحكومة الأفغانية بمحاسبة المسؤولين عنها. لكن في هذه العملية تحديداً كان الخطأ أفدح من الناحيتين السياسية والعسكرية، فلم يسقط مدنيون حتى تحفظ الحكومة ماء وجهها بطلب محاسبة قَتَلَتِهم شكلياً، وإنما سقط أمنيون ورجال شرطة وعسكريون كانوا في مهمّة مشتركة أقرّها البرلمان وجرت تحت غطاء الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة، ما يعني أنّ المسّ بهؤلاء سيضع كلّ "الشرعية السياسية" التي يقوم عليها التعاون بين أميركا ومن خلفها الناتو والحكومة الأفغانية في خطر. العواقب هنا في حال حصول ضغط شعبي ونيابي كبير على الحكومة الأفغانية لن تكون وخيمة فقط (على الأميركيين وحلفائهم الأوروبيين طبعاً)، بل ستضع حدّاً أيضاً للنهج الامبريالي الذي يستفيد من الفوضى ويحاول تعميمها على كلّ المجتمعات التي يغزوها ويدمّر نسيجها الاجتماعي بالاعتماد على ضرب عناصره وإدامة الاشتباك فيما بينها. هذا لا ينطبق على أفغانستان فحسب، بل على كلّ المناطق التي تشهد تدخّلات أميركية مماثلة، ولكن في الحالة الأفغانية يمكن التعويل على الأمر أكثر بسبب الاستقرار النسبي الذي تشهده البلاد، والذي يوفّر بخلاف الحالة السورية إمكانية أكبر للحشد الشعبي ضدّ الأميركيين على قاعدة تضرّر الجميع من احتلالهم المديد للبلاد، بما في ذلك الحكومة التي أتوا بها لإدارة الصراع والفوضى مع طالبان.
* كاتب سوري