مرَّ خبرُ إقفال «دار الصيّاد» دون ضجّة إعلاميّة في لبنان أو في العالم العربي. اندثار الصحافة المكتوبة بات لا يثير العجب. نحن في عصر إعلامٍ جديد. الإعلام التقليدي، على علاّته، كان أكثرَ مواكبة لأحداث العالم العربي من أبعاده المختلفة، ووفقَ أجندات السفارات والأنظمة. الإعلامُ الجديد ينبتُ كالفطرٍ على مواقع الإنترنت ولم تعدْ أميركا وحدها هي المهتمّة بهذا الشأن. منظمّاتٌ أوروبيّة تدّعي حب الإنسان والديموقراطيّة (مطعّماً بحبٍّ وفير للعدوّ الإسرائيلي طبعاً) باتت هي المُحرِّر والناشر الأكبر لمواقع إخباريّة-سياسيّة عربيّة («مستقلّة» دوماً، إذ إن الاستقلال لا يعني في سياق الصحافة العربيّة غير أنه غير مؤيّد لأي نسق من أنساق مقاومة إسرائيل في المنطقة). حتى سويسرا باتت مهتمّة بإنشاء مواقع أخبار عربيّة. والفارق بين الإعلام الجديد والتقليدي أن الأخير حاول أن يعكسَ المزاج العربي العام (وإن بطرق مختلفة) في حين أن الإعلام الجديد يجهدُ أكثرَ في صنع وقولبة وتغيير المزاج العربي العام باتجاه غربيّ. أي إن الإعلام الجديد هو أكثر دعائيّة من الإعلام التقليدي، على فجاجة دعائيّة بعض الإعلام التقليدي. السمة الثانية في الإعلام الجديد هو تعزيز الهويّة القبليّة، أو هويّة الحارة كما تقتضي الضرورة. السخرية من الاهتمامات العربيّة الجامعة شكّلت ضرورة من ضرورات صعود الهويّة الضيّقة التي ترمي إلى إهمال القضيّة الفلسطينيّة والقضاء على الإجماع الشعبي العربي (على مرّ عقود) على رفض المؤامرات الغربيّة في المنطقة. والزمن الناصري شكّل خطراً على استقرار عروش طغاة هالهم تعبئة الجماهير ضد الحدود التي فرضها المُستعمِر. إعلام الحقبة السعوديّة التي تلت رحيل عبد الناصر طغى رغم تمويل النظاميْن العراقي والليبي لصحف قوميّة عربيّة. والقضايا المحليّة الصغيرة - الصغيرة بمعنى أنها تعني سكّان قرية أو مدينة - هي الغالبة في هذا الإعلام، وأصحاب المليارات العرب يموّلون محطات تلتزم هذه الضوابط.
والإعلام الجديد يُسيِّره (بالنيابة عن الداعم الحقيقي) إعلاميّون (النساء غائبات عن رئاسة التحرير والنشر في الصحافة العربيّة) تخرّجوا من إعلام أمراء آل سعود. هؤلاء تمرّسوا في نقد اليسار والمقاومة والهويّات الجامعة (لأن هواهم قبلي-عشائري أو حتى هويّات على نطاق الحارة أو المحلّة). وتتوافق معايير إعلام الأمراء مع معايير الجمعيّات الغربيّة الراعية للديموقراطيّة. المهم أن القضايا التي تعني كل العرب لا تستحق المتابعة أو التغطية للإمعان في تقسيم العرب.
الذي عايشَ إعلام ما قبل الحرب الأهليّة يتذكّر دور «دار الصيّاد» في الصحافة العربيّة ونجاحها على مستوى العالم العربي. لم يكن هناك طغيان لصحيفة واحدة أو مطبوعة واحدة في مرحلة ما قبل الحرب. كان هناك تنافس حقيقي بين دور نشر ودور طباعة وصحف ومجلّات. إن كثافة المنافسة الإعلاميّة في لبنان لم تكن تعكس تعطشاً للحريّة أو مساحة ديموقراطيّة بقدر ما عكست دور بيروت كمركز للدعاية والاستخبارات الغربيّة في مرحلة الحرب الباردة (على نطاق عالمي وعلى نطاق عربي حيث قادة الأنظمة الخليجيّة الرجعيّة المعركة ضد اليسار والتقدّم والعلمانيّة والنسويّة). وكان إعلام اليسار مثلاً يعاني من الرقابة والقمع والإغلاق آنذاك.
