وكان أول ما تبادر إلى الذهن عندنا سؤال: ما الأصل الفكري لاهتمام ثورة أكتوبر الاشتراكية بحركة التحرر الوطني؟
ووجدتني أبدأ هنا بما سطّره ماركس وإنجلز عام 1848 في «البيان الشيوعي» حول الوجه المقابل للتحرر الوطني وهو الاستعمار، حيث يقولان:
«إن اكتشاف أميركا والطريق البحري حول شواطئ إفريقيا قدّم للبرجوازية الصاعدة ميداناً جديداً للعمل... حيث أسواق الهند والصين، واستعمار أميركا، والتبادل مع المستعمرات وتدفق السلع بوجه عام».ثم يقولان: «تُجْبر البورجوازية كل الأمم، تحت طائلة الموت، أن تقبل الأسلوب البرجوازي في الإنتاج وأن تدخل إليها المدنيّة المزعومة، أي أن تصبح برجوازية، فهي، بالاختصار، تخلق عالماً على صورتها ومثالها».
هذا هو أقدم نّص، في ما يبدو، تناول فيه رائدا «الاشتراكية العلمية» موضوع التوسع القسري للبورجوازية الأوروبية في «عالم ما وراء البحار» بصورة مباشرة.
ومعلوم أن ماركس قد عكف، وهو بعْدُ في الثلاثين من عمره تقريباً، على وضع لبنات أولى لتفكيره الاجتماعي، وكان محور هذا التفكير هو مقولة الاستغلال، انطلاقاً من مقولتين أخريين كأنهما جناحان:
عملية الإنتاج، كقاعدة للوعي البشري ووعاء لحياة الإنسان، من جهة أولى، والتكوين الطبقي، من جهة ثانية.
وكان اهتمام كارل ماركس مُنْصَبّاً في هذا التحليل على المجتمع الرأسمالي الأوروبي، في جميع الأحوال. ولكن فيما يبدو، أن السنوات العشر التالية لإعلان «البيان الشيوعي» كانت فترة حافلة في مسار التكوين الفكري المتعاظم لماركس. وهكذا بدا الأمر من خلال كتابه (مساهمة في «نقد الاقتصاد السياسي») عام 1859، وبالتوازي معه قام ماركس ــ ورفيقه إنجلز ــ بكتابة عدد من المقالات والرسائل وقع جُلّها خلال سنوات عقد الخمسينيات من القرن التاسع عشر، انتهاءً ببعض الشذرات على شكل إضافات إلى «المجلد الثالث» لرأس المال كتبها أنجلز عام 1894 ــ أو1895، مثل ملاحظته حول الاستعمار والبورصة المالية.
في تلك المقالات والرسائل التي تم تجميعها في كتاب صادر عن «دار التقدم» في موسكو باللغتين العربية والإنجليزية بعنوان: «ماركس وإنجلز في الاستعمار» (Marx & Engels on colonialism). عرض الرجلان فيها، وخصوصاً ماركس، لعملية التوسع الاستعماري وعلاقته بنمط الإنتاج البرجوازي، وممارسة الاستغلال التجاري والمالي للبلدان خارج أوروبا، والتي جرى إخضاعها قسراً لهذا الغرض، في قارتيْ آسيا (الهند الشرقية تحديداً) وإفريقيا، وكذا العالم الجديد (بخاصة أميركا الشمالية) وبلاد عربية أخرى عديدة. وثمة إشارات عديدة إلى حالة مصر فيما خطّه ماركس وإنجلز عن الاستعمار، وإن شاب بعضها خلط وخطأ، كما في ملاحظة إنجلز عن أحمد عرابي كمجرد «باشا» كبقية الباشوات. ولكن ملاحظات وشذرات الرجلين عن الجزائر وخضوعها للاستعمار الفرنسي بالقوة القاهرة، وعن الهند، وجاوه (إندونيسيا) ــ وغيرها الكثير، ينطق بفهم عميق للمسألة الاستعمارية. بل ونجد جذراً قوياً لفهم المسألة الصهيونية في إطارها الاقتصادي - الاجتماعي، في كتيّب كارل ماركس ـ الشابّ ـ «حول المسألة اليهودية» في وقت مبكر (1843) وهو ابن الخمسة وعشرين ربيعاً.
