إن الخوض في الخطة الأمنية التي تشهدها منطقة البقاع، والتي أعلن عنها وانطلقت منذ مدة، ومن ضمنها الحملة التي يخوضها الجيش الوطني اللبناني في مواجهة البؤر والعناصر والمجموعات المخلّة بالأمن والخارجة على القانون والمرتكبة، يقودنا في البداية إلى مراجعة التاريخ الحديث والمعاصر لهذه المنطقة في إطار التاريخ السياسي والإجتماعي للبلد برمته. وذلك بقصد التأكيد على الحقيقة الثابتة والمرة من أن منطقة بعلبك الهرمل كانت على الدوام ترزح تحت نير الظلم الذي أدركته، وعانت منه، طوال السنوات الماضية، بل العقود المنصرمة، وتعيش حالة خاصة غير معقولة وغير مقبولة، من المعاناة الطويلة والمضنية، في علاقتها مع الدولة المركزية، منذ الاستقلال وحتى تاريخه، بفعل غياب السلطة أو الحكومة عنها وانعدام الرؤية الوطنية للتنمية أو الإنماء والسياسة العامة الفاعلة والمسؤولة في هذا المجال، وهي إشكالية متفاقمة في غاية الأهمية والخطورة، تعكس حالة مركبة ومعقدة للغاية، من البؤس والأسى والشعور بالغبن والحسرة والمرارة، وربما أكثر من ذلك!مما لا شك فيه أننا نشهد، في هذا الوقت بالذات، موقفاً دقيقاً ولحظة حرجة ومحطة حاسمة في منطقة البقاع، ولا سيما في البقاع الشمالي، وهو الأمر الذي يدفعنا، عند هذا المقام، إلى استحضار بعض المواقف الوطنية والتاريخية لبعض القيادات التاريخية والشخصيات السياسية والتذكير بها والوقوف عندها بقصد التفكر والتمعن والتبصر فيها، في محاولة لا بد منها لقول الحقيقة أو التمسك بها، الحقيقة السياسية، ولتحمل المسؤولية، بل المسؤوليات، على كل الأصعدة الوطنية والسياسية والتاريخية والإنسانية والدينية أيضاً. فقد قالها دولة الرئيس نبيه بري إن الجيش، أو بالأحرى «جيشك»، هو دائماً على حق، حتى لو ظلمك، لا سمح الله. وكذلك سماحة السيد حسن نصر الله، هو يلاقيه في ذلك، ويتفق معه تماماً، حين يقول إن اليد التي ستمتد إلى الجيش سنقطعها، أو إنها ستقطع، أو يجب أن تقطع. وقد كان النائب اللواء جميل السيد محقّاً ومصيباً في ما يرمي أو رمى إليه، حين رفع الصوت عالياً، مناشداً ومطالباً الدولة اللبنانية، وعلى رأسها الحكومة والسلطة السياسية، وكل أجهزتها ومؤسساتها وقواها العسكرية والأمنية، بالتحرك السريع والعاجل، وخاصة في منطقة بعلبك الهرمل، لمواجهة الحالات الشاذة والفلتان والفوضى وانعدام الأمن والاستقرار. إن التذكير بمثل هذه التصريحات أو المواقف السياسية والوطنية هو من الأهمية بمكان في هذه اللحظة السياسية، بالغة الدقة والحساسية، ذلك أنها تعيد التأكيد على ضرورة تحديد وجهة البوصلة وترتيب الأولويات، بما يضمن بلوغ الأهداف والمقاصد، ويدرأ الفتنة ويمنع الإصطياد في الماء العكر، بالنظر إلى محاولات البعض النيل من صورة الجيش اللبناني وهيبته، ومن خلفه قرار الحكومة أو السلطة السياسية، ولا سيما القوى السياسية المعنية والفاعلة والحاضرة على أرض الواقع، وبالتالي الغمز من قناة حزب الله وحركة أمل بالتحديد، ومعهما كل الشرفاء والمحرومين والصابرين والصامدين من أبناء المنطقة والوطن.
