«وكانوا أول الجنود الرومان، وأعتقد الوحيدين، الذين اجتازوا كلّ هذه المساحة من الجزيرة العربيّة لغرض شن الحرب...».من كتاب ديو كاسيوس «تاريخ روما»، في سرد هزيمة الجيش الرومانيّ أمام جيش «الشرح يحضب» ملك سبأ.

كثُر الحديث في العقدين الأخيرين عن الولايات المتّحدة الإمبراطوريّة التي تبسط نفوذها على امتداد الكرة الأرضية وتلعب دور الشرطيّ العالميّ الذي يحفظ الاستقرار الأمميّ.

والحديث عن الإمبراطوريّة، النابع من العقل الغربيّ أو المتغرّب، دائماً ما يرتبط بالإمبراطوريّة الرومانيّة. هذا الارتباط، اللاإراديّ في الكثير من الأحيان، يعود إلى العظمة التي تتجلّى بها الإمبراطوريّة الرومانيّة في السرد التاريخيّ الغربيّ.
فالإمبراطوريّة الرومانيّة قدّمت المجتمع الرومانيّ على أنّه متفوّق أخلاقيّاً وقيميّاً على باقي المجتمعات. قلّما نجد إمبراطوريّة لم تروّج لتفوقّ أخلاقيّ مزعوم، إلّا أنّ السرديّة الرومانيّة لا زالت موضع تصديق، إلى اليوم، في التأريخ الشعبيّ الغربيّ وفي الكثير من حلقات التأريخ الأكاديميّ. لذا نرى أنّ كلّ الإمبراطوريّات التي نشأت في الغرب، منذ ألف عام إلى الآن، تقارن نفسها بالإمبراطوريّة الرومانيّة، وتضع معيار نجاحها في تشابه المستوى بين هيمنتها وهيمنة الإمبراطوريّة الرومانيّة. ومؤشّر النجاح الأساسيّ الذي يبحث عنه مثقّفو ومؤرّخو تلك الإمبراطوريّات هو السلام الذي يشبه «السلام الرومانيّ» (Pax Romana).

السلام الإمبراطوريّ الأول

يتّفق المؤرّخون على تحديد بداية فترة «السلام الرومانيّ» بحدث سقوط الجمهوريّة وتنصيب أغسطس (أوكتافيان إبن يوليوس قيصر بالتبني) إمبراطوراً، بعد حسمه آخر معارك الحرب الأهليّة ــ المتأتّية عن اغتيال يوليوس قيصر ــ ضد ماركوس أنطونيوس، عام 27 ق.م. وفي المقابل يحدّد المؤرّخون نهاية «السلام الروماني» مع موت ماركوس أوريليوس أنطونيوس عام 180م. وكانت تلك الأعوام المئتان الفترة الذهبيّة في حياة الدّولة الرومانيّة ــ جمهوريّة وإمبراطوريّة ــ حيث شهدت روما أكثر فترات رخائها وغناها.
لكن مصطلح «السلام الرومانيّ» خدّاع. ويشرح علي برشامي، في كتابه «سلام الهيمنة والإمبراطوريّة: باكس رومانا، بريتانيكا وأميركانا»، تحوير معنى مصطلح «السلام الرومانيّ» من معناه اللاتينيّ (وهو ورد لأوّل مرة على لسان سينيكا الأصغر عام 55 م.) إلى معانٍ جديدة مع مصطلحات مثل «السلام البريطانيّ» (Pax Britanica) و«السلام الأميركي» (Pax Americana).
ويعيد برشامي السبّب في هذا التحوير إلى سوء فهم تأريخيّ لمعنى السلام. فمفهوم السلام اختلف بين حضارة وأخرى تاريخيّاً، وهو كان يُعنى بالديانة أكثر منه بالترميز القانونيّ في فترة الحضارة الإغريقيّة ــ الرومانيّة المبكّرة.