وبرغم ما سبق، فإن العمل الرئيس لكارل ماركس وهو كتاب «رأس المال» مكرّس أساساً لتحليل الرأسمالية في عقر دارها، انطلاقاً من مقولة «رأس المال بالذات Capital»؛ رأس المال الذي يتحقق من خلال استدراج واستغلال نقيضه الجدلي أي «العمل»، حيث تقوم علاقة الإنتاج الاجتماعية التي قوامها تكوين فائض القيمة، وما يتبعها من ظواهر أخرى مسانِدة عدّة.
أبرز النتائج عن «رأس المال» ــ كما خلص إليها ماركس ــ هي التنبؤ بالثورة، الثورة الاشتراكية، تقوم بها طبقة البروليتاريا، حيث أكثر بلد مرشح ومهيأ كذلك هي إنجلترا، ذات النظام الرأسمالي الأكثر تبلوراً، والبلد الأكثر نضوجاً في مجال التكوين والصراع الطبقي، في غمار تبلْور الثورة الصناعية أواسط وأواخر القرن الثامن عشر.
كان هذا عصر كارل ماركس بحق (1818 ـ 1883) وكانت واسطة العقد الفريد هي موسوعة «رأس المال» الماركسية، وصدر المجلد الأول منها عام 1867 بينما صدر المجلدان الثاني والثالث بعد وفاته (1885 و1894 على التوالي). وجرت مياه كثيرة قرابة خمسين سنة تقريباً، ليكتشف الماركسيّ الأبرز/ فلاديمير إيليتش ــ لينين أن الثورة البرولتيارية التي لم تقم في عقر دار الرأسمالية ــ بريطانيا ــ قابلة للقيام خارج المنظومة الرأسمالية المركزية برمّتها، في أضعف حلقات النظام الرأسمالي نفسه، في روسيا حيث نويات الزراعة الرأسمالية والتقدم الصناعي المبكر وطليعة برولتيارية مسلحة بالفكر والحزب.
لقد حدث تحول كبير ــ كما وجد لينين ــ بتحول الرأسمالية الصناعية عند كارل ماركس إلى الرأسمالية المالية الاحتكارية المتوسعة خارج مركزها.. إنها إذاً الإمبريالية. وقد استفاد لينين من كتابات كاوتسكي عن تصدير الرساميل (أو«رأس المال») بغرض التجارة والإقراض التربوي كما لاحظت روزا لوكسمبورغ في كتابها «تراكم رأس المال» متخذة حالة مصر ــ وأندونيسيا ــ نموذجاً للاستعمار القائم على الديون في القرن التاسع عشر، الإمبريالية. كما استفاد من كتاب «هوبسون» عن الاستعمار، وهلفردنج عن «رأس المال المالي». وهكذا صاغ لينين وهو يقيم في زيوريخ عام 1916 دُرّته الفكرية: «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية».
بالتوازي مع اكتشاف لينين للإمبريالية، قدم اكتشافه لدور (الفلاحين في الثورة) بالتحالف مع الطليعة البروليتارية. واكتشف أيضاً حركة التحرر الوطني مسجّلاً اكتشافه ذاك في دراساته حول «حركة التحرر الوطني في الشرق».
وانطلاقاً من إشعاع ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917، طفقت تتشكل مجموعات على هيئة أحزاب «شيوعية» في البلدان العربية بعد عام 1920، وخصوصاً مصر وفلسطين و(سوريا ــ لبنان)، في المشرق العربي عموماً، و«الشرق الأدنى» خصوصاً. لقد تأججت آنئذ التناقضات الناجمة عن استغلال «النواه العمالية» الناشئة وبخاصة في مصر في العشرينيات من القرن المنصرم، وعن المشروع الصهيوني في فلسطين انطلاقاً من وعد بلفور عام 1917، وعن مشروع التجزئة الذي رعاه الوزيران سايكس وبيكو في اتفاق عام 1916 والذي أذاعته قيادة ثورة أكتوبر الاشتراكية بعد انتصارها، ضمن ما أذاعت من وثائق سرية لمجموعة الدول الحليفة بزعامة بريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الأولى.
