يجتمع، في المعنى اللفظي والاصطلاحي للعقل، ما ذهب إليه رينيه ديكارت أنه قوّة الإصابة في الحكم، أي تمييز الحق من الباطل، والخير من الشر، والحسن من القبيح. وهو دليل صحة الفطرة الأولى في الإنسان، كما عند الإمام الغزالي، ويكون حدة قوة تدرك صفات الأشياء من حسنها وقبحها، وكمالها ونقصانها، والذي يتفق مع المعنى اللغوي للعقل وهو الحجر والنهي، لأنه يمنع صاحبه من العدول عن سواء السبيل، كما يمنع العقال الناقة من الشرود.والعقل في الشرع حجة. وكل عقلٍ نبيّ، يقول أبو العلاء المعري؛ مستطرداً في نقد كل خطابٍ يجافي العقل بقوله: يخاطبنا كأن ليس لنا عقول. وهو، في الفلسفة، يقبض على جوهر قولها، لأن الفلسفة تفكير عقلي، لا يقبل الحقيقة إلاّ إذا كان عليها دليل عقلي، وكانت مقبولة لدى العقل.
نسوق هذه المقدمة للقول إن كل اختيار فعل عقليّ، وإن المواقف يمليها العقل الذي يميّز بين الأشياء، ويقدّر المصالح، وعليه تثاب الأمور يوم الحساب. ومقصد القول، في هذا المحل، هو كيف يمكن أن نختار في الانتخابات النيابيّة الراهنة من نصوّت له ونمنحه ثقتنا وتأييدنا، ويكون هذا الاختيار عقلانياً مبنياً على أحكام العقل. ليس فيه للهوى والزوغان محل ولا نصيب، وإذا كان يصح الأمر على كل اختيار، فإنه في أمر انتخاب برلمان جديد، أكثر رجحاناً. وذلك لأسباب عدة تتعلق بطبيعة النظام اللبناني وكذلك بوظائف البرلمان ودوره في النظام اللبناني الديمقراطي البرلماني.
من وظائف البرلمان اللبناني، انتخاب رئيس الجمهورية، وتسمية رئيس مجلس الوزراء، ومنح الحكومة الثقة وحجبها عند الاقتضاء، وتشريع القوانين، وإقرار الموازنة العامة.
إنه صورة ناطقة عن الشعب وحقه في سيادته على نفسه وممارسة السلطة في دولة ديمقراطية. بذلك، يذهب العقل إلى اعتبار الاختيار في هذا الأمر، مرتبطاً بأمر السياسة والحكم. وهو شأن يعنى به الناس جميعاً، لأن الإنسان مدنيّ الطباع، تقوم فطرته على إدارة شؤونه، ويقرّ عقلاً ضرورة نظم الأمر وإعمار الأرض، وإصلاح شؤون العامة وإدارة سياسته.
في الانتخابات، تتنافس الأحزاب في طلب تأييد الناس مستندة إلى مشروعها السياسي وبرامجها وشخصياتها. وتجعل الناخب في محل اختيار ينبغي أن يكون على هدي العقل لا سبيل الهوى. وإذا كان هذا يصدق في كل الدوائر الانتخابية على وجه العموم، فإننا نأخذ نموذجه الأساسي دائرة بعلبك ــــ الهرمل، لنبيّن الخيارات التي يقرها العقل في الانتخاب، وذلك على سبيل المنطوق العقلي المحض لا سبيل الدعاية، مقسمين الاختيار في التصويت إلى ثلاثة: التصويت السياسي، التصويت المقارن، والتصويت المفيد.
