كشفت التسريبات الأخيرة لويكيليكس النقاب عن التدخلات الممعنة واللامنتهية للمملكة المملوكة لآل سعود في كل كبيرة وصغيرة بشؤون دول المنطقة. بل يمكن القول إن تلك التدخلات قد تخطت الحدود بمراحل كبيرة لتمدد وتشمل الصحافة الإقليمية والعالمية على حد سواء.


اعتاد العالم على مدى عقود عدة على تلك التدخلات السافرة التي تم من خلالها تطويع الإعلام العربي تدريجياً لخدمة الشأن السعودي. وذلك يتمثل في تلاشي صورة المملكة من على الخريطة الإخبارية داخلياً وخارجياً، وكأن المملكة هي المكان الوحيد على وجه البصيرة الذي يخلو من المشاكل والمنغصات السياسية والاجتماعية، وان المملكة هي النظام الفريد على وجه الكرة الأرضية الذي لا تشوبه شائبة. فبديهياً، نتيجة لذلك ليس جديراً ان يخطر ببال أحد من قاطنيها أن يفتح فاهه في وجه أحد من حكام «المدينة الفاضلة» (عذراً، أعلم كما يعلم غيري كم تكره الوهابية ذلك المصطلح الفلسفي).
فلنتوقف قليلاً لنتأمل وسائل سيطرة المملكة على الإعلام الغربي والعالمي الذي يتغنى بالاستقلالية والنزاهة والحيادية في تناول قضايا واخبار دول المنطقة، بل والعالم. إعلام بلا شك يثق به معظم سكان الكرة الارضية.
تخصّ المملكة الاهتمام الاكبر بصروح إعلامية عالمية كبرى مثل: «سي إن ان» و«بي بي سي» و«فاينانشيل تايمز» و«رويترز» لإحاكة صناعة الخبر الذي يتناسب مع المتطلبات التي تفرضها المملكة. وقد كنت شاهداً خلال سنوات عملي العديدة على الكثير من الضغوطات الشديدة الممارسة من قبل المملكة للتحكم فيما يتم نشره، بل وصياغته أيضاً.
ومن الغريب ان الافراد الذين يقومون بالاتصال المباشر بالإعلام الغربي للإدلاء بتصريحات شبه رسمية قليلو العدد. من بين هؤلاء المتحدثين غير الرسميين السيد نواف عبيد. فالسيد نواف يستخدم شتى الضغوط المباشرة وغير المباشرة للتأثير على ما يكتبه الإعلام الغربي او ينقله عن المملكة، حتى أنه قام بفرض شروط وضغوطات على وكالة «رويترز» للأنباء من اجل الموافقة على قبول وجود مراسل جديد لها بالمملكة بعد الثورات العربية. والجدير بالذكر ان الانتفاضات العربية قد زادت من ريبة القيادات والنخبة المتطفلة بالمملكة.


ما يلفت الانتباه أن
هناك مصالح قديمة وحديثة بين الإعلام الغربي والنظام السعودي

والسؤال اﻵن: هل يحق لوسائل الاعلام بشتى انواعها قبول تلك الشروط المفروضة والضغوطات التي تمارس عليها بصور مختلفة ومتغيرة، كي تحتفظ بمكانة لعا على الساحة الإخبارية؟ الإجابة: لا
اظن.
فاهتمام الصحافة العالمية بالوجود على الساحة وقت وقوع الحدث، بات اهتماماً باهتاً. فالسياسة المعهودة لتغطية الخبر أصبحت «عند الحدث الكبير لازم نبقى موجودين، لما الخراء يضرب المروحة احنا هنعرف ننقل الخبر على طول!». فقد انضرم بالسنوات الاخيرة مزيد من النيران على ارض المملكة من دون ان يكترث لها الاعلام: انتفاضة في المنطقة الشرقية... اعتصامات بالبريداء... بل أن أفراداً قاموا بحرق انفسهم احتجاجاً على ظروف معيشية قاسية.
هل تحرك الإعلام العالمي لتغطية تلك الاحداث؟ او هل حتى اعتبرها مادة اخباريه؟ الإجابة: لا. فالأخبار اصبحت مقتصرة على تغطية اخبار من توفوا من أمراء المملكة، أو التعيينات الحكومية.
أي ان التغطية الإخبارية عن المملكة سادتها الكليشيهات الإعلامية في نقل الخبر حتى يضمن بعضهم مناصب كبيرة وألقاباً ومراكز عليا مثل رئيس تحرير قسم في وكالة ما في لندن... او بيروت... او المراسل الصحافي على الارض... إلخ. حقاً يجد هؤلاء ما يستحق الركض وراءه بدلاً من الركض وراء تغطية الخبر.
