لم ينفع بعض التضخيم الإعلامي في إكساب افتتاح جلسات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وهجاً استثنائياً، أو حتى وهجاً بسيطاً! طالت عملية بدء الجلسات حتى احتاجت إلى تسع سنوات كاملة. خلال ذلك، جرى تسريب ما توفّر لدى المحكمة من معطيات واتهامات عبر أكثر من وسيلة إعلامية، بل إنّه لم يبقَ شيء إلا جرى تسريبه مراراً، حتى بدا أنّ القرار الظني لا يقول شيئاً جديداً، لولا بعض التفاصيل التي تدخل في السياق المعلن والمعروف سابقاً.
أكثر من ذلك، فقد تبيّن حتى الآن، وسريعاً، أنّ بعض «الأرقام» والتفاصيل قد تكون غير صحيحة من الأصل. لا ننسى أيضاً واقعة أنّ الاتهام السياسي كان قد استبق كل تحقيق وكل نتائج. وهذا الاتهام كان ذا مفعول انعطافي، بل وانقلابي، في تحديد مجريات الأحداث. نعني بذلك اقتران ذلك الاتهام بتحرك سياسي خارجي غير مسبوق وبتحرك شعبي داخلي مماثل، أدّيا معاً، الى دفع القوات السورية الى مغادرة لبنان في السادس والعشرين من شهر نيسان لعام 2005. كذلك فقد انهارت سريعاً السلطة التي كانت أقامتها ورعتها واستخدمتها الإدارة السورية، وحلّ مكانها خصومها ممن انتقلوا سريعاً إلى حضن جديد ووصاية جديدة هي الوصاية الأميركية الفرنسية السعودية وقتذاك. صحيح أنّ آليات النظام الطوائفي ظلت حاضرة ومصانة من الجميع (تشكّلُ حلف رباعي ضمّ أبرز المتنافسين)، لكن التغيير الذي طرأ على المشهد اللبناني، كان مفاجئاً، وحتى سوريالياً، إلى حدّ مدهش!
بكلام أكثر مباشرة: لقد جرى اتهام النظام السوري وحلفائه في لبنان بالمسؤولية عن عملية اغتيال الرئيس السابق رفيق الحريري ومن كان معه في موكبه. ولقد جرى، سريعاً، تنفيذ حكم بالمتهمين خلال أسابيع قليلة، ما جعل المشهد اللبناني ينقلب على نفسه بشكل كامل: جريمة، فاتهام، فعقاب. هذا ما حصل خلال الشهرين اللذين أعقبا اغتيال رفيق الحريري في تفجير إرهابي غير مسبوق. وهو حصل قبل أن تنشأ المحكمة وقبل أن يجري أيّ تحقيق موضوعي ومهني ونزيه في المجريات والدوافع والمسؤوليات.
لن ندخل هنا في ما طرأ من بعض أحداث أملتها مناورات أو تكتيكات، وخصوصاً، مثلاً، ما بين قيادتي المملكة العربية السعودية والجمهورية العربية السورية. يومها برز بشكل نافر الطابع الاستخدامي للمحكمة: حضوراً أو تغيّباً، تسريعاً أو تبطيئاً ... لقد بلغ الأمر أن تم إعلان تبرئة القيادة السورية وتحويل الأنظار والمسؤولية نحو «حزب الله». لكن ذلك لم يدم طويلاً، لتعود الاتهامات إلى مجراها القديم: اتهام سوريا وحلفائها بالجريمة وبكل الجرائم اللاحقة التي طاولت عدداً من السياسيين والإعلاميين ... وصولاً إلى عملية اغتيال الوزير السابق الدكتور محمد شطح قبل أسابيع. ولقد كرر هذا الاتهام، بشكل قاطع، الرئيس سعد الحريري في مقابلته التلفزيونية يوم الاثنين الفائت: «المسؤول بشار وحلفاؤه».
