هل قُضيَ الأمر؟ هل تمّ ترتيب الصفقة وباتَ إعلانُها مسألة أيّام معدودة؟ الثلاثي الأميركي - التركي - السعودي أرادَ لفلفة القضيّة بسرعة على ما يبدو. الحكومة التركيّة استمتعت بموقفها القوي في فضح منافسِها على زعامة العالم الإسلامي وخصمها في الصراعات الإقليميّة. لكن قد لا نعلم حقيقة أسباب التسريبات التركيّة التي توقّفت بمجرّد وصول الوفد السعودي برئاسة خالد الفيصل (الذي رعى جمال خاشقجي، مِن جملة الأمراء الذين حظي خاشقجي برعايتهم خلال ممارسته لمهنة الصحافة في المملكة — هذا إذا قبلنا بمبدأ وجود مهنة صحافة في السعوديّة). ولا نعلم لماذا قبل يوميْن فقط استأنفت الحكومة التركيّة ضخّ التسريبات ربّما لأن المفاوضات مع الجانب السعودي تعثّرت مرّة أخرى. هل أن أردوغان قصد من التسريبات إيصال رسالة إلى النظام السعودي كي يدلّ على موقعه التفاوضي القوي، أم أن أجنحة في أجهزة المخابرات التركيّة خشيت من لفلفة القضيّة وأرادت تصفية حساب عسير مع النظام السعودي؟ الاحتمال الأخير غير مرجّح لأن السلطان أردوغان بات ممسكاً بكلّ مقدّرات الحكم منذ محاولة الانقلاب الأخيرة. هو فرضَ مجيء وفد سعودي رفيع كي يُملي عليه مطالبه، وهو على الأرجح يأمرُ متى يشاء بالتسريب ويأمر بوقفها إذا كان ذلك مؤاتياً، بناءً على مسار المفاوضات وعروض الأسعار من الجانب السعودي. كما أن تعظيم الخلاف مع المملكة ليس في مصلحة تركيا الاقتصادية خصوصاً أن عدد السياح السعوديّين في تركيا في ازدياد مطّرد في العقد الماضي (في عام ٢٠٠٨ لم يتجاوز عدد السيّاح السعوديّين ٥٥,٦٣٦، فيما ارتفع العدد بحلول عام ٢٠١٧ إلى ٧٦٦, ٧٧٣. والإنفاق السياحي السعودي أعلى من الإنفاق السياحي من قبل سيّاح من دول أخرى). وليست هذه القضيّة هي العامل الوحيد في تقرير قبول أردوغان بلفلفة القضيّة. إن الثمن الذي سيقبضه الرئيس التركي (ماليّاً ومعنويّاً وسياسيّاً) مقابل الصفقة لا يزيد عن ثمن تفجيره للقضيّة —لو أراد - بوجه النظام السعودي ونشر كل ما بحوزة الأجهزة الاستخباريّة التركيّة عن عمليّة الاغتيال بتفاصيلها. محمد بن سلمان يحتاج إلى إرضاء أردوغان، كما يحتاج إلى إرضاء ترامب (ربّما يحتاج إلى إرضاء أردوغان أكثر لأن الأخير يستطيع أن يُجهض اتفاق لفلفة بين الجانبيْن السعودي والأميركي إذا لم يشمل مراضاة الجانب التركي).

إن الورقة الأكبر في يد أردوغان هي في تسريب تسجيل اللحظات الأخيرة من حياة خاشقجي، وبات مقطع من التسجيل في حوزة صحيفة تركيّة. إن نشرَها على الملأ يقطع الطريق على أي لفلفة ويصم النظام السعودي بجريمة شنيعة (مع تفاصيل أهوالها) على ضمائر العالم أجمع. إن تسريب التسجيل يقطع الطريق على اللفلفة التي يعمل على سكّتها النظام السعودي مع الجانب الأميركي. قد يحتاج الجانب السعودي إلى ضغط (وترغيب) من الجانب الأميركي لإقناع الجانب التركي بلفلفة القضيّة، والثمن التركي الذي سيحصل عليه أردوغان من الإدارة الأميركيّة ارتفع بعد الإفراج عن القسّ الأميركي. والإدارة الأميركيّة تمسك بخيوط كثيرة في الإخراج الأخير والنهائي للقضيّة، ليس فقط بسبب نفوذها مع الحليفيْن التركي والسعودي، بل هي أيضاً ذات حظوة كبيرة مع النظام القطري الذي بات (بعد أزمته في الحصار السعودي - الإماراتي) أكثر تصميماً على إسعاد أميركا واللوبي الإسرائيلي فيها. بكلام آخر، تستطيع الإدارة أن تؤثّر على تغطية إعلام «الجزيرة» (وغيرها من أجهزة إعلام النظام) كما أثّرت إدارات أميركيّة في السابق على تغطية «الجزيرة» في مفاوضات مباشرة مع الحاكم القطري خصوصاً في ما يتعلّق بتغطية الاحتلال الأميركي للعراق. موجز الكلام أن مصير محمد بن سلمان لم يعد في يده، بل في أيدي حلفائه وخصومه على حدّ سواء. الرجل الذي انتشى بغرور العرش قبل أن يصل إليه، وإن فعل فسيكون مُثخن الجراح.
يُبالغ مَن يثق بقدرة أي من أطراف الصراع الحالي على المضي في التصعيد إلى نهاياته المنطقيّة. للإدارة الأميركيّة وحدها القدرة على التصعيد (بالإضافة إلى الجانب التركي)، وهي الطرف الثاني (بعد الطرف السعودي) الذي يريد إنهاء القضيّة وبسرعة كبيرة. في التغطية المستمرّة لاختفاء خاشقجي تذكير بالجوانب المُظلمة للسياسة الخارجيّة الأميركيّة (والتي يجهلها معظم الشعب الأميركي). وترامب بالذات لا يريد أن تسوء سمعة نظام تدخّل هو شخصيّاً لرفع شأنه في التحالف الأميركي. وتذكير بالحلف الأميركي مع النظام السعودي (بعد عقود من سخريته الشخصيّة من هذا الحلف) هو دليل على عمق أزمة النظام السعودي الذي باتت حقيقة وحشيّته ماثلة للعيان العالمي. لكن هناك مبالغات ومغالطات في تحليل واقع الأزمة الحاليّة.
ما هو حجم الأزمة الحالي، بالنسبة إلى النظام السعودي وبالنسبة إلى التحالف الأميركي - السعودي؟ لا يجب التقليل من أهميّة الأزمة التي باتت بادية على محيّا محمد بن سلمان حتى وهو يتصنّع الابتسام في لقائه مع وزير الخارجيّة الأميركي قبل أيّام. إن عودة السفير السعودي إلى الرياض (وهو الشقيق الأصغر لوليّ العهد) وتصاعد الهجوم في الكونغرس والإعلام ضد النظام يشكّل أزمة حقيقيّة. هذه أزمة علاقات عامّة لم يعانِ منها النظام السعودي من قبل. لم يبالغ عضو في الكونغرس عندما قال إن الغضب ضد النظام السعودي في أروقة الكونغرس يفوق اليوم مستوى الغضب بعد ١١ أيلول. لقد حدثت أزمات في العلاقة من قبل لكن هذه قد تكون من أكبرِها على الإطلاق. الأزمة الأكبر في العلاقة كانت في عام ١٩٧٣ عندما قطعت السعوديّة الإمداد النفطي عن أميركا. والقطع كان في حينه مؤثّراً لأن أميركا كانت تستورد نحو ١٥% من نفطها من الشرق الأوسط (النسبة باتت اليوم أقلّ، ونسبة الاستيراد من السعوديّة أقلّ من ٥٪). والتزمت السعوديّة بالحظر النفطي لكن الشاه (الذي كان يمدّ العدوّ الإسرائيلي بالنفط) زادَ من الإنتاج النفطي كما أن النظاميْن «الثوريّيْن» (المزيّفيْن)، العراقي والليبي، عوّضا عن النقص في الإمداد السعودي وأمدّا أميركا والغرب بالنفط (استعملا ذرائع مختلفة منها أن الحظر لم يكن صارماً بما فيه الكفاية). لكن الحظر النفطي أثّر على الوضع الاقتصادي العالمي، وأدّى (بسبب جملة من العوامل) إلى أزمة طاقة قاسية في أميركا، أدت إلى تزاحم المستهلكين أمام وحول محطات الوقود. (وتعاملت أميركا مع الأزمة عبر وضع خطط تدخّل عسكريّة للاستيلاء بالقوّة على مصادر النفط السعودي في حال تكرّر الحظر مرّة أخرى).

استمتعت الحكومة التركيّة بموقفها القوي في فضح منافسِها على زعامة العالم الإسلامي


وطار كيسنجر إلى لقاء مع الملك فيصل لحلّ الأزمة. طبعاً، طرحَ فيصل أمامه أطروحته المعروفة عن مخاطر الشيوعيّة والصهيونيّة (وارتباطهما المزعوم)، لكنه أصرّ على انسحاب إسرائيلي من أراضي ١٩٦٧ (كان فيصل خلافاً للكلام الرسمي العام يقبل بأمن الكيان الصهيوني —في حدود تفوق حجم الكيان في قرار التقسيم، في مباحثاته مع الحكومة الأميركيّة)، كما أنه كان متمسّكاً بالقدس الشرقيّة. رفض فيصل الاعتراف بأي حق يهودي في القدس. وعندما ذكّره كيسنجر بحائط المبكى/ البراق اقترح فيصل بناء جدار جديد لليهود «كي ينوحوا عليه». لكن الإدارة لم تحقّق أياً من مطالب فيصل حول فلسطين ورفع فيصل الحظر مقابل أسلحة أميركيّة ونتاجات تكنولوجيّة كانت ممنوعة من قبل عن المملكة. وغابت فلسطين عن الأجندة بسرعة. أدركت الحكومة الأميركيّة أن التمسّك السعودي بقضيّة فلسطين يرتخي أمام عروض صفقات سلاح عملاقة.
الأزمة الثانية كانت في ١٩٨٠ عندما بثّت محطة بريطانيّة فيلم «موت أميرة» (عن قطع رأس الأميرة مشاعل بنت فهد بن محمد في عام ١٩٧٧ لأنها أحبّت رجلاً من العامّة). نشبت أزمة في علاقة الحكم السعودي مع بريطانيا وضغطت الرياض على الحكومة الأميركيّة كي تمنع بثّ الفيلم. تنطّح اللوبي السعودي، خصوصاً شركات النفط العملاقة، للضغط على محطات التلفزيون لمنع بثّ الفيلم، وبالفعل، لم تبثّه إلّا محطات قليلة ومرّت الأزمة من دون مضاعفات. نجح اللوبي السعودي النافذ في منع الشعب الأميركي من مشاهدة الفيلم على نطاق واسع. وتلاقت مصلحة الإدارة مع مصلحة شركات النفط والسلاح التي تشكّل عماد اللوبي السعودي هنا.
الأزمة الثالثة كانت في صفقة «الأواكس» في عام ١٩٨١، والتي دفعت بها إدارة ريغان وعارضها اللوبي الإسرائيلي. وكانت تلك المعركة بين الكونغرس وبين الإدارة من المرّات القليلة التي هُزم فيها اللوبي الإسرائيلي، لكن الهزيمة كانت نسبيّة لأن الإدارة أكّدت أن الصفقة تخدم أغراض أمن إسرائيل، وكان اللوبي آنذاك يعارض تلقائيّاً صفقات السلاح للأنظمة العربيّة، حتى لو كان السلاح الأميركي يخضع (أمس واليوم) لجملة من الضوابط والشروط الصارمة التي تمنع استخدامه في أغراض تعارض المشيئة الأميركيّة، تماماً كما أن السلاح الأميركي للجيش اللبناني ممنوع استعماله ضد الاحتلال الإسرائيلي. والصفقة في عام ١٩٨١ كانت أكبر صفقة سلاح حتى ذلك الزمن، لكن اللوبي الإسرائيلي بات اليوم مدافعاً عن حق أنظمة الخليج في التسلّح لعلمه أن رصاصة منها لن تُستعمل ضد كيان الاحتلال، ولأن المُراد منها دعم الاقتصاد الأميركي وحماية الأنظمة ضدّ بعضها البعض، وللاستعداد لمعركة مع إيران قد تفرضها أميركا أو حليفتها الإسرائيليّة عليها.
المُلفت في الأزمة الحاليّة أن سيناريو قتل خاشقجي (حسب التسريبات التركيّة التي لم تدحضها الحكومة السعوديّة) كان فظيعاً في عام ٢٠١٨ حيث تُعتبر هذه الحوادث من النوادر (في العلن). واستعمال منشار العظم ذكّر الشعب الأميركي (المهووس بأفلام الرعب) بمشاهد مروّعة من الأفلام الأميركيّة. ولأن القضيّة تناولت صحافيّاً مقرّباً من الإعلام الأميركي شبه الرسمي (أي «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز»)، ولأن الضحيّة كان ودوداً جدّاً مع الصحافة الأميركيّة ومع الإدارات المتعاقبة التي عرفته عن كثب (كعضو شبه رسمي في الوفود السعوديّة الزائرة وفي السفارة السعوديّة في واشنطن بعد ١١ أيلول)، فإن الضجّة حولها لم تكن اعتياديّة. عادة لا تركّز وسائل الإعلام على جرائم وخروق حقوق إنسان إلا لأعداء وخصوم أميركا. ليس عاديّاً أن تركّز الصحافة الغربيّة بصورة يوميّة (في الإعلام المرئي والمطبوع) على فضيحة قتل لنظام يُعتبر من أقرب حلفاء أميركا، ومن حلفاء إسرائيل الجدد في المنطقة العربيّة.
والحملة ضد النظام والضغط عليه كي يعترف بجريمته يأتي ليس فقط من الإعلام (الذي يؤثّر كثيراً على الرأي العام في أمور السياسة الخارجيّة لأنه عميق الجهل بها) بل من أعضاء في الكونغرس. الخطورة، بالنسبة للنظام السعودي، أن الحملة لا ترد فقط على ألسنة الديموقراطيّين بل أيضاً على السنة الجمهوريّين، بما فيهم متيش مكونل، رئيس الأغلبيّة في مجلس الشيوخ. وأقسى نقد توجّه للملكة كان من السيناتور، لنيزي غراهام، الذي كان —بحكم قربه من جون ماكين— من أصدح أصدقاء النظام السعودي في الكونغرس. اعترف غراهام هذا الأسبوع أنه ينوي أن يتقدّم بمشاريع قوانين لفرض حزمة من العقوبات ضد السعوديّة. وشارك في الحملة السيناتور مارك روبيو (وهو كان مرشحاً للانتخابات الرئاسيّة مثله مثل غراهام). الإعلام السعودي لم يفقه حقيقة الحملة ضد النظام ونسبَها —خطأ— حصراً بالحزب الديموقراطي (ونحن على أبواب انتخابات نصفيّة، وقد يسيطر الحزب الديموقراطي على مجلس النوّاب وفي هذا خطر للنظام في حساباته).
لكن هناك عوامل مساعِدة للنظام السعودي في الأزمة الحالية. إن تركيا يمكن أن تنقذ السعوديّة مقابل ثمن باهظ جدّاً لم يثبت بعد أن السعوديّة مستعدّة لدفعه (قد يتضمّن رفع الحصار عن قطر وربما تجميد الصراع ضد «الإخوان» بالإضافة إلى مال وفير تحتاج له تركيا في أزمتها الاقتصاديّة). والتفاؤل العربي (المُمانع أو القطري على حد سواء) في تقدير مضاعفات الأزمة بالنسبة إلى السعوديّة يعظَّم من دور الكونغرس ويعتبر أنه يستطيع أن يقيّد يد الرئيس الأميركي. هذه بلاد كرّست احتكار الرئيس لصنع السياسة الخارجيّة بالكامل. أي أن صلاحيّات الرئيس في صنع السياسة الخارجيّة تفوّقت، عرفاً، على الصلاحيّات الممنوحة له دستوريّاً. فالدستور يخوّل الكونغرس، لا الرئيس، إعلان الحرب لكن الكونغرس أعلن الحرب خمس مرّات في تاريخ البلاد التي خاضت أكثر من ١٣٠ حرباً في تاريخها (أحصى دوف ليفن من جامعة «كارنغي ميلون» ٨١ حرباً شنّتها أميركا (معظمها في عمليّات تدخّل سريّة) بين سنوات الحرب العالميّة الثانية وعام ٢٠٠٠) (راجع دون ليفن، «عندما تحصل القوى العظمى على الاقتراع»، «إنترناشيونال ستاديز كوارترلي»، مجلّد ٦٠، رقم ٢). وقانون «صلاحيّات الحرب» الذي سنّه الكونغرس في عام ١٩٧٣ (والذي يمنع الرئيس من نشر قوّات حول العالم إلّا لمدّة ستين يوماً، يتوّجب بعدها الحصول على موافقة الكونغرس) أثبت عدم جدواه لأن الرئيس يحصل تلقائيّاً على موافقات الكونغرس على حروبه لأن قلّة في الكونغرس تجرؤ على معارضة الحروب في بلاد يقدّس شعبها جنوده في حروبهم، أيّاً كانت هذه الحروب. أما التداول الإعلامي في الحديث عن قانون «ماغنتسكي العالمي»، فهذا القانون (الذي سُنَّ في عام ٢٠١٦) يترك للرئيس حريّة تقرير ما إذا كان خرق حقوق الإنسان في بلد ما يستدعي فرض عقوبات عليه. أي إن القرار هو قرار الرئيس وحده. وهناك قوانين —لو نُفِذّت— تفرض فرض عقوبات على دولة الاحتلال الإسرائيلي لما تقوم به بصورة منتظمة من جرائم حرب وخروقات حقوق إنسان.
ليس مصير النظام السعودي هو المُعلّق كما يُصوَّر في إعلام معارضة النظام. إن مصير ابن سلمان شخصيّاً بات في أيدي أردوغان وترامب. من المرجّح أن يكون ديبلوماسيّون أميركيّون قد التقوا بالأمير أحمد بن عبد العزيز في لندن أخيراً (وهو الأرجح حظّاً لوراثة المُلك عن سلمان لو تنحّى محمد بن سلمان أو لو أقصي). نظرَ السيناتور غراهام إلى شاشة «فوكس نيوز» قبل أيام ونصح دولة السعوديّة باستبدال محمد بن سلمان بأمير آخر (وغراهام قريب جدّاً من الرئيس وهو يستمع إليه). محمد بن سلمان لن يعود إلى الحكم كما كان، ومحاولة أفراد في الأسرة الحاكمة في استبداله باتت مقبولة أكثر أميركيّاً —لمصلحة النظام السعودي ولمصلحة الإدارة الأميركيّة. بات اسم محمد بن سلمان مقروناً بجريمة فظيعة بات الجمهور الغربي والعربي يعرف تفاصليها. ومحاولات الإعلام السعودي (واللبناني مثل محاورة منى صليبا مع موفّق حرب على «إم.تي.في») في نسب الحملة الإعلاميّة الغربيّة إلى مؤامرة قطريّة «للنيل من سمعة المملكة» لا يمكن أن تسري على مستقلّي ومستقلاّت الرأي. أراد محمد بن سلمان أن يستعمل البطش والعنف و«الحزم» كي يفرض سلطته بالقوّة ويمنع إمكانيّة انقلاب عليه في داخل الأسرة، لكن هناك منسوب من القوة يمكن لأي حاكم أن يتخطّاه إلى درجة يمكن أن تقصيه عن الحكم (أو عن الحياة كما حدث مع السادات). أفرط بن سلمان في التعويل على درجة مطلقة من التبنّي الغربي له، وأخطأ الحساب (لو أن العمليّة لم يفتضح أمرها، لكانَ كرّرها هانئاً).