لم تكن الصحافة اللبنانيّة في عصر ازدهارها نتاج الحالة اللبنانيّة وحدها. كانت نتاج الصراع الإقليمي والدولي في الساحة اللبنانيّة كما كانت نتاج هجرة المال والإعلام إلى لبنان في عصر التأميمات. كان لسوريا تراثها الإعلامي العريق وسعيد فريحة انطلق في بداياته في الإعلام الحلبي. لم يكن فريحة متعلّماً لكنه تمرّسَ في الصحافة عن شغف، وهذا بات نادراً في عصر كان فيه الجذب الإعلامي وسيلة للتقرّب من هذا الأمير أو ذاك الشيخ. سعيد فريحة مثله مثل سليم اللوزي وناشري المطبوعات في لبنان، تأثّروا بالمدرسة الصحافيّة لمحمد التابعي، من حيث نقل أسلوب التشويق القصصي إلى السرد الصحافي ولو أتى على حساب الدقّة والأمانة الصحافيّة.
أسّسَ فريحة مجلّة «الصيّاد» عام ١٩٤٣ ونجحت بسرعة وباتت المجلّة الأولى إلى أن ازاحتها «الحوادث» أواخر الستينيّات والسبعينيّات عن موقعها المتصدِّر. أدخلت «الصيّاد» فن السخرية السياسيّة إلى الصحافة اللبنانيّة، وهي استوردته من مصر، حيث كانت الصحافة الساخرة وفن الكاريكاتور السياسي معروفاً. كان أشهر رسّامي الكاريكاتير في مصر عبد المنعم رخا الذي دخل السجن في الثلاثينيّات بعد إدانته بذمّ الملك. ويُقال إن الرخا كان رائداً في فن الكاريكاتور السياسي العربي. أضاف رسّام الكاريكاتور «خليل» لمسة إضافيّة على «الصيّاد» لأن رسومه كانت تزيّن الغلاف. وهو الذي ابتكر شخصيّة العم «أبو خليل» (لا يمت بصلة قربى لي) كرمز للشخصيّة اللبنانيّة على مثال العم «سام» الأميركي. وتصوير «أبو خليل» كان محاولة لاختلاق شخصيّة لبنانيّة خياليّة، فهو لا هويّة طائفيّة أو سياسيّة له ويرتدي الشروال واللبّادة، وتعليقاته تكون من النوع الذي لا يهدّد السلم الأهلي (الغالي جداً على قلوب أهل الرقابة في الأنظمة العربيّة). وكان الغلاف الأبرز لـ«الصيّاد» هو الذي صدر في ٢٤ أيّار ١٩٤٥، ويظهر فيه جندي سنغالي (عارياً إلّا من سروال داخلي ويحمل في صورته تاريخاً من صور الرجل الأبيض المُستعمِر النمطيّة عن الأفارقة) وهو يتوجّه إلى اللبنانيّين (المُرتدين اللباس الأوروبي الأنيق) بالقول بالفرنسيّة: «أنا أحضِّركم». وتلقفت العنصريّة اللبنانيّة الصورة بالكثير من الترحيب لأن اعتماد المُستعمر الغربي على جندي أفريقي لحكم اللبنانيّين اعتُبر إهانة لشعب يزهو بتحضّره وبتقرّبه من الرجل الأبيض.
حافظَ صاحب «الصيّاد» على علاقات وطيدة مع أنظمة الخليج لكنها لم تتطوّر إلا بعد وفاة عبد الناصر


كانت «الصيّاد» خفيفة في سنواتها الأولى وتكثر من نشر الأخبار الفنيّة والسرديّات العاطفيّة للمؤسّس، سعيد فريحة. وكان كل ناشر يطبع صحيفته أو مجلّته بشخصيته، فإن فريحة طبع «الصياد» بشخصيّته المرحة والخفيفة والطريفة والمهتمّة بالشأن السياسي والفنّي على حد سواء. وكانت «الصيّاد» تمزج بين الفن والسياسة وفي الكاريكاتور. لكن هويّتها السياسيّة، في زمن الصراع السياسي المحتدم، كانت واضحة وجليّة. كانت شهابيّة في الستينيّات في الشأن اللبناني، وكانت شديدة المنُاصرة الناصريّة في الشأن العربي. وهي حافظت على الهوى الناصري حتى وفاة عبد الناصر، عندما تشتّت الصحف والمجلاّت بين أمراء وشيوخ النفط، أو بين النظام الجمهوري العراقي أو اللاجمهوري الليبي.