وفي أتون التناقضات، حدثت تحولات متعاقبة في الحركة الشيوعية العربية على هيئة دورات (فكرية – سياسية) بدأت بدورة النشوء والتكوين (1920 ـ 1930) ثم دورة للنضوج الفكري بملامح منفتحة على فكرتي الوحدة العربية ومقاومة الصهيونية في فلسطين، ثم دورة شابها جمود عقائدي على وقع الستالينية، ودورة للنضال الاشتراكي والوطني في إطار عربي، بعد 1952 و1960 ثم بعد 1967. بعد مخاض دورة النشوء جاءت الدورة الثانية التي تعبر عنها مجموعة الوثائق الصادرة عن الأحزاب الشيوعية في مصر وفلسطين وسوريا ــ لبنان في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين، والتي جمعها الراحل الكبير إلياس مرقص في كتيبه الصادر عن «دار الحقيقة» في بيروت عام 1970 تحت عنوان (الأممية الشيوعية والثورة العربية، الكفاح ضد الإمبريالية، الوحدة في فلسطين – وثائق 1931. وكان في هذا كله، تعبير عن توّجه معين داخل «الكومنترن» في ذلك الوقت، محبّذ للكفاح ضد التجزئة الاستعمارية في المشرق العربي ومؤيد لفكرة الوحدة العربية كمنطلق للتحرر الوطني.
أيّد الاتحاد السوفياتي مشروع بناء السد العالي منذ مطلعه
ثم إن الستالينية التي أخذت في التجذر في العصر ــ بعد اللينيني، وبعد إزاحة تروتسكي، أخذت تنسج خيوط التجمّد العقائدي، وقلبت ظهر المجنّ لما دعا إليه لينين حول التفتح على الحركات القومية المظلومة في «الشرق» ــ تمييزاً لها عن القومية الظالمة (في الغرب) ــ وحول تحالف البروليتاريا مع الفلاحين. قدم ستالين في كتابه عن «القضية القومية» تعريفاً محدداً للأمة وللقومية جعل قوامه توفر شرط قيام سوق مشتركة أو (حياة اقتصادية مشتركة). وانطلاقاً من ذلك، اعتبرت المجتمعات القائمة على الرقعة العربية غير مرتكزة على قاعدة (الأمة) ــ لعد توفر ذلك الشرط ــ وإنما هي أُمم، وهي في أفضل الأحوال في مرحلة ما قبل الأمة أوالقومية ريثما تنشأ لها حياة اقتصادية مشتركة وربما «دولة». وسيظل هذا الاعتبار قائماً طوال عقود لدى الحركة الماركسية والشيوعية العربية، بالغاً تمثله الواضح في كتابات سمير أمين: «الأمة العربية» وفؤاد مرسي «نظرة ثانية إلى القومية العربية» ــ ومعهما محمد عمارة (قبل تحوله «الإسلامي في الثمانينيات» ثم الإسلاموي في التسعينيات ومطالع الألفية) ــ وكان ذلك في كتابيْه المبكرين: «فجر اليقظة القومية» و«العروبة في العصر الحديث». وقدم أحمد عبد المعطي حجازي في كتابه «العروبة، نظرة طبقية – حضارية» فهماً للأمة العربية مكتملة التكوين، قبل أن يتحول إلى الفكرة «المصراوية» المعارضة للعروبة حالياً ومنذ سنين.
كان الأثر الستاليني بادياً أيضاً في انحرافات «الحزب الشيوعي الفلسطيني» الذي جنح إلى تحالف الطبقة العاملة ــ عربية ويهودية ــ لمواجهة البرجوازية المشتركة على الجانبين، وشيء من ذلك حدث في ما يبدو لدى شطر من الحزب الشيوعي المصري في الأربعينيات.
وكان اعتراف ستالين بقيام إسرائيل عقب 15 أيار/ مايو 1948 مباشرة دليلاً آخر على ذلك. وقد ظلت النظرة العامة إلى القومية العربية كمقولة للعمل البرجوازي، في مواجهة الفكر الطبقي، سائدة قائمة على تحالف العمال أممياً في مواجهة البرجوزية العربية.
كانت وفاة ستالين عام 1953 ثم انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي في شباط/ فبراير من عام 1956 وإجراء المراجعات الجذرية عقب ذلك اعتباراً من عام 1957 بقيادة خروشوف، علامات على موقف سوفياتي مخالف للستالينية.
