اعتماد قانون انتخاب قائم على مبدأ النسبية هو مطلب قديم جديد للمعارضة اليسارية خصوصاً. وهي ثابرت على التذكير بهذا المطلب والإلحاح عليه، بشكل متفاوت التأثير، في كل المراحل، بما في ذلك المرحلة التي سبقت إقراره في المجلس النيابي في الصيف الماضي. بيد أن الذي حسم في إقراره (طبعاً بشكل مشوّه لجهة الإبقاء على القيد الطائفي وتفتيت الدوائر والصوت «التفضيلي» الذي يذكر الناخب بانتمائه الطائفي والمذهبي...)، الذي حسم بذلك هو أولاً، انفراط عقد تحالفي 8 و14 آذار.
هذان التحالفان خاضا، خصوصاً في دورة الانتخاب الأخيرة عام 2009، منافسة «كسر عظم» بسبب حدّة الانقسام الداخلي وتعمُّق الاستقطاب الطائفي والمذهبي فيه وشموليته، وتعاظم الدور الخارجي دعماً لهذا التحالف أو ذاك. كل ذلك شكّل بدايات صراع دولي وإقليمي حاد، انتهى إلى ما هو عليه الآن من حروب داخلية وإقليمية ضارية، تستخدم فيها أفتك أنواع الأسلحة، بما فيها المحرمة دولياً!
أما العامل الثاني الذي سهَّل اتخاذ قرار إدخال النسبية في قانون الانتخاب، فهو سعي متبادل من بعض الناخبين الكبار على الساحة المحلية للنيل من حصة الطرف المنافس. النظام الأكثري مكّن الأقطاب الكبار من «قشّ» كل المقاعد عبر «البوسطات» و«المحادل» وأسلحة العصبيات والمال والدعم الخارجي، فضلاً عن تسخير موارد الدولة وسلطتها وإدارتها في نطاق نظام المحاصصة الذي عزَّز التقاسم والدويلات ومعهما الانقسام والتبعية والفساد وعدم الاستقرار والفوضى ونهب البلد وتعاظم الدين العام إلى نسب وأرقام هي، نسبياً، الأعلى والأخطر في العالم!
بعد البنود المخلة التي تضمنها القانون الجديد نفسه، شهدت معركة التحضير لتطبيقه ارتداداً على عدد من بنوده الإيجابية، ومنها اعتماد الاقتراع في مكان السكن. أُخضع هذا البند، الذي بسببه بُرِّر تأجيل الانتخابات، لمشروع نهب عبر كلفة فلكية، ما حال دون إصدار البطاقة الممغنطة. وفي امتداد محاولة إفراغ القانون الجديد من بعض إيجابياته الهزيلة، انطلقت حملات التعبئة الطائفية في الوطن والمهاجر من أجل استحثاث المشاركة على خلفية طائفية وفئوية. وقد أستُتبع ذلك بمعركة مرسوم سنة الأقدمية (دورة عون لعام 1994) التي ما زالت نيرانها تتطاير بما أضفى ويضفي على المعركة الانتخابية طابعاً غرائزياً لن يستفيد منه إلا تجار الاستقطابات الطائفية والمذهبية طوال الأشهر الثلاثة المقبلة!
يقع في نطاق السلبيات أيضاً التعامل مع القانون النسبي وكأنه قانون أكثري لجهة صياغة تحالفات استئثارية هي في الواقع «محادل» جديدة تستهدف قطع الطريق أو محاصرة احتمال تمثيل القوى والتيارات والأشخاص الذين يستطيعون، مبدئياً، حجز مقعد هنا أو هناك. يجري ذلك عبر رفع نسبة المشاركة لرفع الحاصل الانتخابي، أو عبر عملية إلحاق سياسية من شأنها أن تفرغ التمثيل المذكور من أي استقلالية عن القوى الكبرى. هذا طبعاً بالإضافة إلى أشكالٍ أخرى من المؤشرات والضغوطات والوعود، وصولاً إلى التزوير المباشر وإلى المال الانتخابي الذي أتاح القانون له مجالاً واسعاً برفع أرقام النفقات الانتخابية إلى درجة غير معقولة...
