لم يكن احتجاز الرئيس سعد الحريري في المملكة العربية السعودية (4 تشرين الثاني الماضي) أمراً من خارج سياق تدهور علاقته بقيادتها، ولو أن الأسلوب كان فجّاً ومستفزاً. أخبار النقمة السعودية على الحريري كانت تسابقها أخبار التسبب في أزمته المالية التي دفعت «إمبراطورية» شركة «أوجيه»، التي ورثها عن والده، إلى الإفلاس المتعمَّد. إبعاده المتواصل عن بلده إلى المملكة بدا نتيجة لأزمة ثقة بجدارته القيادية خصوصاً في ما يتعلق بما هو مطلوب منه: في لبنان حيال حزب الله، ومن لبنان حيال الأزمة السورية والصراع المحلي والإقليمي والدولي الدائر في سوريا وعليها.
لا شك أن الاحتجاز كان مقروناً بمحاولة، لم تنجح، لفرض مسار مختلف على الرجل، بما في ذلك استبدال شقيقه «بهاء» به، شكلاً، وبمجموعة من صقور السياسة والإعلام والأمن مضموناً. المفاجئ أن الرئيس سعد الحريري قد صمد. وهو بعد الإفراج عنه، بضغوط ووساطات متعددة، اختار مساراً خاصاً يقوم على تعزيز مقومات استمراره في موقعه الرسمي وموقفه السياسي، بالاستناد إلى عوامل داخلية أساساً، لا خارجية (عندما كان يستظل مرجعيته السعودية بالكامل معتمداً منها بمعزل عن قناعة أو قدرة على الإنجاز).
انخراط السعودية في الأزمة اليمنية صرفها مؤقتاً عن الأزمة اللبنانية. دفع ذلك سعد الحريري إلى اتخاذ عدد من المبادرات اللبنانية التي تخدم بالدرجة الأولى سعيه للعودة إلى رئاسة الحكومة اللبنانية. هذه العودة كانت أمله شبه الوحيد في مواجهة تراجع نفوذه وتعاظم خسائره المالية إلى حدود الكارثة والإفلاس. بادر يومها إلى اللقاء مع النائب سليمان فرنجية، المرشح («خطة B» حسب اعتقاده) لرئاسة الجمهورية. لم يكن الأمر مغامرة، كما ظن كثيرون، ولا كان بموافقة سعودية، كما كان يُفترض. كانت، إذن، محاولة من سعد للعودة إلى السلطة سبيلاً لاستعادة بعض نفوذه ووقف تدهوره المالي عبر منافع الحكم، أي عبر الشراكة الوازنة في منظومة المحاصصة التي هي، بالضرورة، بوابة فساد مشرعة لكل قادر من متحاصصي خيرات البلاد ومواردها ومرافقها وموازنتها.
الصعوبات المتزايدة للسلطات السعودية في اليمن شجعت الحريري على المضي قدماً نحو تبني ترشيح العماد ميشال عون للرئاسة حين تعثر مشروع ترشيح فرنجية. ضبابية الموقف السعودي حيال مبادرتي سعد الحريري في موضوع الرئاسة اللبنانية وفرت، بالإضافة إلى أسباب مهمة أخرى، دفْع ترشيح عون إلى حيز التنفيذ. لكن مرحلة جديدة كانت، بعد ذلك، بانتظار مشروع سعد حين جاءت الفواتير السعودية المطالبة باتخاذ موقف رسمي لبناني ضد تدخل حزب الله في سوريا، وفي أزمات أخرى في المنطقة (منها اليمن خصوصاً). «التطحيل» السعودي في اليمن، ومعه زيادة الخسائر والمخاطر وسط غياب أميركي أصبح مصدر مرارة سعودية غير مسبوقة في العلاقة مع «الحليف الاستراتيجي» للرياض (الذي كان يثابر على إنجاز «الاتفاق النووي» مع إيران)، هو ما دفع قادة المملكة إلى زيادة تطلبها من الحريري الذي كان منصرفاً بالكامل إلى ترتيب شؤونه الخاصة قبل أي أمر آخر.
في سياقٍ موازٍ كانت تتنامى حملة منافسي الحريري لكسب دعم المرجعية السعودية. من بين هؤلاء برز أصحاب مراكز قوى في تيار «المستقبل» نفسه، وكذلك حلفاء مقربون في فريق 14 آذار. عنوان هذه المنافسة كان التحريض على تنازلات سعد الحريري للفريق الخصم ولمرجعياته الإقليمية، وإدارة ظهره لمصالح السعودية ولمصالح حلفائها.