متحدث آخر، شبه رسمي، مثل جمال خاشقجي الذي يبدو ليبرالياً لبعضهم. وليبرالياً اخوانياً لبعض الآخر. وقد تحول وجه خاشقجي عبر السنوات الاخيرة لملامح تعلوها الطائفية الواضحة. وبالرغم من كل ذلك تنشر الصحافة الغربية العديد من تصريحاته بصورة منتظمة، ربما لاعتباره من قبل الغرب أهلاً للثقة لأنه يتحدث اللغة الانكليزية بطلاقة. لكن السيد خاشقجي عن طريق الخطأ او بزلة لسان افصح لزميل لي يوماً انه يعتبر نفسه مجرد خادم للمملكة، وحتى ان تقربه للإخوان في مصر، وخصوصاً عند حكهم، هو وسيلة لمعرفة اخبارهم ليتمكن من نقلها للدوائر العليا من الزمرة الملكية الحاكمة.
وكما ذكرت سابقاً، ان عدد هؤلاء المتحدثين غير الرسميين قليل، كما انّ وسائل ضغوطاتهم على الصحافة الغربية محدودة ومكررة. ويمكن تلخيصها في:
ــ تأشيرة الدخول: فكلما تمنّعت الحكومة ومانعت في إعطاء تأشيرة الدخول لصحافيي الاعلام الغربي، زادت أسهم وسلطات هؤلاء المتحدثين غير الرسميين. بل وزادت قيمة وأهمية ما يدلون به من تصريحات. ويبقى وزير الإعلام في عزلة ومنأى عن كل ذلك. فهو مجرد واجهة قليلة الحديث ونادرة التواصل، ففي عملية المراسلة بين نواف عبيد والوكالة كان وزير الإعلام بعيداً كل البعد. بالتالي يجب اتباع الخطة الموضوعة من هؤلاء لكتابة الخبر. وإن حاد عن ذلك أحد المراسلين أو الصحافيين لأسباب تسوقها الأمانة المهنية قامت قيامة لا نهاية لها. وابل من الرسائل والشكاوى ضد ممن حاد عن المنهج الذي لا يمت للواقع بصلة. وفي النهاية يتم البت في تلك المشكلة المعضلة بعزل من يحاول نقل الخبر بمصداقية ومهنية.
كانت لي تجربة في هذا الشأن، تتلخص بدايتها عند كتابتي عن الإسماعيليين في منطقة نجران وعلاقتهم المتوترة بالدولة الوهابية. نتيجة ذلك، تمت دعوتي من الوزارة التنفيذية «إياها» ليتم اتهامي من قبل «جهات» أنني اكتب ضد المملكة السعودية. من الواضح ان استخدامي لمصطلح «الوهابية» قد أزعج كثيراً أولي الأمر. وقد زاد ذلك إصراري على الكتابة عن «الوهابية». ولم لا؟ فالوهابية منهج من مناهج الفكر الإسلامي وواقع حقيقي في المشهد السياسي له مكانة كبرى تشتد بأساً وصلابة لتحرك اجزاء وبقعاً كبيرة من العالم يوماً بعد يوم.
الجدير بالذكر أن بعد احداث 11 ايلول (سبتمبر)، توصلت المملكة لقناعتين: 1-خطر إلصاق لفظ الوهابية بالمملكة. 2- تنظيف مصطلح «الوهابية» من الشوائب والمساوئ. لذا حاولت ولا زالت تحاول المملكة بجهد واسع استخدام الإعلام الغربي والإعلام الجديد لتبييض ماء وجه الوهابية وتجميله.
في عام 2007 تم اعتقال مجموعة من المفكرين والنشطاء في مدينة جدة. شرعت هذه المجموعة في إنشاء حزب سياسي بناء على مكانتهم الرفيعة في المجتمع الجداوي على وجه الخصوص. نتيجة ذلك قام السيد عبيد، وبناءً على استياء المملكة التي رفضت أن تحيد عن نظامها القبائلي الأوحد المخضرم، وذلك باتهام تلك المجموعة بمؤازرة ومناصرة بن لادن. المضحك في الأمر ان الدولة اشرفت على زيارة وفد من حماس لهؤلاء السنة قبل الاعتقال، وان عبيد كان يتشدق لي بـ«مشروع اتصالات» بقبائل سنية عراقية – مشروع مليء بكل الريب الذي يمكن تصوره. قد حدث ذلك في عهد الملك عبدالله، بوقت كان يعلو فيه صوت الخطاب الرسمي مجلجلاً بالحديث مراراً عن الإصلاح. إصلاح قابله الغرب بترحاب وبتشجيع. لكن واقع الأمر كان منافياً.
