لم يعد لمنظّر العولمة السعيدة والشرعية الدولية ما يقوله أمام احتدام الصراع في فلسطين
شكّل الاجتياح الإسرائيلي للبنان وخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982، الذي اعتبره البعض بداية للعصر الإسرائيلي، اللحظة التأسيسية لخطاب التبشير بالهزيمة. وباسم ضرورة النقد الذاتي بعد «الهزيمة»، قامت مجموعة من المثقفين اليساريين بالارتداد عن مجمل قناعاتها الفكرية والسياسية، وخاصة تلك المتعلقة بالصراع العربي - الصهيوني. رأت هذه المجموعة أن لا خيار للبنان بعد الاجتياح والاحتلال إلا خيار التفاوض مع إسرائيل، وأيدت اتفاق السابع عشر من أيار 1983. بقية القصة نعرفها جيداً كما يعرفها أعضاء المجموعة فرداً فرداً: كذبت التطورات اللاحقة جميع تحليلاتهم وفرضياتهم، وتمكنت المقاومة الوطنية والإسلامية في لبنان من دحر الاحتلال على مراحل ومن دون قيد أو شرط. لم نسمع من أي منهم نقداً ذاتياً بعد ذلك، بل استمروا بالتبشير بالهزيمة وكأن شيئاً لم يكن. والحقيقة أن خطابهم لا يستقيم إلا إذا أقرّ العرب بأنهم هزموا ليس لأسباب تاريخية وموضوعية، مرتبطة بهيمنة الغرب على النظام الدولي السابق وبالعلاقة العضوية بينه وبين إسرائيل، ولكن لأسباب، أو حتى أعطاب، ذاتية وتكوينية لديهم، متصلة ببنيتهم الذهنية والثقافية والأنتروبولوجية وربما حتى الجينية. ومن هنا مثلاً يأتي إصرارهم على المبالغة في معنى هزيمة 1967. فهي بنظرهم، على غرار بعض اليساريين الطفوليين والإسلاميين، هزيمة لمشروع ولفكر ولنظام سقطت سقوطاً مدوياً مع الهزيمة العسكرية. بالطبع، هم يتجاهلون ما حصل بعد ذلك، أي حرب الاستنزاف، ومن ثم حرب أكتوبر المجيدة. الهزيمة بالمعنى الذي يتحدثون عنه، أي السقوط الكامل أمام العدو، كانت ستفضي إلى الاستسلام أمامه. هذا ما حصل مع فرنسا مثلاً خلال الحرب العالمية الثانية عندما هزمت عسكرياً أمام ألمانيا واستسلمت لها وشكّلت حكومة فيشي المتعاونة مع الاحتلال النازي. لكن هذا الأمر لم يحصل مع مصر. رغبتهم الجامحة في إنكار الوقائع أو ليّ عنقها تدفعهم أيضاً إلى رفض اعتبار حرب تموز - آب 2006 نصراً للمقاومة، على الرغم من اعتراف قادة إسرائيليين بذلك، أو للتأكيد أن القصف الإسرائيلي لبعض المواقع الإيرانية في سوريا قد يقود إلى هزيمة 67 إيرانية كما كتب حازم صاغية في «الحياة».
المحطة الثانية التي دفعت هذا التيار إلى الجهر بعدائه لثوابت الأمة، كانت بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، أو عصره الذهبي، التي شهدت حرب تدمير العراق بذريعة تحرير الكويت وتفكّك الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية وانهيارهما وصعود الهيمنة الأميركية الأحادية على العالم وإطلاق مسار تسوية الصراع العربي - الصهيوني. تحوّل منظرو هذا التيار إلى باعة أحلام بكل ما للكلمة من معنى. لا حاجة لتكرار المعزوفة التي سادت لسنوات، وتولى رموز هذا التيار ترجمتها للجمهور العربي، عن النظام الدولي الجديد المستند إلى القانون الدولي وعن التسويات السحرية التي ستؤدي إلى إطلاق ديناميات السوق في منطقتنا المنكوبة فيعمّ الرخاء والازدهار للجميع، إلخ... لقد ذهب هذا العالم إلى غير رجعة، لحسن الحظ، ونحن مقدمون على مواجهات كبرى ستقرر مصائر شعوبنا، ومنها الشعب الفلسطيني. ولم يعد كلينتون ولا أوباما في البيت الأبيض، بل دونالد ترامب، ولا رابين أو بيريز في رئاسة وزراء الكيان الصهيوني، بل نتنياهو المحاط بليبرمان وبينيت. يصعب بيع الأحلام في سياق كهذا حتى بالنسبة إلى أيتام النظام الدولي الليبرالي. ليس لهم سوى الانزواء والحزن.