محدودية الخيارات أمام سعد الحريري دفعته إلى تجاهل ضغوط الداخل والخارج عليه، والمضي في توطيد علاقته بـ»التيار الوطني الحر» وإقامة شراكة «ثنائية» معه من أجل تعزيز الموقع والمنافع في الوقت ذاته. اختبار الاحتجاز نفسه عزَّز قناعة الحريري بصوابية خياره وبالمضي به فور عودته من الاحتجاز، إذ أكَّد مراراً، ضمناً أم صراحةً، أن مصدر قوته هو الداخل أساساً (جمهوراً وعلاقات سياسية في الحكومة خصوصاً) وليس الخارج.
يمضي الآن الحريري في هذا الخيار، وهو كسب جولات لا بأس بها في سياق تخطي المحنة التي ألمت به نتيجة تخلي القيادة السعودية عنه وإصرارها على توظيف نفوذه الرسمي والشعبي في خدمة معركتها الإقليمية عموماً واليمنية خصوصاً. خطابه في ذكرى اغتيال والده كان تجسيداً لنفس الخيار المذكور، أي خيار «النأي بنفسه» عن الإملاءات السعودية والاعتماد في تدبُّر أموره بالاستناد إلى العوامل الداخلية لا الخارجية. كان لافتاً استمرار توتر علاقته ببعض أقرب حلفائه السابقين: «القوات اللبنانية» و»الكتائب» وصقور «أمانة 14 آذار»... وكان ولا يزال لافتاً أيضاً تعزيز تحالفه السياسي والانتخابي مع التيار العوني مقروناً بهدنة إيجابية مفتوحة مع حزب الله تحت عنوان «الاستقرار اللبناني» (محيلاً الهدنة إلى «ربط نزاع» مؤجل، لأسباب تعبوية دعائية لا أكثر)، الذي يعتبر أنه هو صاحب الفضل الأول فيه، مؤكداً أنه مستمر في ذلك خدمةً للبنان ولتجنيبه «حرائق المنطقة». وكان لافتاً أيضاً عدم تناوله السياسات الإيرانية في المنطقة على غرار ما كان الأمر بالنسبة إلى خطاب الاستقالة من السعودية حيث احتل التهجم على هذه السياسة الجوهر الرئيسي في ذلك الخطاب المفروض.
من حيث شاء أم لم يشأ، أكان ذلك باختيار أم بإجبار، يشق الحريري طريقاً إيجابياً في تكريس العامل الداخلي عنصراً مهماً في تحديد السياسات والعلاقات والمصالح. لا يعني ذلك أن العوامل الخارجية غير مهمة وغير مؤثرة أو ذات أولوية أحياناً، لكن إعادة نوع من التوازن الموضوعي إلى جدلية العلاقة بين الداخل والخارج في تقرير السياسات والعلاقات هي شرط مهم لمعالجة عنصر الخلل والاختلال في علاقات اللبنانيين فيما بينهم وفي علاقاتهم بالخارج. التبعية هي ثمرة هذين الخلل والاختلال، وهي تفاقمت بانعقاد العوامل الفئوية على العوامل الطائفية والمذهبية والشخصية على النحو الخطير الذي عانى منه لبنان واللبنانيون منذ الاستقلال حتى اليوم.
أهمية «خيار سعد» تكمن في الإصرار عليه. بعض نجاحه ينبغي أن يتجسد بتشجيعه بوصفه خياراً يعزز استقلالية ما، وليس بوصفه هزيمةً لفريقه وانتصاراً للفريق الآخر.
لم يجرِ في دلالات عملية احتجاز الحريري، في 4 تشرين الثاني الماضي، التركيز على خطورة ما يقيمه الأطراف من علاقات مع مرجعيات خارجية. لقد أهمل هذا الأمر عمداً حفاظاً على مبدأ التبعية التي يستظلها الجميع للاستقواء بعضهم على الآخر، وجميعهم على الوطن والمواطن، بوصف التبعية، أيضاً، عنصراً مهماً في منظومة المحاصصة الطائفية وأحد أهم أسباب الحفاظ عليها.
لم يحصد اللبنانيون من منظومة المحاصصة إلا «قلة الهيبة»، وغياب الاستقرار، وانعدام أهم شروط السيادة، وتعثُّر قيام دولة قانون ومؤسسات ومساواة وعدالة... وتستفيد من كل ذلك أقلية تتحكم بالبلاد والعباد خدمة لمصالح خاصة، داخلية وخارجية، على حساب المصلحة الوطنية.
* كاتب وسياسي لبناني