في التصويت السياسي
خصّ قانون الانتخاب محافظة بعلبك ــــ الهرمل بأن جعلها دائرة واحدة وقضاء انتخابياً واحداً، وذلك دليل على شدة الروابط بين أهلها. مساحة المحافظة الجغرافية ربع مساحة لبنان تقريباً، وتشمل البقاع البعلبكي والسلسلة الشرقية والغربية من جبال لبنان، وتمتد على طول الحدود الشمالية الشرقية مع سوريا، لتشكل نافذة لبنان البرية إلى العالم العربي. غالبية سكانها من المسلمين الشيعة، وهي حاضرة كبرى من حواضر الشيعة في بلاد الشام مثلها مثل جبل عامل في الجنوب اللبناني، وفيها تعدد لبناني سكاني نموذجي، من المسلمين السنّة، والمسيحيين الموارنة والروم الكاثوليك؛ وتجمع أهلها عادات وتقاليد مشتركة، وأحوال اقتصادية واجتماعية متشابهة.
وقد تعرضت هذه المنطقة خلال السنوات الماضية لخطر الإرهاب التكفيري الذي وضع في أولوياته الإستراتيجية السيطرة عليها للنفاذ منها إلى بقية مناطق لبنان. وكانت بعلبك ــــ الهرمل جبهة حرب حقيقيّة. وتعرضت من جرّاء ذلك، لكل ما تتعرض له المناطق التي تشهد الحروب، من خلل في الأمن والتنمية وازدهار تجارة الحرب على أنواعها، وغياب للدولة في الإدارة، مع حضور فاعل على الجبهات.
من يستطيع بالفعل تنفيذ خطة إنماء حقيقية وواقعية للمحافظة؟


لعب حزب الله في الحرب على الإرهاب الدور الأساسي. وتمكّن، مع الجيش اللبناني، من هزيمة الإرهابيين. وقدّم من أجل ذلك تضحيات كبرى. وكانت بعلبك ــــ الهرمل معقله وحاضنته السياسية والشعبية الأساسية. والعلاقة بين حزب الله وهذه المنطقة صورة صادقة عن علاقة السمكة في الماء، صورة اجتماع سياسي قادر على تأمين حاجاته في الدفاع عن نفسه، وفي الحفاظ على البقاء. ولا يتعلق الأمر بالمسلمين الشيعة وحسب، بل يشمل جميع فئات السكان اللبنانيين.
وهذا الأمر يحفظ سهل البقاع وجبال لبنان، كما يترك الطريق البري إلى العالم العربي سالكاً وآمناً، فيما أي خلل في معادلة تسعى لإضعاف مقاومة هذه البيئة، هو خلل في معادلة الدفاع عن النفس. والعقل يحكم ضرورة الحفاظ على قوة حاضنة البقاع الشمالي، بوحدته، وذلك يعني أن كل انقسام خسارة كبيرة.
ما يفيد هذه المحصلة العقلية أن معركة بعلبك ــــ الهرمل ضد حزب الله، تخاض في صورتها الاعتراضية على دوره المشهود في الدفاع عن المنطقة ضد الهجوم الإرهابي التكفيري.
هذا هو جوهر الموقف السياسي، في معنى ماذا تفعله منطقة خارجة من انتصار في حرب لا تزال قائمة في الجوار من اختيار قيادتها السياسية لسنوات قليلة مقبلة، سوى أن تحافظ على وحدتها وعلى مقاومتها... إذ لا تغير الشعوب جيوشها في الحروب. ومن يختار سوى حزب الله في بعلبك ــــ الهرمل، يلعب بمصير المنطقة في وجه الإرهاب التكفيري الذي لا يزال في جوارنا.

التصويت المقارن
يساعد الفكر المقارن على اكتشاف الحقيقة. والضد يظهر حسنه الضد. المقارنة بين اللوائح المتنافسة في بعلبك ــــ الهرمل، تخلص نتيجة حكم العقل لصالح التصويت للائحة الأمل والوفاء التي يتوزع مرشحوها على المناطق الأربع للمحافظة: بعلبك، شرق بعلبك، غرب بعلبك والهرمل. بما يعنيه من جمعٍ بين البقاع البعلبكي والهرمل، والسلسلتين الشرقية والغربية. وتقود هذا التحالف قوى سياسيّة (حزب الله وحركة أمل) في منطقة ذات غالبية شيعية. وفي لبنان، يدرك العقل أن التوافق بين السكان وتمثيلهم السياسي أمر أساسي. ويقود ذلك إلى ربط إنماء المناطق بأحزابها السياسية.