ولقد كانت ثورة «23 يوليو» 1952 بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر أول اختبار حقيقي لمدى صدق (أو«كذب») الستالينية الدوغمائية. فقد مثلت منذ انبلاجها ثورة وطنية منفتحة على التحولات الاجتماعية، تشقّ طريقا ثالثاً بين الرأسمالية الغربية والاشتراكية على النمط السوفياتي.
في الوقت نفسه، كان قيام منظومة اشتراكية أوروبية عقب الحرب العالمية الثانية، جامعة للاتحاد السوفياتي وبلدان أوروبا الشرقية، ثم انتصار الثورة الصينية بزعامة ماو تسي تونغ في كانون الثاني/ ديسمبر 1949، إيذاناً بقيام عالم جديد: عالم المجموعات الثلاث: المجموعة الاشتراكية (حتى بدء النزاع الصيني – السوفياتي اعتباراً من عام 1957 تحت وطأة المراجعة السوفياتية للستالينية)، وخاصة منذ 1959 – ومجموعة الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية – ومجموعة حركة – أو حركات – التحرر الوطني في إفريقيا وآسيا وكذا في أميركا اللاتينية، التي بدأت عملياً بمؤتمر باندونغ ـ إندونيسيا عام 1954 للشعوب الإفريقية والآسيوية (انظر كتابات سمير أمين بهذا الشأن ــ وأنور عبد الملك) ومؤتمر بريوني ــ يوغوسلافيا الذي جمع عبد الناصر وتيتو ونهرو عام 1956 ودشّن انضمام يوغوسلافيا ـ الدولة الاشتراكية الأوروبية ذات الخلاف مع الاتحاد السوفياتي ـ لمجموعة نُعِتت بالحياد الإيجابي، ثم المؤتمر الذي عقد في العاصمة اليوغوسلافية بلغراد عام 1961 مؤسساً لمجموعة دول عدم الانحيار، بعد مؤتمر القاهرة التحضيري عام 1960.
كان هذا عالم التجمعات الدولية الثلاثة، وكانت قاعدةَ هذا العالم نظام دولي للقطبية الثنائية، على طرفيها: الولايات المتحدة، والاتحاد السوفياتي. ووقفت الصين بين بين، من ناحية أولى، ويوغوسلافيا، ثم رومانيا في موقع مختلف، من ناحية أخرى.
بالتوزاي مع ذلك، بدأت حركة فكرية واسعة لاكتشاف موقع «العالم غير الغربي» و«غير الرأسمالي» في الفكر الماركسي بعيداً عن المركزية الأوروبية التي مَيّزت الدوغماتية الستالينية ومن تمثلات هذه الدوغماتية ما يعرف بالمراحل الخمس لتطور المجتمعات البشرية (المشاعية البدائية فالعبودية فالإقطاع فالرأسمالية ثم الاشتراكية). واستفاد المدّ الفكري العالمي والأوروبي بالجديد من مقولة «نمط الإنتاج الآسيوي في الشرق»، والذي اعتبر موازياً لنمط الإنتاج الإقطاعي في أوروبا الغربية بالذات.
أما على المستوى العربي، فقد كتب إلياس مرقص «الماركسية والشرق» و«الماركسية والمسألة القومية»، وكذلك فعل جورج طرابيشي جامعاً أدبيات «الماركسية والمسألة القومية» و«التنظيم الثوري»، وكتب أحمد صادق سعد موسوعة عن «نمط الإنتاج الآسيوي» واقترب سعد زهران من ذلك أيضاً. كما قدم فؤاد مرسي اجتهاداً في قضية التخلف والتنمية. ودكتور محمد دويدار ــ من «حقوق» الإسكندرية ــ قدم اجتهاده في مفهوم الفائض واستخداماته، ومحمود أمين العالم قدم أفكاره الثرية حول الفكر الاشتراكي المعاصر. وكانت محاولات التجديد مواكبة، في جانب منها، لحركة التجديد في نطاق ما سمي بالماركسية الأوروبية في الستينيات خصوصاً، على أيدي رعيل من قبيل هنري لوفيفر وروجيه غارودي وجورج لوكاش، استلهاماً لأفكار كارل ماركس في فترة الشباب (قبل أن يصير «ماركسياً» على حد تعبير البعض!) في ما سمّي «العودة إلى الينبوع» .
