ما الذي يمكن أن يقدمه علم النفس للنظرية السياسية الاجتماعية؟ دعونا نبدأ بالقول بأنه، من وجهة نظرية علم النفس التي أقتنع بها على الأقل، ليس هنالك حد فاصل بين الفرد والآخر. ليس هنالك عالم نفس فردي خالص خارج المجتمع، ولذلك فإن علم النفس هو بالأساس علم اجتماعي.
هذه النظرة لا تروق للأيديولوجيا المهيمنة، لأن الأيديولوجيا الليبرالية الحالية تتحدث دائماً عن «الفرد» و«الفردانية» بوصفها عوالم مفصولة عن الكل الاجتماعي، أنت تصبح فرداً، من وجهة النظر الليبرالية، عندما تنغمس في الاهتمام بأمورك الخاصة وعندما «لا تبالي» بما يجري في الخارج. حتى الحرية يتم تعريفها باعتبارها حرية فردية أما حرية التغييرات الجماعية الكبرى فهي مجرد تطرف لا داعي له. علم النفس المتماشي مع هذه النظرة يعالج الأفراد بوصفهم عبارة عن عوامل داخلية لا نهائية يجب الوصول إلى حل لتعقيداتها حتى يشعر الفرد بالسعادة. عليك أن «تعرف نفسك جيداً»، عليك أن «تحقق ذاتك»... إلخ. ضد هذه النظرة يعتمد علم النفس اللاكاني (وعلم النفس الفرويدي قبل التشويهات المتأخرة) على الفكرة الأساسية القائلة بأن الفرد يتشكل أصلاً عبر دخوله في فضاء معنى، وهذا الفضاء يتكون أساساً عبر حادثة التقاء الفرد «بالآخر». المقولة «الإنسان مخلوق اجتماعي» تؤخذ هنا بجدية. في هذا الإطار، فإن العلاج النفسي هو بالأساس خروج إلى الخارج: «عليك أن تحتقر مشاعرك وعالمك الداخلي.. لأن كل ما يهم هو «القضية»... «الحب»... أو بصورة عامة، كل ما يهم هو ذلك الآخر الجذري الذي هو الرغبة الأصيلة»، ولذلك لا مكان في هذا الإطار للحديث عن حصر علم النفس داخل العيادة (لقراءة محاجة مكتملة ضد فكرة حصر علم النفس اللاكاني داخل العيادة بوصفه علم تحليل نفسي للأفراد وعلاجهم، اقرأ سلافوي جيجك «كيف نقرأ لاكان» الكتاب متوفر في موقع lacan.com).
لتوضيح هذه الرؤية يمكننا أن نأخذ «الرغبة»، بوصفها مكوناً نفسياً أساسياً، كمثال. ينظر علم النفس الرائج حالياً للرغبات الإنسانية بوصفها أموراً منفصلة عن الأوامر الاجتماعية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالمجتمعات الليبرالية الحديثة. الفرد الحديث يبحث بحرية عن السعادة والمتعة في الحياة بعيداً عن أي أمر اجتماعي. ما تغفله هذه النظرة هو حقيقة أنه خلف الحرية الظاهرية التي يتمتع بها هذا الفرد تلوح طاقة أمر أكثر شراسة وهي قوة اجتماعية بحتة: الفرد الحديث يشعر بأنه تحت ضغط أمر قاهر «عليك أن تستمتع بالحياة!»، أن تكون سعيداً هو في الحقيقة ليس خياراً هذه الأيام. مراقبة بسيطة للطلاب الأميركيين ستجعلك ترى الانضباط الصارم الذي يلتزم عبره الطالب بالترفيه عن نفسه مرة في الأسبوع عبر الذهاب إلى الملاهي وشرب الكحول وغيرهما، الفرد الذي لا يمارس هذه الطقوس سيشعر مباشرة بأنه «مذنب»، بأن هنالك شيئاً خاطئاً في حياته. يشعر الفرد الحديث براحة أكبر عندما يفهم أنه «غير ملزم» بأن يكون سعيداً، بأن بإمكانه أن يمر بفترات من التعاسة وأن ذلك ليس ذنباً. في كتابها «عن الكوميديا»، تحدثت ألينكا زوبانشيتشس، في المقدمة عن الكيفية التي أصبحت بها السعادة خصلة جوهرية، أن تكون شخصياً سعيداً ومرحاً هي خصلة تشير إلى أنك شخص «جيد أخلاقياً»، وإما إن كنت تعيساً فذلك يعني أن لك جوهراً أقل جودة (الأمر نفسه يمكن قوله بالنسبة إلى النجاح والفشل، النجاح أصبح يرى باعتباره ميزة تكاد تكون بأيدولوجية في جوهرانيتها، والتفسير الطبقي الاجتماعي للنجاح تم تجاهله). هذه الحالة يمكن كذلك ملاحظتها في حقيقة أن الناس باتوا يخجلون من إظهار حزنهم.