ترامب سيحاول إسعاف ابن سلمان لكنه يحتاج إلى تعاون من أردوغان، ويحتاج من ابن سلمان (أو من النظام السعودي) إلى تعاون قد يؤدّي إلى تغيير سلسلة الحكم الوراثي. قد يؤدّي ذلك إلى تعيين وليّ وعهد (إما للملك أو لوليّ العهد الحالي) تختاره واشنطن، أو قد تصل الأمور إلى الإصرار على استبدال ابن سلمان. كانت وعود ابن سلمان تقتصر على إسعاد الغرب (من خلال إصلاحات شكليّة مثل قيادة المرأة للسيّارة، فيما هي تحتاج إلى وليّ أمرها كي تتصرّف) وإسعاد الشعب السعودي بوعود الرخاء الاقتصادي. إن هلع الشركات الغربيّة الكبرى وانسحابها من المؤتمر الاستثماري في الرياض، وحالة القلق التي تسبّبت بها حملة اعتقالاته في «الريتز»، باتت تنبئ بمستقبل اقتصادي غير مستقر. وتخلّف ابن سلمان عن وضع (قسم من) شركة «أرامكو» في السوق كشركة مساهمة زاد من منسوب عدم الثقة الغربي.
لم يبقَ في زاد ابن سلمان كي يعطيه للغرب. وعد صفقة السلاح بقيمة ١١٠ مليارات دولار تبخّرت بعد أن توضّح لإدارة ترامب أن السعوديّة (كالعادة) لا توفي بوعود مشترياتها أو بوعود منحها للدول الأخرى (ماذا حلّ بمنحة الحكم السعودي للجيش اللبناني مثلاً، أو بوعود النظام السعودي في دعم اقتصاد أفغانستان والضفّة وغيرها). لم تشترِ السعوديّة أكثر من ٢٠ مليار دولار من السلاح في عهد ترامب (وهذه القيمة شغّلت بضع مئات في تقدير خبراء، وقد شرّح بروس رايدل من مؤسّسة «بروكغنز» تفاصيل كذبة صفقة الـ١١٠ مليارات دولار). مغامرات ابن سلمان العسكريّة تحتاج إلى دفق هائل ومستمرّ من المال.
عندما تقرأ أن توماس فريدمان وديفيد اغناطيوس (وهما من الذين روّجوا لابن سلمان بحماسة) ونخبة الإعلام وبعض مدراء كبرى الشركات تخلّوا عن ابن سلمان تدرك أن ورطته أكبر مما يتصوّر. صفحات الرأي في الإعلام السعودي ترفع سيوفها وتقارع طواحين الهواء. ساعة تتهم تركيا وساعة تتهم إيران وهي تشنّ حملة ذكوريّة شنيعة ضد خطيبة خاشقجي. لكن ابن سلمان سيدرك من خلال لقاءاته الأخيرة مع بومبيو وأحاديثه مع كوشنر أن لا مناصَ له من التضحية، إما بشخصه أو بأقرب القريبين منه. لكن حتى هذا الإجراء يكشف ضعفه أمام من ظهر أمامهم في بلاده بمظهر القوّة المفرطة. لكن يبقى في جعبته الملاذ الأخير في جعبة كل المستبدّين العرب. هل يزور الكنيست الإسرائيلي في محاولة أخيرة لطيّ صفحة المنشار؟
*كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)