تجلت تلك الأفكار المبكرة في كتاب كارل ماركس «الأيديولوجية الألمانية» في 1845، ومن قبله ما يسمّى: «المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844»، وكلاهما لم ينشرا سوى عام 1932 في موسكو. ويسمّيها إلياس مرقص «فجر الماركسية» وقد قام هو بترجمة كتاب تجميعي لمؤلفات ماركس الشاب تحت عنوان «مختارات المؤلفات الأولى 1842-1846»، جامعاً «مخطوطات 1844» و«المسألة اليهودية» و«الأيديولوجية الألمانية» ونصوصاً أخرى. (صدر الكتاب بالعربية عن دار دمشق للطباعة والنشر – د.ت – وأظنه نشر حوالى عام 1966).
كان موقف الاتحاد السوفياتي في الخمسينيات ــ وحتى الإحاطة بخروشوف عام 1965 وبروز القيادة الثلاثية بزعامة بريجنيف ــ متفهماً لصعود عالم حركات التحرر الوطني، وبخاصة في المنطقة العربية، بقيادة عبد الناصر. ورأى السوفيات في مصر الناصرية ــ العروبية، قاعدة أكيدة للكفاح ضد الإمبريالية والهيمنة الأميركية. وبناء على ذلك تم منذ وقت مبكر التعبير عن الموقف الجديد من خلال مواقف عملية ورمزية كبرى، وبخاصة عقد صفقة الأسلحة التشيكية مع مصر عام 1955، والوقوف إلى جانب مصر وعبد الناصر في «معركة بور سعيد» ــ ولا نقول «السويس» ــ عام 1956 من خلال ما سمي «الإنذار الروسي»، كما عبر الشاعر (غير المعروف ــ للأسف) محمود غنيم:
ولولا صيحةٌ من غاب موسكو... ولوْلا وقفةٌ لبني نزارِ
ولولا مصرُ صان الله مصراً... لتوّج رأس إيدنَ تاجُ غارِ
أيّد الاتحاد السوفياتي مشروع بناء السد العالي منذ مطلعه عام 1956 ـ 57 بديلاً للبنك الدولي والغرب، وأيّد الوحدة بين مصر وسوريا. ولكن خروتشوف كان واضحاً أثناء زيارته مصر عام 1959 لتدشين بناء السد العالي، إذ عبر عن امتعاضه من فكرة «القومية العربية» قائلاً ما معناه فيما نتذكر: (إن العلاقة بين العامل المصري والعامل السوفياتي، أوثق من العلاقة بين العامل المصري ونظيره الكويتي). ولكن مناضلي «الحزب الشيوعي المصري» و«الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني» ــ حدتّو ــ لم يقبلا بالرؤية السوفياتية الرسمية، ودفعا ثمناً باهظاً في غياهب السجون، وخصوصاً في أبي زعبل والواحات. وظل الجمع في السجن خلال فترة 1959-64 حتى اعتبر قادة الفكر الاشتراكي ــ الماركسي، أن «الميثاق الوطني» ـ الناصري ـ الصادر في أيار/ مايو 1962 علامة على انبثاق فكر اشتراكي علمي وإن يكن قريباً من طريق ثالث، دعاه السوفيات أنفسهم (طريق التطور غير الرأسمالي).
وقام الحزب الشيوعي المصري بحلّ نفسه، واعترف الاتحاد السوفياتي رسمياً بذلك... حتى أنّي أنا حينما زرت الاتحاد السوفياتي في أيار/ مايو 1967 ــ قبيل الحرب ــ ممثلاً لمنظمة الشباب الاشتراكي، عرض المضيفون السوفيات أمامي خريطة للأحزاب الشيوعية في العالم، وبدت أعلام الأحزاب مبثوثة في كل مكان من الكرة الأرضية تقريباً، ما عدا مصر.. إكراماً وتكريماً لدور مصر الناصرية.
اعتباراً من 1961 بالذات ــ قبل قوانين وقرارات التأميم التي أخذت تنهمر تباعاً خلال السنوات القليلة التالية ــ وقف الاتحاد السوفياتي إلى جانب عملية تصنيع مصر، وفق (برنامج السنوات الخمس) 1957-64 البرنامج الذي اندمج في الخطة الخمسية الأولى (1960/61-1964/65). وساعد الاتحاد السوفياتي مصر على إقامة 700 مصنع التي تحدث بها جمال عبد الناصر مراراً، والتي ما زالت شواهدها قائمة برغم خصخصات حقبة (السادت ـ مبارك) لتمثل ربما المعالم التصنيعية الحقيقية (الوحيدة) – تقريباً – على أرض مصر طوال خمسين عاماً ويزيد.