وعلى المقلب الآخر، لا تبدو القوى، التي طالما طالبت باعتماد النسبية في الانتخابات، قادرة على خوض هذا الاستحقاق بشكل فعّال ولو بالحد الأدنى. إن القدرة على تعبئة القوى المتضررة من نظام ومنظومة المحاصصة هي دون المستوى المطلوب حتى الآن. ومعروف أنه ما لم تتوحد هذه القوى في معركة منظمة على امتداد البلاد أو في بعض الدوائر، على الأقل، فلن تتمكن من بلوغ الحاصل الانتخابي في معظم الدوائر إن لم يكن في جميعها. إن وجود قوى شعبية وسياسية ومدنية عموماً، معترضة وناقمة، هو أمر مفروغ منه. وقد عبَّرت أكثرية هذه القوى عن استيائها في الشارع في أكثر من مناسبة سياسية واجتماعية ونقابية، وكانت الانتخابات البلدية أحد أبرز أشكال التعبير عن النقمة المذكورة، وخصوصاً في العاصمة. وفي خلال السنوات الأخيرة، وحتى الآن، ما زال يتفاقم العجز الرسمي عن حل مشكلات المواطنين ومعاناتهم. ويستشري الفساد، ويبدو عاملاً حاسماً في تحريك الملفات أو تعطيلها. وتراوح مشكلة النفايات مثلاً في دائرة مفرغة من الإهمال وقلة المسؤولية وتفاقم الأضرار الصحية والبيئية، دون أن تتحرك الجهات الرسمية، جميعها، لمعالجة هذه الآفة بعيداً عن الفئوية والإهمال والصفقات...
إن عدم القدرة على تعبئة الفئات الشعبية الناقمة والأكثر ضرراً هو نقطة ضعف أساسية في وضع قوى التغيير. ويظهر الآن، بشكل جلي وخطير، التأثير السلبي لغياب مرجعية وطنية يجسّدها تيار وطني ذو برنامج مرحلي وحد أدنى ضروري من التنظيم والتوحد والقدرة على الفعل والتعبئة في المعركة الانتخابية الراهنة. إن المسؤولية عن هذا الأمر تقع على قوى التغيير المنظمة والأكثر جذرية وتجربة ومصلحة. ومعروف أن بعض هذه القوى قد مارس الكثير من الأخطاء في هذا الصدد (إلى حدود العبث والتخريب الصافيين) لأكثر من عقد من الزمن دون أن تجري مراجعة ذلك ونقده بشكل حازم وصارم لتحديد المسؤوليات واستخلاص الدروس الضرورية.
تُرفع الآن شعارات صحيحة لجهة أهمية وحدة القوى الديمقراطية ووحدة خوضها للمعركة الانتخابية. لكن واقع الحال لا يبشر بالكثير. ورغم ذلك لا ينبغي الاستسلام. معركة الانتخابات الراهنة، هي، في نهاية الأمر، محطة في نضال طويل متواصل من أجل التغيير. والمهم، الآن، تحقيق بعض التقدم من خلال خوض معركة الانتخابات، ولو جزئياً في بعض الدوائر. هذا يتوقف على بذل جهد جدي وغير فئوي، عبر تشكيل لجان تشاركية تتولى عملية توحيد الجهود والشعارات والبرامج والمرشحين، وكذلك التفاهم على طابع المعركة بوصفها حلقة في جهد متواصل، أثناء الانتخابات وبعدها، لبناء حركة شعبية معارضة ومستقلة وقادرة على الإنجاز والضغط والمواجهة مع منظومة المحاصصة والفساد والتبعية.
نداء النسبية، اليوم، هو، إذاً، نداء المسؤولية الوطنية لوضع اللبنات الضرورية لبناء المركز الوطني للتغيير الديموقراطي: برنامجاً وصيغة وموقعاً مستقلاً. ثمة حيّز أو فضاء أو كتلة يبحث (أو تبحث) عن تمثيل خاص ومناسب ومستقل ومعارض. التحدي هو، الآن، في تحقيق هذه المهمة أو بعضها. وهي، بالتأكيد، مهمة وطنية بالأساس. ولا بأس من القول إنها مهمة إنقاذية أيضاً!
* كاتب وسياسي لبناني