بداية أيّ مشروع تحرري جماعي هي الفرد نفسه

الثمن الذي يدفعه الفرد المفصول عن الفضاء الرمزي، إذاً، (ذلك هو تعريف الفرد النرجسي كما سنرى لاحقاً) هو أن الأمر الاجتماعي سيأتي كأمر غير مفسر رمزياً. وبالتالي أكثر قهراً. بتعبيرات جاك لاكان، سيأتي الأمر غامضاً كشعور غير مفسر «Enjoy!». وكشعور دائم بالتقصير أمام هذا الأمر. هذا يأتي بنا لسؤال: ما هي الرغبة أصلاً؟ بالنسبة إلى علم النفس اللاكاني، فإن الرغبة دائماً هي رغبة «عبر الآخر»، أنت ترغب فيما يرغب به الآخرون، أو ترغب بأن يحبك الآخرون، أو ترغب بأن تحبهم... وهكذا. حالة الارتباط النفسي الأساسي بالآخر هذه تجعل الإنسان جزءاً من فضاء رمزي يدير هذه العلاقة: عندما تتعامل مع شخص آخر لا يمكن لهذا التعامل أن يتم إلا في ظل اتفاق ضمني باحترام قوانين رمزية تجعل هذا التعامل ممكناً، مثلاً، عندما يخبرك شخص بأنه يحبك فأنت لا تستطيع أن تتأكد بصورة كاملة إن كان هو يعني ذلك فعلاً، ما تستطيع أن تفعله هو أن «تؤمن» بأن هذا الآخر يعني فعلاً ما يقول، بأنه يعني الكلمة بمعناها الموجود سلفاً في الفضاء الرمزي (في مثل هذه اللحظات، عندما يتواجه الإنسان بحب شخص آخر، يظهر «الآخر» كشيء جذري ومختلف وخارج إطار قدرتنا على الفهم الكامل والسيطرة، كشيء مخيف إن شئت، هذا الاختلاف الجذري، الشيء الموجود في الخارج، هو ما يفتح المجال لتكوّن فضاء رمزي يجعل من التواصل أمراً ممكناً). هنا يمكننا أن نفهم لماذا سمى جاك لاكان الفضاء الرمزي Symbolic Order «الآخر الكبير»... لأنك تعتمد عليه لفهم «الآخر الصغير» الذي أمامك (وهو عبارة عن منظومة اللغة بالمعنى الواسع للكلمة، المنظومة التي تنتجها العلاقة المستحيلة مع الآخر الصغير). هذا الدخول في الفضاء الرمزي الذي هو علامة قبول الفرد لحقيقة أن الآخرين هم جزء حقيقي في الحياة، تأتي معه الرغبة المفسرة رمزياً.
لفهم الفرق بين الرغبة النرجسية (خارج الفضاء الرمزي، الرغبة التي لا تعترف بالآخر كشيء مختلف جذرياً وموجود خارج الفرد) والرغبة الفردية الحقيقية، يمكننا أن نعود إلى مقال سلافوي جيجك عن فيلم «لا لا لاند» المنشور مؤخراً في «Philosophical Salon». في هذا المقال، يقدم جيجك قراءة مميزة لفكرة الحب لا بوصفها شعوراً داخلياً نرجسياً، بل بوصفها التزاماً رمزياً، أنت عندما تحب فأنت تلتزم تجاه شخص آخر و«تؤمن» بأنه يلتزم تجاهك بالقدر نفسه، ولا يهم هنا الشعور الداخلي أو السعادة: في الحب تتحول حياة الفرد الذاتية لأمر تافه، ما يهم فقط هو« الفكرة الخارجية»، الشخص الآخر الذي لا سبيل لمعرفة ما يدور في ذهنه، لا سبيل «لابتلاعه»، كل ما هو ممكن هو «الإيمان» بالعلاقة كفكرة. لذلك، فإن شعور الحب الأصيل هو شعور «مؤلم»، شعور بأن شيئاً ما قد «تدخل من الخارج» في حياتنا. هذا الحب سيحكم ببقية القوانين الرمزية ولن يعيش خارجها، ولذلك كانت القراءة «اللينينية» التي قام بها جيجك للفيلم مميزة جداً: الحب الحقيقي هو الحب «اللينيني»، ذلك الحب الذي يحدث مرفقاً بالتزامات رمزية أخرى ويحيا عبرها، الرغبة في الحب لا تختلف عن الرغبة في مشروع سياسي تقدمي مثلاً، كلاهما نتاج تحول الإنسان إلى مخلوق رمزي اجتماعي. والحب بهذا المعنى لا يمكنه أن يكون مهرباً من الالتزامات الرمزية الأخرى (هي رغبات في الحقيقة، الفعل الثوري هو رغبة، وبصورة عامة فإن القانون الأخلاقي الداخلي هو نتاج رغبة كذلك، لاكان وضعها بهذا الشكل: الرغبة لها هيكل