اتبع الاتحاد السوفياتي ومجموعة الدول الاشتراكية الأوروبية، أعضاء «الكوميكون» ـ مجلس المساعدة الاقتصادية المتبادلة ـ مع مصر نموذجاً معيناً للعلاقات الاقتصادية المتبادلة هو «اتفاقات التجارة والدفع الثنائية» لتمثل عملية التبادل وفق أسلوب «المقايضة» أو«المقاصة» باستخدام العملة المحلية، الروبل والجنيه، حيث الواردات السوفياتية الصناعية مثلاً تقابل صادرات مصر الزراعية وما إليها.
وكما كان الاتحاد السوفياتي صديقاً وفياً لمصر في معركة التصنيع والتنمية (وفق نموذج إحلال الواردات) كان وفياً لمصر في معركة الحرب بعد حرب 1967: حيث إعادة التسليح من نقطة الصفر، وإعادة بناء القوات المسلحة أفراداً وكتائب، وإعادة بناء واختبار الاستراتيجيا والتكيتات بواسطة خبراء الصواريخ. وقامت حرب الاستنزاف، وأعيد بناء الجيش المصري، ليكون مؤهلاً لأول معركة بالصواريخ المحمولة على الكتف، والصواريخ المضادة للطائرات المغيرة، ولو الشبحية، كما في عملية تموز/ يوليو 1970 بإسقاط 18 طائرة فانتوم للعدو الإسرائيلي انطلاقاً من حائط الصواريخ.
تمكنت القيادة المصرية – التي التقطت أنفاسها بقبول «مبادرة روجرز» في 22 يوليو 1970 ــ من أن تسابق الزمن لاستكمال حائط الصواريخ قبل بدء سريان المبادرة بلحظات، بل واستغلال فارق الثواني عند بدء السريان. ووضعت القيادة المصرية مخططاً أولياً لعملية عبور قناة السويس فيما سمي بعملية (جرانيت 1).
وفارقت الروح الجسد في 28 أيلول/ سبتمبر 1970، ولكن عبد الناصر ترك جيشاً أُعيد بناؤه، وحائطاً للصواريخ، وترسانة من الصواريخ المحمولة، وخبرة قتالية لثلاث سنوات ونصف السنة من الاستزاف، ومخططاً أولياً للعبور. ولما بدأت الثورة المضادة بزعامة السادات في 15 أيار/ مايو 1971، وجدت أمامها ذلك كله، وترددت كثيراً في اتخاذ قرار بخوض المعركة مع العدو الإسرائيلي، ثم حزمت أمرها ــ مرغمة ــ لخوض «حرب تحريك» على وقع تظاهرات الطلبة في شباط/ فبراير 1972 وندائهم الأثير مع الشاعر والمغنّي:
«رجعوا التلامذة يا عمّ حمزة للجدّ تاني... يا مصر إنتِ اللي باقية وإنتِ قطْف الأماني...».
«مصر يامّه يا بهيّة.. يامُّ طرحه وجلابيّه.. الزمن شاب وانتِ شابّه.. هوّه رايح وانتِ جايه».
وقامت الثورة المضادة بإعلان استراتيجية مضادة قوامها أن (90% من أوراق اللعبة في يد أميركا) وفق ما قال من قال، وسرعان ما قام بالاستغناء عن الخبراء السوفيات، بعدما لم يعد لوجودهم لزوم، وقاموا بمهمتهم على أكمل وجه، كما يقولون.
وبعد تشرين الأول/ أكتوبر 1973 دار الزمن دورته في مصر والمنطقة العربية، من دون السوفيات. ولكن أثر ثورة أكتوبر الاشتراكية ما زال قوياً جلياً، ومجْلجلاً، في تاريخ العالم والمنطقة العربية ومصر... وإلى زمان قادم بعيد. ويبقى أنه لا يصحّ إلا الصحيح من ثم، في مصرنا العزيزة وفي وطننا العربي الكبير: الخيار الاشتراكي، وخيار العروبة، وخيار اليسار الاشتراكي ــ العروبي.
فإلى الأمام باليسار... ومن هنا نبدأ.
* أستاذ في معهد التخطيط القومي ــ القاهرة