حدود الإمبراطوريّة الرومانيّة رُسمت
بدم الشعوب التي
رفضت مصير جيرانها


عليه فإنّ مفهوم السلام في تلك الحقبة يختلف اختلافاً جذريّاً عمّا نصنّفه اليوم سلاماً. ويستنتج برشامي أنّ السلام في «السلام الرومانيّ» هو التسكين والإخضاع لشعوب الأراضي المحتلّة، وفرض الإمبراطوريّة لقيمها كعقيدة على هذه الشعوب. يؤيّد هذا الاستنتاج واقع أن الإمبراطوريّة الرومانيّة لم تكن في حالة اللاحرب خلال مدة «السلام». فبينما أراضي الإمبراطوريّة شهدت هدوءاً، لم يتوقف القتال على الجبهات الحدوديّة المفتوحة طوال تلك المدّة.
ويوضّح بول بيتي في كتابه «باكس رومانا» هذه الجبهات، ففي الشمال رسمت الإمبراطوريّة حدودها مع البرابرة (الجرمان والداشيين والسلاف في البرّ الأوروبيّ والكلتيين في الجزيرة البريطانيّة) عبر نهري الدانوب والراين في أوروبا وحائط هادرِيان في شمال بريطانيا. أمّا في النواحي الشرقيّة فشكّلت مدينتا بُصرى الشام وتدمر نقاط الدفاع عن الإمبراطوريّة ضد قبائل البادية العربيّة، فيما كان نهر الفرات خطّ التماس مع الفرس البارثيين (السلالة الأرشكيّة التي حكمت فارس من 247 ق.م إلى 224 م).
ويرسم بيتي مشهداً تسيطر عليه غزوات متبادلة بين الإمبراطوريّة والشعوب سابقة الذكر، ولا سيّما في الجبهات الشماليّة منها. فمن الواضح، بالنسبة لبيتي، أن «برابرة الشمال» (لا سيّما الجرمان والداشيين) قد تعلّموا من تجربة شعب الغال تحت الاحتلال الروماني، أنّ التمدّن الذي أتى به الغزاة ثمنه تقييد الحريّة والاستغلال الماليّ، وعليه لا بدّ من مواجهة حملات التوسع الرومانيّة بأي ثمن. لذلك تحوّلت حروب الإمبراطوريّة من حروب مع ملوك وجيوش نظاميّة تُهزم في موقعة أو موقعتين إلى حروب عصابات على امتداد الحدود، سبّبت ضغطاً شديداً على خطوط إمداد الفيالق الرومانيّة المتواجدة على تلك الجبهات.
إذا لم تتوقّف الإمبراطوريّة عن الحرب خلال تلك الأعوام المئتين، إنّما مارست «سلام الهيمنة»، كما يقول برشامي، عبر التسكين والإخضاع. وأقنعت معاصريها أنّ هذا «السلام» هو قمّة الحضارة وهديّة الإمبراطوريّة للإنسانيّة. ويحدّد بيتي نهاية «السلام الرومانيّ» بتزامن حربين من نوع آخر غير الذي اعتادته الإمبراطوريّة في القرنين السابقين. ففي عام 161 م بدأ البارثيون حملة لاحتلال مملكة أرمينيا ــ وهي مملكة تابعة للإمبراطوريّة الرومانيّة في حينه ــ واستبدال الملك بملك مؤيّد لهم. وقد نجحت الحملة في البدايات ووصل البارثيّون إلى مقاطعة سوريا الرومانيّة. وفي عام 162 م، بدأت القبائل الجرمانيّة بتخطّي نهر الدانوب واحتلال أجزاء شاسعة من أراضي الإمبراطوريّة حتى وصلوا في عام 170 م إلى شمال إيطاليا. وبرغم أن الحرب مع البارثيين انتهت عام 166 م بهزيمة نكراء ونهب عاصمتهم «المدائن»، وأنّ الحروب مع القبائل الجرمانيّة انتهت عام 180م بعودتهم إلى شمال نهر الدانوب، إلا أنّ هاتين الحربين سطّرتا نهاية «السلام الرومانيّ». إذ إنّ أراضي الإمبراطوريّة البعيدة عن الجبهات قد احتلّت، وانتهى زمن الهيمنة حيث كانت الإمبراطوريّة تسكّن وتخضِع الآخرين في أراضيهم وعلى حدود الجبهات التي ترتضيها هي.