الجيش هو رمز وحدة الدولة والهيبة التي يجب أن تبقى متمتعة بها، إذ إنه يمتاز، وحده دون سواه، باحتكار القوة الشرعية والقدرة على ممارسة الإكراه الشرعي بلغة العلوم الوضعية، في القانون الدستوري، كما في الاجتماع السياسي، والمقصود، بطبيعة الحال، إلى جانب الجيش، كل القوات المسلحة الشرعية، أو لنقل الرسمية أو الحكومية، بما في ذلك الأجهزة أو المؤسسات الأمنية والعسكرية الخاضعة لقرار الحكومة أو السلطة السياسية. وهو، أي الجيش، ومعه القوات المسلحة، يبقى الضمانة الأولى والأساسية للسلم الأهلي والأمن والاستقرار، كما للوحدة الوطنية، والمقصود بالتحديد وحدة المجتمع السياسي، بكل مكوناته واتجاهاته وتياراته، وكذلك المجتمع المدني، بكل شرائحه وهيئاته ومؤسساته ومندرجاته. فنحن نعيش في بلد متعدد ومتنوع، بل مركب ومعقد، ثقافيّاً ودينيّاً وطائفيّاً ومذهبيّاً؛ وهو، بدوره، يعيش حالة مركبة ومزمنة من الأزمات المتداخلة والمستفحلة والصراعات الداخلية والنزاعات البينية، وذلك على خلفية تسعير وتصاعد الكثير من الحساسيات والعصبيات والتموضعات والاصطفافات الفئوية، وهو الأمر الذي يجعلنا ندرك، من دون أدنى شك، أهمية وجود الجيش اللبناني وجدواه، ومعه القوى أو المؤسسات الأمنية، لا في منطقة بعلبك أو البقاع فحسب، بل على جميع الأراضي اللبنانية؛ ذلك أنه يستطيع وحده ضبط إيقاع الحياة الوطنية العامة وعجلتها، وطمأنة الجميع، جميع اللبنانيين، على اختلاف انتماءاتهم الطائفية والمذهبية والدينية واتجاهاتهم السياسية والفكرية والأيديولوجية، وترسيخ دعائم وركائز الأمن والاستقرار وإشاعة الأجواء العامة من الشعور بالأمان والطمأنينة ومنع الفتن وإثارة القلاقل والنعرات، وضرب كل محاولات العبث بالأمن السياسي والاجتماعي أو استخدام القوة المفرطة أو غير المشروعة وغير المبررة وممارسة العنف أو الإرهاب وغير ذلك من الممارسات والمخالفات والارتكابات...
نحن جميعاً معنيون، في هذه اللحظة السياسية والتاريخية من حياة البلد والمنطقة، في إشارة إلى منطقة بعلبك، أو البقاع الشمالي، بل كل البقاع، ومن خلفه كل لبنان، من الشمال إلى الجنوب، مروراً بالجبل، وانتهاءً أو حتى ابتداءً ببيروت، العاصمة والمركز والقلب النابض، بالوقوف صفّاً واحداً خلف الجيش اللبناني ودعمه بكل ما لدينا من قوة وقدرة وطاقة، لكونه أولًا يمثل الشرعية اللبنانية التي افتقدها طويلاً وكثيراً البقاعيون عامة والبعلبكيون خاصة، ولأنه يحمل معه ثانياً مؤشرات وبوادر وإرهاصات العودة المفترضة والمنتظرة والمرجوة والمحمودة للدولة ومختلف مؤسساتها إلى هذه المنطقة المهمشة. لم يعد كافياً البتة مجرد الانتظار، أو ربما الوقوف على الأطلال، أو التنظير التجريدي والتسويقي والإعلاني، كما لم يعد مقبولاً التزام الصمت أو الحياد أو عدم الاكتراث. لا بد لنا جميعاً، من مختلف مواقعنا، وعلى اختلاف توجهاتنا واتجاهاتنا وتحركاتنا، من المشاركة والمساهمة والانخراط في هذه المعركة ضد الحرمان والتقصير واللامبالاة والجهل والجريمة، وما إلى ذلك. لا بد من المشاركة بكل ما لدينا تجاه هذه المنطقة والجيش، وحث الحكومة، أو لنقل السلطة أو الطبقة السياسية، على المضي قدماً في هذه الحملة أو المعركة المتعددة الأبعاد والمضامين. فطريقنا طويلة، وليست سهلة، والمهمة كبيرة، بل عظيمة، وقد بدأها الجيش الوطني اللبناني، وفي ذلك إشارة إلى أن القرار السياسي قد اتخذ، ولا رجوع عنه، على أن يلي ذلك المزيد والكثير من الخطوات المكملة والإجراءات التنفيذية في مختلف الميادين والمجالات لاجتثاث كل أشكال الجريمة وأنواعها، والمخالفات والارتكابات والشروع في ورشة إعادة الحياة إلى هذه المنطقة في إطار الوطن وفي أحضانه الدافئة والمطمئنة والمبشرة باقتراب لحظة الحقيقة، ولا شيء سواها!
الخطة الأمنية في منطقة البقاع بدأت، ولا رجوع إلى الوراء؛ فأبناء بعلبك الهرمل كانوا ينتظرونها منذ مدة، بل منذ زمن طويل؛ وهي يجب أن تستكمل دون هوادة، ومن دون تردد أو مواربة أو مسايرة، وأن تستتبع بالخطة الإنمائية التي تحاكي هموم الناس واحتياجات المنطقة في مواجهة المشاكل المستفحلة والمتراكمة.
وليكن شعارنا ولسان حالنا جميعاً في المرحلة المقبلة المطالبة الحثيثة والملحّة للدولة والحكومة والهيئات الرسمية باحتضان هذه المنطقة، بكل أبنائها وبلداتها وقراها، والنهوض بها وتحمل المسؤولية تجاهها، ودعم الجيش في حملته وفي معركته مع الخارجين على القانون والمجرمين والمرتكبين، كي يضرب بيد من حديد.
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية