مَن يهُن يَسْهُلُ الهوانُ عليه ما لجُرحٍ بميّتٍ إيلامُ(المتنبي)

ما أن أنهى دونالد ترامب كلمتَه وقام عن كرسيّه، حتّى ظهرَ محمود عبّاس على شاشةِ التِّلفاز لِيقْرأ «خِطابا مُهِمّاً» على ما جاء في الأنباء الواردة. خطابٌ أُريدَ له أنْ يكون ردّاً من عبّاس على صِنْوِه الأميركي وقد أفرغَ (أو أُفْرِغَ له) في هذا الخِطاب عُصارةَ الفِكرِ وقُصارى الجَهْد لِيسحقَ دعْوةَ ترامب ويمْحَقَ سياسةَ إسرائيل معاً بشأن القدس.

فأعْلَمَنا بادي بَدْءٍ، ولولا أنْ هدانا عبّاسُ إلى ذلك لما اهتدينا، «أنَّ الإدارةَ الأميركيّة بهذا الإعلانِ اختارتْ أنْ تخالفَ جميعَ القرارات والاتفاقات الدوليّة والثنائيّة (وأن تقدّمَ) مكافأةً لإسرائيل على تنكُّرِها للاتفاقات وتحدّيها للشرعيّةِ الدوليّة وتشجيعاً لها». وهكذا محَّصَ عبّاس وتبَصّر وفكّر وتدبّر وجاء بما هو ظاهر للعيانِ منذ عقودٍ خَلتْ وهو كما قال الشّاعر: أقامَ يُجْهِدُ أيّاماً قَريحَتَه وفسَّرَ الماءَ بعدَ الجُهدِ بالماءِ.
وزادَ فأثلَجَ صُدورَنا بأنّ «العديدَ من زعماءِ الدّولِ الشّقيقة والصَّديقة (مع) حقوقِ الشَّعبِ الفلسطيني ومُتطلبات تحقيقِ سلامٍ عادلٍ وشاملٍ». ولمّا نظرنا إلى «الدُّوَل الصّديقة» وما أَتَتْ و«الشقيقة» وما اقْتَرَفَتْ قُلنا على الله العوض خَبِلتْ ساسَتُنا.
وبالمناسبة، والشيء بالشيء يُذكَرُ، أقترحُ على الزُّعماء العربِ وعلى مَنْ يَكتبون لهم خُطَبَهم ويُزوِّقون لهم البيانات ويُزَخْرِفون التّصريحات أنْ يُقْلِعوا مِنَ الآن عن استعمال تعابير أصْبَحتْ مُمِلَّة وخالية من المعنى من مثل «الدُّوَل الشّقيقة والصّديقة» «و» بَحْثُ سُبُل دعم التّعاون الثُّنائي» و«تعزيزُ أواصِرِ الصّداقة والأُخُوَّة بين البلدين الشّقيقين» و«بَحثُ القضايا ذات الاهتمام المشترك» و«فُرَصُ تنْميةِ التّعاونِ بما يخدمُ المصالح المشتركة للجانبين في كافّة المجالات» فقيمتُها لا تساوي قيمةَ الحبْرِ الذي تُكْتَبُ به.
نعود من استطرادِنا إلى عبّاس وقد قرَّنا أَعْيُنا بقوله «إنّ القيادةَ تتابعُ على مدارِ السّاعة تطورات ومستجدات الموقفِ» فما على الشّعب الفِلسْطيني المعذّب في كلِّ مكان إلا أن ينامَ الآن ملءَ أجفانه «فالقيادةُ» على مصلحة الشَّعب ساهرة وهي للعدو بالمرصاد ولما زاد على ذلك بأن هذه «القيادة تعكف على صياغة القرارات والإجراءات المناسبة بالتَّشاورِ مع الأشقّاء والأصدقاء» عاوَدَنا الأرقُ وسَهَرُ الليالي من حُزنٍ ومن خوفٍ.
وأكّدَ أنَّ «القيادة» راشِدةٌ مسؤولةٌ «وستشهدُ الايّامُ القادمة دعوةَ الهيئات والأُطُرِ القيادِيّة الفلسطينيّة المختلفة إلى اجتماعات طارئة لمتابعة التطورات، ونحن بصدد دعوة المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى عقد دورة طارئة»، وها قد مَضَتْ على هذا الكلام أيّام والقتلى والجرحى من المُحاجّين يتَساقَطون بالمئات، ولم نرَ إلى الآنَ «أُطُراً قياديّة» اجتمعتْ ولا «مجالِسَ» دُعِيَتْ، بلْ حملت إلينا الجرائدُ نبأ اجتماعٍ يُعْقَدُ في القاهرة قريباً بين عبدالله الثاني والسِّيسي وعبّاس. ونقول لهذا الأخير، كما قالتِ العرب: إنْ كنتَ بهَذَيْن تَشُدُّ أَزْرَكَ فَأَرْخِهِ.
ثِبْ إلى رُشْدِكَ وشعْبِك.
ثمّ خَتَمَ بما جَرَت به العادةُ فذَكَرَ «شُهدائنا الأبرار» و«أسْرانا الأبطال» و«جَرْحانا البواسِل»، فَشَكر لهم هذه التضْحِيات بأنْ وَجَّه إليهم بالتحيّات الطيّبات!
فخطابُ عبّاس الذي أُريد له أن يكون ردّاً مقْذِعاً ومُفْحِماً على مَنْ تَجَرَّأ ونادى بالقدس عاصمةً موَحَّدةً لإسرائيل جاء باهِتاً لا طَعْمَ له ولا رائحة ولا لون، خالياً من الجِدَّة، مَكْرورَ اللّفظِ والمعنى. وحالُ عبّاس في هذا حال «عيّاش» الذي «تلْفَنْ مِتلْ ما كأنّو ما تلفن». نعَمْ
كَذّبْ عبّاس وقال الأشيا مَظْبوطَة
جَوّدْ عبّاس وعَرْفِينا مشْ مظبوطة
تكلّمْ عبّاس كذّبْ تكلّمْ عبّاس كذّبْ.
لم يكن خِطابُ عبّاس إذاً مناسَبَةً لإعلانِ مبدأ أو تحديدِ هَدفٍ أو رسمِ طريقٍ البتَّةَ، بل لِمَلْء فراغٍ إعلامِيٍّ بُعَيْدَ كلمة ترامب. وهكذا تَطْغى العلاقات العامّة على السّياسة الحقيقيّة ويأخُذُ النّاسُ (ويُؤخذوا) بالقُشورِ دونَ اللُّبِ... فتَضيعُ (أو تُضَيَّعُ) الشُّعوبُ والأوطانُ.

ملاحظتان:

* القاصِر مَنْ كان تحت الوصاية (الأميركيَّة مثلاً) والمُقَصِّر مَنْ كفَّ عن الشَّيءِ ونَزَعَ عنه وهو يقدِر عليه.

** في الأصل «تَلْفَنْ عيّاش» بالإذن من صاحب الكلام واللّحن، مع حفظ الألقاب، زياد الرّحباني.


* مدرّس الحضارة الإسلاميّة في جامعة «ليون» الثالثة