باكس أميركانا

تحوّل مفهوم
«السلام الأميركيّ» إلى
بناء عقائديّ يشبه
«السلام الرومانيّ»



«كوينتيليوس فاروس، أعد لي فيالقي».
نداء الإمبراطور أوغوستوس عند سماعه خبر هزيمة فاروس في معركة غابة تيوتوبُرغ وخسارته ثلاثة فيالق كاملة أمام القبائل الجرمانيّة؛ كما نقله غايوس سوينتونيوس في كتابه «عن حياة القياصرة».
يقسّم برشامي تطوّر مفهوم «السلام الأميركيّ» إلى أربع مراحل، أولاها تبلورت بمعان عدة مع محاولة إعادة تكريس عقيدة مونرو بعد انتهاء آثار الحرب الأهليّة الأميركيّة في العقد الأخير من القرن التاسع عشر. فأخذ «السلام الأميركيّ» بعد النأي بالأميركيتين عن صراعات العالم القديم والمحافظة على السلام ضدّ الأخطار الخارجية والداخليّة (أي السكان الأصليين) والوحدة القاريّة.
أمّا المرحلة الثانيّة فهي مرحلة ما بين الحربين العالميتين، حيث بدأ المصطلح يأخذ معنى أقرب إلى ما نتلمّسه اليوم، إذ بدأ النقاش في فرض «السلام الأميركي» عبر القوتين الناعمة والصلبة. بينما المرحلة الثالثة هي مرحلة الحرب الباردة حيث أخذ المصطلح معنى سياسة التدخّل الوقائيّ في مواجهة مشاكل عقدي الستينيّات والسبعينيّات وتآكل نظام بريتون وودز، الذي أكسب الولايات المتحدة صيتاً سيّئاً روّج وأشّر إلى انحدار أخلاقيّ ــ سياسيّ.
والمرحلة الرابعة هي مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حيث دفع المحافظون الجدد المصطلح ليكتسب المعنى الإمبراطوريّ الذي يشبه «السلام الرومانيّ»، عبر إصرارهم على إلصاق دور إعادة صياغة النظام الدولي بالولايات المتحدة. فأصبحت كشرطيّ العالم في نظام أحاديّ القطب ويجب عليها أن تعيد صياغة وتأطير العالم ليشبهها. وتحوّل مفهوم «السلام الأميركيّ» إلى بناء عقائديّ يشبه، بشكله، البناء العقائديّ الذي قام عليه «السلام الرومانيّ».
ولكن برشامي، وعلى عكس الكثير من الأكاديميين، لا يرى أنّ الولايات المتحدة قد وصلت إلى مستوى تحقيق سلام الهيمنة كما فعلت الإمبراطوريّة الرومانيّة. فهي لم تصل إلى مستوى طموحها الإمبراطوريّ في إعادة تشكيل العالم، بالأخصّ مع صعود الصين وعودة روسيا إلى الساحة الدولية ووجود «دول مارقة» كإيران وكوريا الشماليّة، يُضاف إليها المنظّمات غير الحكوميّة العابرة للحدود.
وهنا لا بدّ من الوقوف عند سؤال: هل كانت الإمبراطوريّة الرومانيّة بداية تطمح فقط إلى ما وصلت إليه في أوجها؟
حقيقة الأمر أنّ حدود/ جبهات الإمبراطوريّة الرومانيّة رُسمت بدمّ الشعوب التي رفضت مصير جيرانها ممن أخضعتهم الإمبراطوريّة. فحرب العصابات الكلتيّة في شمال الجزيرة البريطانيّة أجبرت الإمبراطوريّة على الركون إلى بناء حائط هادريان في اسكتلندا اليوم، في حين أنّ سحق الجرمان للجيش الإمبراطوريّ، في غابة تيوتوبُرغ، زرع الرعب في قلوب الأباطرة الذين خلفوا أغسطس من عبور الدانوب أو الراين.