إلى ذلك، أي إلى عدم استخلاص أي دروس مفيدة من أخطائنا المكرسة في نظامنا السياسي وفي نمط العلاقات الذي نقيمه مع الخارج، فقد سارت الأمور، على الصعيدين الداخلي والإقليمي، بعكس ما يتطلبه إجراء تحقيق ومحاكمة على شيء من المهنية والصدقية. بل إنّ الأحداث التي تلاحقت والصراعات التي تراكمت، وخصوصاً بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز عام 2006، وبعد تعمّق الانقسامات بين تكتّلي 8 و14 آذار، قد دفعت مسألة الاهتمام بالتحقيق والمحاكمة إلى درجة ثانية، مشفوعة بتباين ضخم حول دورها ووظيفتها وكلفتها وصدقيتها ... وفي امتداد ذلك، شهدت الاستحقاقات اللبنانية استعصاءات خطيرة استدعت تدخلات كثر فيها الأوصياء، كما كثرت السلبيات وتعمقت الانقسامات. ومنذ اندلاع الأزمة السورية في مطلع ربيع عام 2011، يعيش لبنان أزمة سياسية وأمنية متصاعدة ومرشحة لأسوأ الاحتمالات، وخصوصاً مع الانخراط اللبناني المتزايد في تلك الأزمة، ومع انتقال جزء من تلك الحرب الى لبنان في صيغ متنوعة: حرب أهلية جزئية. استقطاب مذهبي غير مسبوق. تفجيرات. تعاظم الدور الخارجي في استتباع طرفي الصراع الأساسيين. انتحاريون. تطرف تكفيري إرهابي متصاعد. شلل وانقسام المؤسسات. أزمة المهجرين والأزمة الاقتصادية عموماً ...
وتشاء الصدف، التي لا مفاجأة فيها على الإطلاق، أنّ يتزامن افتتاح أعمال المحكمة مع التفجير الإرهابي في مدينة الهرمل. كل ذلك دفع بدور هذه المحكمة الى الهامش تقريباً (أخبار المحكمة غابت، تباعاً وسريعاً عن مقدمات نشرات الأخبار وعن الصفحات الأولى). كما لا يجب أن ننسى أنّ ما طرأ من تغيير على مواقف الرئيس سعد الحريري (والسعودية أساساً) بشأن تشكيل حكومة جديدة في لبنان، قد سدّد، أيضاً، طعنة جديدة لدور هذه المحكمة ولأهميتها ولنتائجها المعلنة منذ ما قبل تأسيسها، أي منذ لحظة استشهاد الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في 14 شباط عام 2005!
لقد قيل الكثير في امتداح موقف الرئيس سعد الحريري وفي إعلانه الاستعداد للمشاركة في حكومة واحدة مع ممثلين عن حزب الله. ليت الأمر كان قراراً ذاتياً! ليتها كانت صحوة نحو إعادة بناء علاقات جديدة بين اللبنانيين، علاقات متحررة من التبعية والارتهان. ليت ذلك كان خطوة لمعالجة الخلل القاتل القائم في صلب النظام السياسي اللبناني. ليت قرار سعد الحريري كان أيضاً ثمرة نقاش ومخاض في تياره وفريقه أو أكثرية فريقه.
للأسف، ليس الأمر على هذا النحو، رغم أن القرار صائب بالتأكيد، وخصوصاً لجهة ما يمكن أن يمارسه من دور في وقف التدهور المروع الذي تنزلق إليه البلاد. لبنان ليس أولاً! وليست كذلك سيادته ووحدته الوطنية ودوره الوطني والقومي المنشود! الشعارات ليست، غالباً، سوى بروباغندا ممجوجة ومكشوفة لم تعد تنطلي على أكثرية اللبنانيين.
الخشية، من المحكمة، كانت وتبقى، في استخدامها أداة فتنة، وليس أداة للوصول إلى الحقيقة. لكن للفتنة أدوات أخرى. تلك الأدوات قائمة على ضفتي الصراع. ليس بالضرورة أن نمضي إلى الخطأ عن سابق تصور وتصميم. لكن القول المأثور ينبّه من أن الطريق إلى جهنم، أي إلى خراب بلادنا، مفروش بالنيات الطيّبة ... إن وجدت!
* كاتب وسياسي لبناني