الواجب)، بل هو جزء منها. لذلك فإن علاقة الحب الحقيقية هي ليست تلك العلاقة التي يُضحّي الواحد منا بمسؤولياته من أجلها، بل هي العلاقة التي يُضَحّى بها في خدمة قضية أكبر. مثال جيجك بالطبع كان لينين الذي منح حياته للثورة وبالتالي لم يجد الوقت للحب، ولكن ذلك لم يمنعه من حب أينيسيا أرماند في الوقت نفسه. الحب المفقود الذي يشرق، عبر غيابه من أجل الثورة، كشيء أشد قوة وحضوراً. هل يمكن مقارنة ذلك بالحب النرجسي الذي يسعى أول ما يسعى «لإلغاء» الآخر و«ابتلاعه»؟
بهذا التعريف للرغبة كنتاج توجه خارجي أساسي للنفس الإنسانية، سيكون من الممكن أن نفهم أن لعلم النفس بالتعريف تبعات اجتماعية وسياسية. بداية أي مشروع تحرري جماعي هي الفرد نفسه، إعادة صياغة رؤيته لنفسه ولرغباته. وبصورة ما، فإنه علينا أن نعكس الفكرة السائدة «ليتحرر المجتمع فإن على الفرد أن يحرر نفسه». في الحقيقة حتى يتحرر الفرد فإن على الفضاء الاجتماعي أن يتشكل بصورة تجعل من الحرية الفردية أمراً ممكناً. وهنا أنا لا أعني فضاء الحريات السياسية القانوني، بل أعني أمراً أكثر جذرية؛ حتى يتحرر الفرد، فعليه أن يتحرر من عالمه الداخلي عبر دخوله في فضاء رمزي اجتماعي يعطي لهذا العالم الداخلي معنى رمزياً مفهوماً. علينا أن نعيد صياغة رؤيتنا للواقع بحيث يكون بإمكاننا كأفراد أن نلتزم داخل قضايا ورغبات خارجية جماعية، رباعية آلان باديو مثلاً: السياسة الجذرية والعلم والفن والحب. وبهذا الالتزام سيصنع الفرد قانونه الداخلي بنفسه «معنى حياتي هو في نجاح هذا المشروع السياسي... أو في هذا الإنتاج الفني... إلخ». هذا القانون الداخلي الذي يحرر الواحد منا من نفسه عبر الدخول في مجال جماعي هو الشيء الذي تمنعه النرجسية. بوصفها النمط النفسي المناسب للمجتمع الرأسمالي المتقدم. وفي غياب هذا المجال، سيعود الأمر الاجتماعي الخارجي، ولكن ليس في صورة أمر رمزي مفهوم (قانون داخلي) بل في صورة مبهمة ولكنها شديدة القهر «عليك أن تستمتع بالحياة!»، «عليك أن تكون ناجحاً!»، «عليك أن تكتشف مقدراتك الداخلية!»... إلخ (تمتاز هذه الأوامر بأنها تأتي من الخارج ولكنها مُلزمة بصورة غريبة في الوقت نفسه، مثلاً، تمتاز كتب التنمية البشرية بأنها تصنع أهدافاً معينة للأفراد من دون مشاورتهم «كيف تصنع أصدقاء؟»، «كيف تسيطر على الوقت؟»... إلخ. ولكن هذا التدخل الخارجي الغريب يأتي بسلطة مباشرة، ردة الفعل الأساسية للفرد الذي يقرأ عنوان كتاب التنمية البشرية هوالشعور بالذنب! «لماذا لستُ ناجحاً؟!» وكأنه اقتنع سلفاً بأن من «واجبه» أن يصنع أصدقاء أو أن يلتزم بالمواعيد أو أن ينجح. وبالطبع لا تقدم هذه الكتب أي إجابة على سؤال «لماذا؟»... «لماذا عليّ أن أنجح؟» هي تتحرك من البداية القاهرة المبهمة وتبني عليها. تذكر فقط تلك الشخصية النمطية التي تتحرك باستمرار وبلا توقف في سعي نهائي نحو «النجاح» و«الشهرة» (والمال بالطبع، المال هو الـ Master Signifier الذي يشمل تحته السعادة والنجاح وحتى الأخلاق، في عالم اليوم) وكأنها تؤدي مهمة أخلاقية، ولكنها في الوقت نفسه تقوم بذلك من دون أي تفسير واضح وبشعور دائم بأنها مجرد «أكذوبة». تلك الشخصية المثيرة للشفقة هي في الوقت نفسه الشخصية الأكثر «إنتاجاً لفائض القيمة» وهنا مربط الفرس.
(اعتمد في هذا المقال بشكل كامل على ورقة كتبها سلافوي جيجك عام 1986 بعنوان «النرجسي المرضي، شكل الذاتية المطلوبة اجتماعياً»)
* كاتب سوداني