وبالمقارنة يمكننا أن نرصد مواضع عدّة اضطرت فيها الولايات المتحدة إلى الركون إلى واقع حدود قوّتها الإمبراطوريّة بعد الحرب العالميّة الثانيّة. بداية مع الخيبة الصينيّة في عام 1949، حيث راج مصطلح «خسارة الصين» عند توصيف سيطرة الشيوعيين على البلاد. هذا المصطلح الذي رأى فيه نعّوم تشومسكي تعبيراً عن نظرة أميركيّة ترى العالم كلّه ملكاً لها، وترى في الصين الشيوعيّة خروجاً على الخطّة المرسومة لعالم ما بعد الحرب العالميّة الثانية. ومروراً بالصدمة الكوريّة عام 1953 التي كرّست المجال الآسيويّ محكوماً بمثلّث الصين والاتحاد السوفياتيّ والولايات المتحدة. وليس آخراً كارثة حرب فييتنام، لذلك يمكن رؤية نمط تحدّ ساد خلال الحرب الباردة، رسمت خلاله شعوب تلك البلدان وغيرها حدود هيمنة الإمبراطوريّة الأميركيّة.
وهذه الخسارات ليست هزائم محوريّة للمشروع الإمبراطوريّ للولايات المتحدة في عالم ما بعد الحرب العالميّة الثانيّة. فعلى عكس خسارة كوبا وإيران على فترات متباعدة، لا يمكن تصنيف باقي النكسات العسكريّة والسياسيّة بهزائم تمسّ بالإمبراطوريّة. فالصين، رغم الحلم الأميركي بضمّها لدائرة هيمنتها في المحيط الهادئ منذ ما بعد الحرب العالميّة الأولى، كانت خارج نطاق أي هيمنة غربيّة منذ بداية التوسّع اليابانيّ مع بداية الثلاثينيّات. وعليه كانت الصين خارج الإمبراطوريّة ولم تخسرها الولايات المتّحدة فعليّاً، بل قد نشبّه ما حصل هناك بمعركة تيوتوبُرغ التي أوقفت محاولة توسّع الهيمنة الرومانية. بينما تشبه حربا كوريا وفييتنام صراعات الحدود والغزوات المتقابلة على امتداد الراين وحائط هدريان. فحرب كوريا كانت حرب تثبيت حدود الهيمنة، في شبه الجزيرة المقسّمة منذ 1946، ضدّ محاولة الشيوعيين التوسّع جنوباً؛ ولم تكن بأي حال بمبادرة أميركيّة.
وحرب فييتنام لم تكن حرباً توسعيّة بقدر ما كانت حرب رسم حدود جديدة للإمبراطوريّة. يقول ويليام سبانوس في سياق تفكيكه حرب فيتنام، في كتابه «ظلّ أميركا: تشريح إمبراطوريّة»، أنّ هدف الولايات المتّحدة منذ البداية كان إعادة رسم خريطة البلد بين دولتين، شمالية شيوعيّة «متخلّفة» وجنوبيّة «واحة للرخاء الاقتصاديّ والحريّة»، واستعملت في هذا السياق شعارات مثل «الحريّة» و«الديمقراطيّة» و«الحقيقة». والهدف هو زرع صورة حميدة للولايات المتحدة في عقول سكان الشمال وربّما كل الشعوب التي تمرّ بمخاضات شبيهة. وعليه إنّ أكبر هزيمة أميركيّة في مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانيّة كانت في معركة ترسيم حدود الإمبراطوريّة وتحسين صورتها، لا توسيع مدى هيمنتها.

التحدي بالدم

وفي مرحلة ما بعد الحرب الباردة اقتصرت جبهات الصراع على إضافة البلقان إلى هيمنة الإمبراطوريّة وعلى الجبهة المفتوحة على تخومها، أي الجزء الذي يعادي إسرائيل من الشرق الأوسط. فكلّ هزائم الكيان الصهيونيّ في لبنان لم تكن تعدّياً على حدود الإمبراطوريّة، بقدر ما كانت محاولة منعها من إغلاق جبهة عبر الهيمنة عليها. ويمكننا القول إنّ الهزيمة التي منيت بها الولايات المتحدة في العراق تصب في الخانة نفسها كالهزائم المتكرّرة للصهاينة في آخر ثلاثة عقود. بينما أصبح من الواضح، اليوم بعد ست سنوات، أنّ الصراع في سوريا هو صراع من أجل إدخالها في مجال الهيمنة الإمبراطوريّة الأميركيّة؛ وقد فشل بشكل كبير.
ولكن الصراع الأقل تغطية في الإعلام، والذي يمثل في الوقت نفسه التحدّي الأكبر للإمبراطوريّة في منطقة الشرق الأوسط، هو استعادة الهيمنة على اليمن. فسقوط السلطة، في أيلول من عام 2014، من يد وكلاء الإمبراطوريّة شكّل واحدة من الحالات النادرة، التي تخرج فيها دولة من نطاق الهيمنة الأميركيّة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. وما زاد التحدّي هو مجرى الحرب التي تلت هذا السقوط. وهي في الأساس حرب بأمر إمبراطوريّ، حيث سبق تصريح سفير الولايات المتحدة في اليمن ماثيو تولر في 24 آذار 2015، بأنّ سقوط عدن وشيك ما سينهي أي مجال «للحلّ السياسي» للأزمة، إعلان وزير الخارجيّة السعودي الحرب على اليمن، مباشرة بعد ساعات من واشنطن. ولكن الفشل في استعادة الهيمنة، بعد ما يزيد على السنتين من الحرب، يضع الإمبراطورية في مأزق يشبه ما واجهته في كوبا وإيران.
وما يزيد عامل الخطورة هو تمكّن اليمنيين من السيطرة على مساحات داخل أراضي المملكة، وتباعاً الإمبراطوريّة، من دون أن تظهر إمكانية استرجاعها إلى الآن، بالإضافة إلى الاستهدافات الصاروخيّة وتهديد الجزء الأوسع من أراضي المملكة. وهي أراض لم تخرج من هيمنة الإمبراطوريّة الأميركيّة ولم تشهد تهديداً أمنياً حقيقيّاً منذ نهاية ثلاثينيّات القرن الماضي. أي إنّها أقاليم «داخليّة» في الإمبراطوريّة، وليست جهات حدوديّة. (ملاحظة: لا يمكننا في كلّ حال تصنيف احتلال صدّام حسين للكويت عام 1990 ضمن الخروج على الهيمنة، فالإذن الممنوح من إيْبريل غلاسبي، سفيرة الولايات المتحدة في العراق في حينه، خلال لقائها مع الرئيس العراقيّ في 25 تموز 1990 خير دليل على تصرّفه ضمن منظومة الهيمنة).
ما نراه اليوم في اليمن خروج عن هيمنة الإمبراطوريّة، يُضاف إليه اختراق لحدودها الآمنة وفتح جبهة جديدة في قلب الأراضي الآمنة والمنيعة للإمبراطوريّة. وقد يبدو هذا غير ذي قيمة في مقاييس الكثير من المتابعين، ولكنّه ضخم في مقاييس العقل الإمبراطوريّ. «فالسلام الرومانيّ» يؤشّر إلى أن صراعات تثبيت الحدود والغارات المتبادلة عبرها والفشل في فرض الهيمنة على إقليم جديد، طبيعية ومقبولة بعد وصول الإمبراطوريّة إلى مستويات هيمنة أحاديّة. ولكن إخراج مناطق «منيعة» من هيمنة الإمبراطوريّة بالإضافة إلى السيطرة (بالأحرى تحرير) على مناطق وتهديد مناطق أخرى أكثر مناعة، تمثّل تحدّياً واضحاً لمفهوم الهيمنة الإمبراطورية ولكبريائها. قد تكون الإمبراطوريّة الرومانية استعادت سوريا وشمال إيطاليا وباقي ما احتلّه الجرمان من مناطق جنوب الدانوب، ولكن كل «البرابرة» المحيطين بها كانوا قد وقفوا وتنبّهوا إلى أنّ «السلام الرومانيّ» قد ولّى زمانه.
* باحث لبناني