منذ زمن طويل أعمل وبعض زملائي في مجال التنوع الحيوي والبيئة الحيوانية، وأنا شخصياً أبحث في الزواحف والبرمائيات. لا تمر مناسبة من مؤتمر او ندوة علمية في الخارج الا ويتقرب منا باحثون اسرائيليون بكل لطف وروح صداقة و«أخوية» ليتعرفوا علينا وعلى أبحاثنا. واذا كان لدينا بحث نقدمه في المؤتمر يحضره كل واحد منهم، وتجدهم يصوّرون بوستراتنا (posters) مظهرين اهتمامهم بما نبحث فيه. نحن لا تغرنا مودتهم ولا يستطيعون اخفاء دوافعهم الاساسية وأقلها التطبيع والشعور بأنهم مقبولون في هذه المنطقة، بالاضافة الى المنفعة العلمية التي قد تكون في بعضها متبادلة.
يبعث بعض نظرائنا في الجامعات ومراكز الابحاث الاسرئيلية برسائل الكترونية وحتى مطبوعة يلتمسون من خلالها التعاون في أبحاث مشتركة، ولا يلقون منا جواباً. من الجدير تذكير من يقرأ ما أكتب هنا أنه، من الناحية العلمية، قد يبدو التعاون العلمي طبيعياً وعادياً كوننا نتشارك مع الارض والبيئة الفلسطينية في ظروف متشابهة وأنواع من الحيوانات مشتركة أو متقاربة. وقد يرى البعض أن في ذلك منفعة علمية لبلدنا لبنان، وما المشكلة أن يفيد ذلك ما هو ايضاً في الاساس، وفي البداية والنهاية، بيئة فلسطينية محتلة؟
في ندوة علمية في قبرص العام الماضي حدث ما كتبت عنه في جريدة «السفير» (صفحة «بيئة») وقتها، عن كيفية أخذ قرار في الندوة كنا اعترضنا عليه بعقد الندوة المقبلة بعد سنتين في احدى المؤسسات الاسرائيلية. وعند اعتراضنا حاول أحدهم اقتراح أن يدخلونا اسرائيل بطريقة ما، أو على الأقل المشاركة عبر سكايب أو ما شابه. جوابنا ( موجهاً الى رئيس المؤتمر) كان بديهياً وحاسماً، وهو رفض لا يحمل التأويل أو التردد. وفي النهاية اختطفوا الندوة عندما لم يتطوع أحد آخر باستضافتها في بلد آخر.

لدى الإسرائيليين علاقاتهم المتشعّبة
في كل
بلاد العالم

في المؤتمر العالمي (يعقد كل أربع سنوات) للزواحف والبرمائيات في الصين صيف العام الماضي، وبعد تقديمي لبحثي، اقترب مني أحدهم يحدثني بامكانية التعاون بيننا. وعندما لقي جوابي الحاسم والرافض بادرني بقوله (حرفياً): «ما الضير في ذلك؟ فها نحن نتعاون مع السعوديين الى أقصى مدى».
ولا يخفى على أحد أن التعاون معهم قد يكون مفيداً جداً. فلدى الإسرائيليين علاقاتهم المتشعبة في كل بلاد العالم وفي البيئة العلمية وفي المنشورات البحثية وعند ممولي الابحاث الخ... من دون أن ننسى قدرات مؤسساتهم العلمية والبحثية. يستطيع أحدنا من خلالهم ومعهم أن يصل الى أكبر درجات «الابداع» و«النجاح» والارتقاء الى «العالمية»، وما الضير في ذلك؟ لو اننا لهثنا وراء هذه المغريات لكنت ربما في حال آخر على الصعيد المهني الشخصي، ولكنا ربما تسللنا من دون أن ترانا أعين القانون في بلدنا. وحتى لو طالنا القانون لوجدنا الآن من المنافقين الكثير ممن يدافع عنا بحجة «الابداع» و«العالمية» و«النجاح»، وكيف أن الدولة اللبنانية تضطهد علماءها الناجحين الى آخر هذه المعزوفة الهابطة المنافقة. وربما كنت قلت لهم «حاكموني بالعلم وليس بالسياسة!».
قبل استقرارنا في لبنان في الخمسينيات، تنقل المرحوم والدي، بحكم عمله في احدى وكالات الانباء، بين عدة دول عربية ومنها فلسطين قبل نكبتها. وقد أقول أني بالفعل شربت حليباً فلسطينياً «أصلياً». وقد لا يعني هذا شيئا عندما ترى ما فعله ويفعله بعض من شرب مثل هذا الحليب بما لا يمتّ لمصلحة قضيتهم بصلة. كيف يمكنني أن أساهم في «أنسنة» ذلك الكيان الغاصب والمجتمع الذي ينضح بالعنصرية والتمييز؟ كيف يمكنني أن أتعاون مع عدو لنا فأكون أقل صلابة في قناعتي الانسانية (ليس العربية فقط) وأنا أرى في بلاد أجنبية ساهمت في خلق هذا الكيان ولا تزال تدعمه كيف يقاطع علماؤها ومفكروها ومؤسساتها، مؤسسات في هذه الكيان بسبب عنصريته واضطهاده للبشر الذين هم في النهاية شعب شقيق لنا وليس لهم؟ ليتذكر البعض ان هؤلاء العنصريين الذين التمسوا ولا زالوا يلتمسون التعاون معنا، ليسوا مجرد علماء ومدنيين، بل كلهم قتلة محترفون تدربوا في صفوف جيشهم العدواني، وقد يكون بعضهم قد أتى الى بلدنا في «زيارات» سابقة «يهدينا» فيها أصناف الخراب والقتل والدمار على مدى سبعين عاماً. وقد يكون اهلكم وبيوتكم من ضحاياهم. كيف يمكن أن أتفهّم من تعاون معهم ولا زال يدافع عمن تعاون ويتعاون. بئس هكذا ثقافة وحرية ووجهة نظر .... وماسوشية!
* أستاذ جامعي