المشكلة الحقيقية في بعلبك ــــ الهرمل أنه لا وجود لحزب سياسي ذي طابع شيعي معارض لثنائية حزب الله وحركة أمل، بل توجد شخصيات، سياسية وعائلية ومالية، تستند إلى الصوت المسيحي والسنّي لعلّها تصل من نافذة مفتوحة كنقرة في جدار متين. لكن هذا الوصول يراد منه النيل المعنوي أكثر من الإفادة المادية. تسجيل نقطة على الثنائي لإنجاح نائب، قد يلعب دور عقاب صقر، لا هو يبقى في البلاد، ولا هو يعمل في البرلمان وإذا اختلف عنه، عاد إلى أهله، أو انكفأ في سياساته.
التفكير العقلي يحكم في هذا الأمر. والمقارنة هنا بين لوائح لا تجمعها إلا اختيارات هامشية، على حسب ضربة الحظ، أو فعل الصدفة، وبين كتلة سياسية متراصة، يمكن تأييدها، وحساب خطواتها ومحاسبتها على كل أمر، ومطالبتها بكل شأن.

في التصويت المفيد
التصويت في الانتخابات حق من حقوق المواطن يمارس فيه دوره في اختيار الإدارة السياسية لبلاده. وكل إنسان يسعى، وفق هداية العقل، إلى أن يكون هذا الصوت في مكانه المناسب مفيداً لما يريد صاحبه إفادة حقيقية وواقعية. وكل ما هو واقعي هو حقيقي، ولذلك لا يستحسن العقل التصويت الضائع، والذي لا يؤدي غرضه في الفائدة المرتجاة للصالح العام.
إذن، العقل يذهب إلى ضرورة التصويت المفيد. وعليه ما هو التصويت المفيد في دائرة بعلبك ــــ الهرمل؟
لنأخذ مثلاً، للفائدة، وهو الإنماء، الذي يصوّب عليه جميع الناس هذه الدورة الانتخابية. من يستطيع بالفعل إجراء وتنفيذ خطة إنماء حقيقية وواقعية لمحافظة بعلبك ــــ الهرمل؟
هل يمكن لنائب منفرد، يخرق لائحة جامعة، حين يذهب إلى البرلمان أن يحقق ذلك وكيف؟ ما هي مقدراته الفعلية على تحقيق ذلك، خصوصاً أن الكتل التي تعاون معها، عينها في الإنماء على مناطق أخرى لها الأولوية. ولنكن واقعيين. عين القوات اللبنانية في الإنماء على بشري وكسروان، وكذلك التيار الوطني الحر. وعين المستقبل على البقاع الغربي وعكار وطرابلس، فيما بعلبك ــــ الهرمل، بحكم الواقعية السياسية، هي من حصة ثنائي حزب الله وحركة أمل.
الصوت الاعتراضي وصل إلى هذا الثنائي، في ما نسمعه قبل الانتخابات. وهذا يضعه أمام التجربة، حين نجعل من التصويت لمصلحته مسؤولية مضافة، تلقي الحجة، وتحمل على الفعل. الصوت المفيد من أجل الإنماء، ليس الصوت الاعتراضي، بقدر ما هو الصوت المفيد. ووضع الصوت في المكان المفيد يوصل إلى النتائج المفيدة، في التنمية والأمن والإصلاح ومكافحة الفساد.
هذه الخيارات في التصويت التي يمليها العقل تصلح في دوائر عدة، لكنها في أوج صلاحها في دائرة بعلبك ــــ الهرمل، من أجل بناء محافظة جديرة بنا، نحن أهل هذه المنطقة اللبنانية العريقة والجميلة والأصيلة.
* كاتب، ووزير سابق