مثّلَ اعتراف إيمانويل ماكرون بمسؤولية فرنسا السياسية عن اغتيال المناضل الشيوعي المعادي لاستعمار الجزائر، موريس أودان، في عام 1957، نهايةً لكذبة دولة أطالت غفوة الضمير التاريخي. لكن رغم ذلك، لا يحمل الاعتراف إدانة للممارسة الاستعمارية، إذ لا تزال صورة الجمهورية، باعتبارها المنبت الرئيسي للاستعمار، محل تجاهل، ولا تزال قضية ضحايا النظام العنصري والاستبدادي محجوبة. استغرق الأمر ما لا يقل عن 61 عاماً من النضال بحثاً عن الحقيقة، للاعتراف بأن موريس أودان قُتل على يد الجيش الاستعماري الذي عمل بـ«صلاحيات خاصة»، كجهاز قمعي شرّعته السلطات السياسية آنذاك، لسنوات. الرواية الرسمية تشبثت بأن أستاذ الرياضيات في جامعة الجزائر، هرّب بعد إيقافه في الـ 11 من حزيران/ يونيو عام 1957، إثر الاشتباه بـ«إيوائه أعضاء فاعلين في الحزب الشيوعي الجزائري»، في سياق تكثيف الإرهاب العسكري الفرنسي.في مذكراته المنشورة في عام 2001، اعترف الجنرال ــــ الجلاد، بول أوسارس، للمرة الأولى بإعطاء الأمر بإعدام أودان، قبل أن يقدّم شهادة أكثر دقة للصحافي جان شارل دونيو، نُشرت بعد 13 عاماً من الاعتراف الأول، في كتاب «حقيقة موت موريس أودان» (إكوادور، 2014)، أعلن فيها أن القرار حظي بـ«تغطية كاملة وتامة من السلطة السياسية».
هل مات أودان تحت التعذيب، أم أنه تعرّض للتعذيب قبل إعدامه؟ لا يزال الشك يحيط بالظروف الدقيقة لملابسات الاغتيال، لكن اعتراف ماكرون المتأخر، بعد أعوام من الكذب والتسويف، تماماً مثل بيان المراوغة لفرنسوا هولاند في حزيران/ يونيو عام 2014، الذي قال فيه إنه «توفي أثناء احتجازه»، يُفترض أن يُصالح فرنسا الرسمية مع الحقيقة التاريخية، التي كشفتها أعمال جدية لكثير من المؤرخين، من بينهم المأسوف عليه بيار فيدال ناكيه.
على الرغم من ذلك، تلقى الرئيس الفرنسي انتقادات حادة من بعض المسؤولين المنتخبين، مثل وزير الداخلية السابق، بريس أوغتوفو، الذي نادى بوضع حد لـ«التوبة عن الأعمال التي ارتكبتها الأجيال السابقة». ولم تكن استعارة كلمة «توبة» من المعجم الديني من قبيل الصدفة، بل استخدمت لشحنتها السلبية، التي تحيل إلى جلد الذات، كسلوك يهدف الى الحط من «الاعتراف» الذي يتضمن المسؤولية التاريخية، في حين أن الماضي «أكثر تعقيداً» مما يُتَصوّر.
ردود الفعل الجبانة على تصريح ماكرون، الذي لا يدين الاستعمار، تقف شاهدة بشكل كئيب على إنكار ذاكرة ضحايا النظام الاستعماري، في حين صار الاعتراف التذكاري، ورفض النسيان، ضرورات سياسية منذ 30 عاماً. في كتاب نُشر في عام 2016، بعنوان «في مواجهة الماضي: دراسات في الذاكرة المعاصرة»، يحلل المؤرخ الفرنسي ومدير البحوث في «المركز الوطني للبحث العلمي»، هنري روسو، هذا التطور العام في تصور التاريخ، إذ لا يقف عند إعادة تأهيل الذاكرة باعتبارها مصدراً للمعرفة التاريخية (من منظور ريكوري ــــ نسبة إلى بول ريكور)، بل باعتبارها «قيمة أساسية للخروج من الأزمة»، كأن يصبح رفض النسيان طقساً يفرضه واجب الذاكرة.
وفي فصلٍ خصصه لصراعات الذاكرة، يظهر روسو حدود نشاط الذاكرة بقدر ما يمكّنه من التمييز: من ناحية، البحث عن فعالية أكبر في ما يتعلق بالتعبئة حول المحرقة، وإنكار الآخر والنسيان في حالة الحرب في الجزائر، حيث تنتهي قصة الأحداث، على أن تكون قيمة مشتركة في الوعي الجماعي الفرنسي. لكن المؤرخ أوليفييه لوكور غرانميزون، أشار إلى استحالة مساواة الأنشطة التذكارية عند دراسته خصوصية كل منها، وخلص في النهاية إلى أن «التعاملات التذكارية متعارضة». وبعد تذكيره في عمله حول «الماضي الاستعماري، التاريخ وحرب الذاكرات»، يشير إلى أن الذاكرة السلبية، أي تلك التي تعترف بمسؤولية تاريخية، وتحفظ ذكرى جرائم الدولة، تعمل على نحو «جزئي ومنحاز»، من خلال حجب أحداث تاريخية صادمة، وإبقائها سجينة «اعتبارات سياسية». يخلص غرانميزون إلى القول: «وإن كان الانتباه الذي وفّرته السلطات الرسمية تجاه تدمير يهود أوروبا أمراً يبعث على الارتياح... يبقى من الضروري الإشارة إلى أن تلك التطورات الإيجابية، التي يجب اعتبارها مكتسبات أساسية للأعوام الأخيرة، كان لها تأثير سلبي، من خلال إنشاء نظام تذكاري جديد، يُدافع عنه في أحيان كثيرة على نحو حصري ومتعصب، من قبل أولئك الذي يقلّلون، لأسباب مختلفة، من حجم الجرائم الاستعمارية، أو يخشون من أن يصبّ اعترافهم بها في مصلحة ابتذال المجزرة. من هنا، يأتي رفض تلبية مطالب النساء والرجال الذي يناضلون من أجل تاريخهم، باعتبارهم مُستعمَرين سابقين».