مع انتهاء المعارك في غالبية مدن وبلدات الغوطة الشرقية لدمشق، وخروج الفصائل المسلحة منها إلى الشمال السوري، تتجه الأنظار إلى ما تبقى من مناطق تسيطر عليها جماعات محسوبة على جهات معارضة، ومن بينها تنظيم «داعش» الإرهابي، جنوب العاصمة دمشق. وفي قلب هذه المناطق، ما يعرف بعاصمة الشتات الفلسطيني، أي مخيم اليرموك. المخيم الذي طالت أزمته وتفرعت، حتى التشظي، كما لاجئوه في مشهد مدجج بالبؤس.

لا ريب في أن قلوب مئات الآلاف من الفلسطينيين معلقة بترقب التطورات في المخيم، يحدوها الأمل بالعودة إليه. وهذا التطلع مرتبط بالمعنى الذي يشكّله المخيم عامة ومخيم اليرموك خاصة في وعي اللاجئ الفلسطيني منذ بداية التغريبة حتى يومنا هذا. فقد قيل الكثير عن الوطن البديل وأهل الخيام و«الفلسطيني المقيم في حقيبة». لكن الفلسطيني تمسّك بهذه الجغرافيا ودافع ويدافع عنها لأنها تمثل ما تبقى من كيانه في الشتات، وتعبر عن حقه في العودة إلى بلده، وهي ورقة إثبات على معاناته... وحقوقه في آن معاً.

اليرموك الشاهد
على مساحة ثمانية كيلومترات عاش عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين منذ خمسينيات القرن الماضي. وأصبح للفلسطيني بيت ومدرسة وعمل وحياة. ودخل أبناء المخيم في نسيج المجتمع السوري الذي بدوره عامله معاملة الأخ واحتضنه في كل مفاصل الحياة حتى ذابت الفروق بينه وبين المواطن السوري في الحقوق والواجبات مع بعض الاستثناءات مثل حق الترشح للانتخابات.
ومع بداية الأزمة التي عصفت بسوريا، انقسم الشارع الفلسطيني في مواقفه منها، كما هو حال السوريين أنفسهم، وحال مجتمعات عربية وغير عربية. ولكن الفلسطينيين المفتقدين إلى مرجعية موحدة، شهدوا انسحاب فصائلهم من المشهد الإنساني والسياسي للمخيم، الذي انتهى محتلاً من قبل جبهة النصرة وتنظيم داعش، حيث يسيطر الأخير على غالبية أحياء المخيم.
عانى أبناء المخيم كثيراً خلال السنوات المنصرمة. تزاحم عليهم التهجير والخوف والجوع والمرض والحصار، وإرهاب من يريدون العودة إلى القرون الوسطى. أضحى كثير من أبناء المخيم في مهاجر بعيدة وربض آخرون على مقربة منه في انتظار العودة إليه. فيما بقيت أعداد قليلة داخله، تقدر بألف وثمانمئة أسرة بحسب تقديرات منظمات إنسانية، وهؤلاء يحتاجون إلى الغذاء والدواء، لكنهم يحتاجون أكثر إلى الأمان الذي لم يكن يوماً اختيارياً بل ضرورة وجودية. وبافتقاد الأمان مع تخلّي القيادات الفلسطينية عن دورها ومسؤولياتها، مات أكثر من 200 من أبناء المخيم بسبب الجوع، وتوقف المستشفيات والمراكز الطبية عن الخدمة، فضلاً عن عمليات النزوح المستمرة إلى البلدات المجاورة، وإلى دول بعيدة وقريبة. وشهدنا على ابتلاع الأزرق لمن رمى بنفسه في المجهول وانتهى بمأساة لا تقل وجعاً وإيلاماً عما كان الحال عليه لدى من تحملوا الكثير كي يبقوا في المخيم.

المخيم المتروك والمخيم المنتظر
تنافست التنظيمات والفصائل الفلسطينية على خذلان فلسطينيي اليرموك الذين استفاقوا ذات صباح على مأساة إنسانية جديدة. التهجير مرة أخرى، الفاقة وتردّي الأوضاع الصحية والمعيشية على امتداد سنوات الخوف. بعضهم يعاني الإذلال في أشكاله البربرية، والأكثرية فقدت الرغبة باستئناف الحياة فاستسلمت للواقع.
تُرك المخيم وحيداً بين أيدي التنظيمات المسلحة، متعددة الأسماء والصفات، والتي تناوبت السيطرة عليه، وتقاسم أنحائه وحاراته. وليصبح وضعه الراهن في صورة التقاسم ذاتها، ما بين تنظيم «داعش» وجبهة النصرة وآخرين أقل دوراً وأثراً بعضهم يتبع «داعش»، وبعضهم الآخر يتبع «النصرة». حيث يحتل «داعش» قرابة 80% من المناطق الداخلية، فيما يسيطر مسلحو «هيئة تحرير الشام» (النصرة) على المنطقة الغربية وبعض الحارات الواقعة شرق المخيم، حيث تتشكل خطوط التماس الفاصلة بين اليرموك وبلدة يلدا. وهنا يتمركز لواء «شام الرسول» وكتائب «أكناف بيت المقدس» من الجماعات المحسوبة على المعارضة المسلحة، على طول خط الاشتباك مع تنظيم «داعش»، بينما تتمركز قوات الجيش السوري وفصائل فلسطينية مؤيدة له، والدفاع الوطني في المداخل الشمالية للمخيم.
تتوارد أخبار ومعطيات عن العزم على إنهاء الوضع القائم، لجهة سيطرة الجماعات المسلحة على مناطق جنوب دمشق، ومنها مخيم اليرموك. وهناك إشارات على التوجه إلى حسم الأمر عسكرياً لإجبار المسلحين على الاستسلام أو المغادرة، على غرار ما شهدته مناطق الغوطة الشرقية لدمشق. مع فارق يتصل بوجود «داعش» داخل المخيم، وفي مناطق مجاورة له، مثل الحجر الأسود وحي القدم، حيث لم يكن أفراد التنظيم في مناطق الغوطة. ومن بين ما يتم التداول فيه أيضاً تحضيرات تقوم بها فصائل وجهات فلسطينية للمشاركة في إنهاء سيطرة المسلحين وتنظيماتهم على المخيم.
ورغم أن الظرف الإنساني، كما الظرف الميداني، قد اختمرا للإصغاء للحلول التي تُقدّم والعمل بالجهود التي تُبذل حالياً لإعادة الاستقرار في منطقة جنوب دمشق، فليس معروفاً بعد إن كان المسلحون سيميلون إلى الاستسلام وترك المخيم، وتجنيب المدنيين المزيد من الخسائر في الأرواح، والحفاظ على ما بقي منه، أم أنهم سيختارون القتال والتمترس داخل اليرموك، ما يعني أن مخاطر جمة ستحدق بمن تبقى داخله من اللاجئين، وكذلك ببنيانه ووجوده.
من المهم هنا أن تبادر القوى والفصائل الفلسطينية إلى مغادرة حالة الاستقالة من دورها تجاه اليرموك وأهله، والتشديد على أن يتلازم الحل العسكري، إن جرى اللجوء إليه، بإجراءات عملية تضمن خروجاً آمناً للمدنيين من مخيم اليرموك، وتكفل أيضاً، وهذا على غاية من الأهمية، عودة أبناء المخيم إليه، بعد انتهاء العمليات العسكرية ودحر الإرهابيين من المخيم. فالمخيم ضرورة والعودة إليه ضمانة لحق أكبر وهو حق العودة إلى فلسطين.
*مدير مؤسسة جفرا للإغاثة والتنمية البشرية