لم يشذّ المجتمع السوري في مراحل تطوره الاقتصادي عن باقي المجتمعات، ذلك من جهة مروره بكافة الأنماط والأشكال الاقتصادية. لكن هذا لا ينفي وجود مفارقة جديرة بالاهتمام ، ألا وهي تعايش أكثر من شكل اقتصادي في ذات اللحظة وفي ذات النمط الاقتصادي السائد. وهذا ما نشهد بعض من تجلياته حتى اللحظة.
ما نقصده هنا بالتحديد هو «الاقتصاد المنزلي» أو الاقتصاد الريفي الذي يرتبط عضوياً بجملة العمليات الإنتاجية التي تمارسها الأسرة وتحديداً المرأة التي كان لها الدور الأبرز في رسم معالم تطور هذا الشكل من الإنتاج، الذي يقوم على التشارك والتعاون ضمن الأسرة وخارجها. ويجب التنويه بأن الاقتصاد المنزلي والاقتصاد الريفي القائمين على عمل النساء على نحو كبير، ويعدّان من تجليات نمط الاقتصاد الرعوي الزراعي والحرفي البرجوازي. ومن الممكن أن يكون توظيف المساحات الفارغة لإنتاج بعض الخضروات وتربية بعض الحيوانات والطيور لسد بعض من حاجات الأسرة، بعضاً من تجلياته في اللحظة الراهنة.
لكن الاقتصاد المنزلي لا يقف عند هذه الحدود، إذ إنه إضافة إلى اشتغاله على تصنيع وإنتاج الموارد الزراعية والحيوانية وتحويلها إلى سلع للاستهلاك الذاتي والتسويق، فقد تطور في سياق تكوّن علاقات الإنتاج البرجوازية، على تطوير الإنتاج الحرفي، لكن في المجتمعات التي لم تقم بقطع مع ما جرى تجاوزه من علاقات إنتاج ريعية رعوية زراعية، وحتى إنتاج حرفي صغير وبسيط، فإننا نرى بعضاً من تجلياته حتى اللحظة. وبرغم ارتباط هذا الشكل من الإنتاج بحركة الأسواق، إلا أنه بقي يحافظ على طابعه التقليدي من حيث أشكال وعلاقات الإنتاج المنزلية القائمة على الإنتاج المرتبط بالاستهلاك الخاص وبيع الفائض، أو الإنتاج المخصص للبيع. ومن المعلوم أن بعضاً من الاقتصاد المنزلي يعتمد على العمل الفردي لإنتاج السلعة، ومن الممكن أن يوجد بين أفراد الأسرة تقسيم للعمل بغية إنتاج بعض السلع، لكن السمة العامة لهذا العمل هي التعاون والتشارك. وهذا يقارب في شكله العام التخصص الذي يجري على أساسه الإنتاج في الورش الكبيرة أو في المصانع. وإذا كان الاقتصاد المنزلي يعبّر في طبيعته عن مرحلة تاريخية سابقة، فإن أسباب استعادته في اللحظة الراهنة تعود إلى الأزمة التي يعانيها السوريون. بالتالي فإن الهدف من استحضاره هو ترشيد الإنفاق والاستهلاك وتوجيه الأسرة لإنتاج ما تحتاج إليه من مواد استهلاكية أساسية غذائية وطبية بديلة... ويرمي بمستوى آخر إلى التخفيف من النزعة الاستهلاكية المرتبطة بحركة الأسواق، لكن هذا يجب ألا يجعلنا نتجاهل بعض التساؤلات، منها: هل يمكن تمكين وتكييف الاقتصاد المنزلي وآليات اشتغاله مع لحظة بات يعتمد فيها الفرد على القيم الاستهلاكية؟ وهل يمكن للإنتاج المنزلي أن يتلاءم مع قوانين السوق الجائرة والسائدة في آونة واحدة؟!
لقد اشتغلت الجهات المختصة على توعية المرأة وتوجيهها إلى تطوير الإنتاج المنزلي (الريفي)، سواء المخصص منه للاستهلاك الأسري أو الإنتاج المخصص للتسويق. وذلك عبر دورات ترمي إلى تطوير المرأة وعلى نحو خاص الريفية وتنمية وعيها وقدراتها الإنتاجية. وتمكينها من العمل الحرفي، وتصنيع المواد الغذائية من المشتقات الحيوانية والنباتية وتحويلها إلى سلع. وأسهم هذا التوجه في توفير فرص عمل استفادت منها المرأة في رفع مستوى معيشة الأسرة. وأيضاً أسهم في تدعيم ترابط حلقات الإنتاج البسيط، وتمكين التعاون والتبادل البيني ضمن التجمع السكني.
أما في المدن، فإن الوضع يبدو مختلفاً. فإمكان توفير حيز مكاني لتربية بعض الحيوانات، أو لزراعة بعض المزروعات، يبدو صعباً. لهذا فإن الإنتاج الحرفي (خياطة، تطريز، إنتاج الألبسة الصوفية وبعض الصناعات الغذائية...) هو الأكثر انتشاراً. وفي بعض الحالات يجري تحويل المنزل إلى ما يشبه الورش المتخصصة. وتعتمد هذه الأعمال اعتماداً كبيراً على تشغيل المرأة في المنزل، ومن ثم على تسويق ما تنتجه من قبل صاحب العمل. وقد بات واضحاً أن الأزمة التي تعصف بسوريا تسهم في استعادة وتطوير الإنتاج المنزلي، لكونه يسهم في ترشيد الإنفاق والاستهلاك، واستعادة التلاؤم مع معدلات الدخل، إلا أن إمكانات نجاحه تتراجع أمام ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الليرة، وغياب مصادر التمويل. ومع هذا يجب التأكيد على بناء ثقافة استهلاكية جديدة، تقوم على ترشيد وضبط العادات الاستهلاكية والاعتماد على ما يمكن توليده وإنتاجه داخل المنزل، وكيفية تدوير بقايا المواد والسلع المستهلكة، والاكتفاء بالحاجات الضرورية، والتخلي عن العادات الاستهلاكية التي تتجه إلى الشكليات والمظاهر التي باتت من سمات الأسرة السورية.
لماذا ترشيد الاستهلاك:
ـــــ مواجهة موجات ارتفاع الأسعار والتضخم الذي بلغ أكثر من 150%.
ـــــ الاعتماد على الذات في إدارة أشكال الاستهلاك والإنتاج المنزلي، سواء للاستهلاك أو التسويق، لكونه يسهم في الحد من تأثير ظاهرة الاحتكار.
من أسباب الأزمة المعيشية: ارتفاع معدل التضخم، ارتفاع معدلات البطالة، زيادة معدلات الفقر التي وصلت إلى حدود 70% وجميع هؤلاء يصنفون دون خط الفقر، انخفاض الإنتاج نتيجة تدمير القطاعات الإنتاجية، فقدان المواد الأولية، زيادة حدة الاحتكار، زيادة حدة الصراع، زيادة حالات الهجرة من المناطق المشتعلة إلى المناطق الآمنة أو المستقرة نسبياً.
ـــــ انخفاض القدرة الاستهلاكية نتيجة التضخم الذي أسهم في انخفاض قيمة الليرة. وهذا يسهم في تراجع إمكان تأمين الحاجات الأساسية (الغذائية، التعليمية، الصحية، والمعيشية الأساسية).
ـــ احتكار المواد الأساسية من قبل التجار المتميزين بالجشع، وبالتالي تحكمهم في آليات عرض السلع ومعدلات الأسعار.
ـــــ الأزمة الاقتصادية عامة ومركّبة وبنيوية، وهذا يعني ضرورة التأكيد على ضرورة العمل للحد من تداعيات الأزمة على مستوى الاستهلاك الذي بات تراجعه يهدد أمن واستقرار الأسرة. أما الادعاء بالقدرة على تجاوز الأزمة الاقتصادية بسياسات اقتصادية جزئية (ومنها إعادة النظر في الاقتصاد المنزلي، ترشيد الإنفاق)، فإن هذا غير كافٍ، لأن الأزمات الجزئية مرتبطة بالأزمة العامة. لقد باتت الأسر التي تعتمد على دخل محدود أو عمل حر على نحو عام تحت خط الفقر (فالأسرة المكونة من 5 أشخاص تحتاج إلى ثلاثة أضعاف دخلها الحالي، لذا فإن ترشيد الإنفاق والاستهلاك في حالتنا الراهنة، يعدّ نتاج أزمة مادية وإنسانية عامة، لا تستطيع حيالها الأسرة تأمين احتياجاتها الأساسية، إذ إن متوسط الدخل لا يتجاوز 17 ألف ليرة، بينما القيمة الوسطية لحاجة الأسرة من المواد الأساسية تتجاوز 60 ألف ليرة).
من آليات تطوير الاقتصاد المنزلي:
ـــــ التوجه إلى المؤسسات الدولية الإنسانية، وتحديداً غير الربحية منها، من أجل مساعدة الأسرة على دعم وتطوير مولدات الدخل، إضافة إلى تقديم المساعدات، وتوزيعها على نحو عادل وتوسيع دائرة المستفيدين، لأن الأسرة السورية عموماً بحاجة إلى المساعدة، لا المهجرين فقط.
ـــــ التوجه إلى تنمية الشعور بالغيرية، وتحديداً في ما يخص المساعدات. وهذا يحتاج إلى بناء وعي جديد يقوم على التأكيد على أهمية وضرورة التعاون.
ـــ التأكيد على ضرورة وأهمية دور الدولة الإنساني والاجتماعي، وفتح المجال أمام المؤسسات الإنسانية والجمعيات الأهلية والمدنية.
ـــــ الربط الأسري في إطار أعمال جماعية تساعد على تحفيز الدوافع الإيجابية وتمكين العمل الجماعي القائم على المشاركة، وهذا يحقق مناخاً أسرياً يقوم على التعاون.
ــــــ التوجه إلى تمكين أشكال من الإنتاج البسيط في إطار المجموعات الأسرية. وتحديداً في سياق الربط المباشر بين المنتج والمستهلك.
ــ ترشيد الإنفاق وتقنين استهلاك الطاقة والمشتقات النفطية والمياه والمواد الأساسية.
ــــــ الاستفادة من المساحات الفارغة في المنزل وتحويلها إلى مصدر للاكتفاء الذاتي. والتوجه إلى تفعيل الإنتاج المنزلي والصناعات اليدوية الحرفية الغذائية.
ــــــ الاعتماد على الطاقة الشمسية في تجفيف المنتجات الزراعية (الغذائية) المعدة للتخزين، والتقليل من حفظ المواد الغذائية في الثلاجات، ذلك للتقليل من الأضرار الناجمة عن انقطاع التيار الكهربائي.
ـــــ اعتماد آليات عمل جماعي في التسوق والعمل والتخزين من أجل خفض معدلات الإنفاق والتكاليف، وللاستفادة من فرق الأسعار بين سعر المفرق والجملة. وفي الوقت نفسه فإن هذا يحفز الوعي الجماعي والتعاون.
ــ تفعيل دور الجمعيات الأهلية في إقامة معارض لتسويق الصناعات المنزلية. ويمكن أن تسهم هذه المعارض في توفير فرص عمل وتوليد وتجديد مصادر الدخل، وكذلك تسهم في تعزيز الربط المباشر بين المنتج والمستهلك.
ــــــ تفعيل دور الجمعيات الأهلية والمدنية من أجل تمكين الورش المنزلية، وخاصة في ما يختص بإنتاج المواد الغذائية والسلع الحرفية وتنمية وتطوير بعض الزراعات الصناعية، والاهتمام بتدوير المواد البلاستيكية، وتحويل النباتات الطبية إلى مصدر للاستطباب.
معوقات تطوير الاقتصاد المنزلي:
ــــ سيادة الميول الاستهلاكية وتفضيل المنتجات الجاهزة عند غالبية الأسر السورية.
ــــ ميل غالبية الأسر إلى رفض فكرة العمل في الصناعات المنزلية.
ـــ ارتفاع الأسعار وكذلك انخفاضها على نحو غير منتظم (اضطراب وعدم ثبات) يؤدي إلى انهيار كافة أشكال الإنتاج البسيط، وذلك لعدم توافر رأس مال يكفي لدعم المشاريع الأسرية، ويحد من تجاوز حالات الخسارة. وكذلك فإن عدم توافر السيولة المالية في لحظة يرتفع فيها رأس المال المسهم في العملية الإنتاجية بفعل ارتفاع الأسعار يعد أحد المعوّقات الأساسية، وإضافة إلى أن الارتفاع والهبوط المفاجئين للأسعار يسهمان في خسارة المنتج الصغير أو في كساد بضاعته، فإن زمن الإنتاج وزمن التداول يؤثران على نحو كبير في وضع المنتج الصغير.
ـــــ جشع التجار واحتكارهم السلع الأساسية.
ـــــ تراجع قيمة الليرة وكذلك الدخل يضغط على مستوى الاستهلاك (الطلب) فيجعله يميل نحو الانخفاض.
ـــــ تراجع دور المؤسسات المتخصصة عن دعم المشاريع الأسرية، وتوفير مولدات الدخل.
ومع ضرورة ترشيد الإنفاق والاستهلاك الذي يمثل جانباً منه الاعتماد على الاقتصاد المنزلي، لكنه يبقى متخلفاً عما وصلت إليه أشكال الإنتاج في المدن الصناعية. فتنحصر بذلك إمكانية النهوض بالاقتصاد المنزلي في الأرياف والمدن، التي ما زالت تتخللها بعض مظاهر الإنتاج المنزلي وتربطها علاقات تبادل سلعي مع الريف، فيما دور الأسرة المدينية ينحصر غالباً في تطوير ورش الصناعات الحرفية، وتمكين ارتباطها مع الأسواق. وهذا يعبّر فقط عن واقع أسر محددة ومحدودة، ولا يعكس واقع الأسرة المدينية على نحو عام.

* باحث وكاتب سوري