ما يلفت الانتباه في التسريبات الأخيرة أن هناك مصالح قديمة وحديثة متلاقية ومشتركة بين دول غربية كبرى وبين الاعلام الغربي وبين النظام السعودي. فهناك نفوذ اقتصادي وسياسي واضح بدول الغرب من قبل المملكة السعودية. وفقاً للمشرعات التاريخية التي تزعم المملكة انها تملكها في قبضة يدها يحق للمملكة في عصرنا الحالي ان تأمر الإعلام الغربي أمراً بما يجب أن يكتب والا يكتب... أيضاً عن دولة البحرين. ويقف المراسل الصحافي حائراً بين الكتابة عن الحقيقة التي تبدي صروح الإعلام الغربي الرغبة في نقلها. بل يدفعون المراسل دفعاً للبحث والكتابة عنها ربما مخاطراً بحياته لتغطية احداث وكشف حقائق، ثم بعد برهة تتم عملية ممنهجة من العقاب والنفي كمكافأة لنقل الحقيقة للنور. عقاب تفرضه نفس المؤسسات الإخبارية التي كانت تصبو للحقيقة والكشف عنها.
نعم قتلت الضغوط السعودية التغطية الإعلامية الموضوعية لأحداث دولة البحرين. وتواطأت مع المملكة السعودية حكومات مثل بريطانيا لنيل المزيد من العقود التجارية والمواقع الجيو سياسية. وكما ذكرت سابقاً فإن وسائل الإعلام الغربي دائمة التواطؤ مع المملكة لضمان حق الوجود من دون تغطية حقيقية شاملة عميقة لما يحدث. ويحق القول هنا إن دور الإعلام الغربي كمثل اعلى في كتابة الخبر الصحيح بات مشكوكاً في أمره لغلبة المصالح على نقل الحقيقة والواقع. فقرارات التغطية كان يدفعها في المقام الأول اعتبارات سياسية وتجارية تخلو من الحيادية أحياناً كثيرة. فعلى سبيل المثال، من خلال عملي السابق في وكالة «رويترز»، وضعت الوكالة بيع خدماتها التجارية وتغطيتها الاقتصادية للمملكة في المركز الأول، بينما تغطية دولة كالمملكة المغربية شبه منعدمة باستثناء بعض الأخبار البسيطة. والسبب هو الجناح التجاري للشركة الذي هو الآخر استطاع أن يحد من عدد المراسلين الصحافيين الذين يكتبون عن أي شيء سوى الاخبار الاقتصادية.
في إسرائيل، تخضع التغطية الاخبارية للمناطق الفلسطينية بشركة «طومسون رويترز» لمكتب القدس الغربية والذي يترأسه عادة مدير يريطاني خفيف الظل غير قادر على اتخاذ قرار واضح عما يجب ان يتم نشره. فمثلاً تم إنذار مراسل في الوكالة (في واشنطن) بعد اندلاع إنتفاضة الأقصى لأنه تضمن في تقريره أن الولايات المتحدة تعتبر مموّناً رئيسياً لاسرائيل في مجال التسلح. هناك دائماً أولئك الذين يحاولون ان يعارضوا الاتجاه العام لسياسات كبار المحررين والمنهج المؤسساتي للشركة، ولكن عادة إما حماسهم يهِن فيطيعوا، أو يستنتجون ان لا امل في احلال تغيير ثقافي من هذا الحجم ويتركون المؤسسة ليستثمروا مواهبهم في مجال آخر. بصفة عامة، تلك الانظمة المؤسساتية الاخبارية الكبيرة دورها مساعد ومكمل للدول الكبرى في قالبها النيو استعماري. وكلما ازداد حجم وعالمية المؤسسة الإخبارية كلما زادت قيود تغطيتها للخبر. فتمسك تلك المؤسسات بمناهج تخدم ما تخدمه يتنافى مع الحماسة والسذاجة الزائدتين التي تتمكن من بعض شباب الصحفيين، فيقعون بذلك فريسة في براثن تروج للكثير من الشجاعة والمهنية ظاهرياً فقط، لكنها في حقيقة الأمر لا تعترف إلا بمنهجها المؤسساتي.
* صحافي اسكوتلندي