تنافست «الصيّاد» مع «الحوادث» التي كانت أقل التزاماً بالمهنيّة من «الصيّاد». لعب جان عبيد ومن بعده رفيق خوري في رئاسة تحرير «الصيّاد» إضفاء طابع من الرصانة المهنيّة والنمط التحليلي على مقالاتها. واختلفت كثيراً عن «الحوادث» التي اعتمدت الإثارة (الخلاعيّة أحياناً) والتشويق وإضفاء المبالغة والجذب التابلويدي على العناوين وعلى صور الاجتماعيّات. واعتمدت «الصيّاد» على التحقيقات الجديّة في مواضيع السياسة في لبنان والعمل الفدائي والجوْر الاجتماعي. غابت هذه المواضيع عن «الحوادث» التي ركّزت على المزايدة في مواقف مصطنعة لصاحبها. والمفارقة أن سليم اللوزي، الذي قُتل بسبب كتاباته من النظام السوري، كان قد دعا في الستينيّات لقتل المحامي محسن سليم لأنه رافعَ أمام المجلس العدلي في قضيّة اغتيال كامل مروّة (عاد اللوزي واعتذر بعد ذلك لأسباب قانونيّة). وكانت موارد «الحوادث» أغزر من موارد منافساتها، كما أن موارد «النهار» كانت أغزر من موارد منافساتها، ولم يكن لذلك علاقة بالمهنيّة أو المهارة أو النجاح.
«الصيّاد» تحت قيادة جان عبيد (الذي نجح في الانتقال الرشيق من موالاة تامة للنظام السوري إلى موالاة تامة للنظام السعودي) وتحت قيادة رفيق خوري مثلت صحافة شجاعة وقفت بوجه جور السلطة وضد قمع حركة المقاومة الفلسطينيّة ومع حقوق المُضربين والمتظاهرين والمعتصمين، وما أكثرهم في تلك الأيّام. وحافظَ صاحب «الصيّاد» على علاقات وطيدة مع أنظمة الخليج لكنها لم تتطوّر إلا بعد وفاة جمال عبد الناصر عندما شعر ناشرو الصحف في لبنان أن سطوة عبد الناصر (الجماهيريّة وليس الأمنيّة) لم تعد تمنعهم من الارتماء في أحضان رعاية النفط والغاز، لكن سليم اللوزي كان أشطرهم إذ إن علاقته الوطيدة بالأمير فهد (في حينه) لم تحصرْه برعاية واحدة بل تمتّعَ برعايات متنوّعة وعدة (يُقال إنه أجاب عن عتاب الشيخ زايد بن سلطان حول عدم نشر «الحوادث» لمديح له بأن سعر المديح يفوق سعر عدم النقد).
تأسّست «دار الصيّاد» عام ١٩٥٥ وأصبحت بسرعة مَعْلماً في منطقة كانت مقفرة وتحوّلت بسرعة بفضل الدار إلى منطقة سكنيّة للميسورين. وأصبحت الإشارة إلى «الصيّاد» كافية للتدليل على طريق السير في بيروت والصعود إلى الجبل. وحوَت «دار الصيّاد» (أكثر بكثير من «دار النهار» ذي الطابع اللبناني الشوفيني الفينيقي) كتّاباً عرباً من جنسيّات مختلفة. وتوالت إصدارات الدار فولدت مجلّة «الشبكة» عام ١٩٥٦ (كان فريحة مولعاً بالفن والطرب وكان صديقاً لأم كلثوم التي دشّنت معه مبنى «دار الصيّاد»). و«الشبكة» تطوّرت في الستينيّات إلى البديل العربي (المحافظ نسبيّاً) لمجلّة «بلاي بوي» وكانت وسيلة مرور في سن المراهقة للشباب العربي. ولأن المرحلة سادها ليبراليّة جنسيّة (استمرَّت حتى حقبة الاستنهاض الديني بشقيْه السعودي والإيراني)، فإن «الشبكة» عبّرت عن الخيال الجنسي لشباب عربي مكبوت. ويُقال كثيراً عن مبيعات «النهار» و«الحوادث» في سنوات ما بعد الحرب، لكن من المشكوك فيه أن تكون أي مطبوعة عربيّة قد وصلت إلى مستوى مبيع مجلّة «الشبكة» والتي اجتازت عتبة مئة ألف نسخة في الأسبوع الواحد. كان العري (غير الكامل) هو الطريق السريع لنجاح المجلّة (وروى سعيد فريحة أن عبد الناصر تذمّر أمامه من صورة غلاف أحد الأعداد وظهرت فيها الفنانة «رندة» وهي تستحم). وكانت المجلّة تنشر مقابلات نقديّة مع فنانين وفنانات وكانت الحوارات طبيعيّة وغير متكلّفة كما هي الحال اليوم، عندما يجيب مستشار الفنّان والفنّانة عن أسئلة الصحافة. ونشرت «الشبكة» في الستينيّات مساجلات زجليّة بين جورج جرداق وعاصي الرحباني واتسمت بالقسوة الشديدة مما أمتعَ القرّاء.
وفي ١٩٥٩، أصدر سعيد فريحة جريدة «الأنوار» اليوميّة. وفي وقت قصير، نافست الجريدة «النهار» التي كانت الناطقة دوماً باسم المؤسّسة الحاكمة (أو المعارضة اللطيفة في العهد الشهابي الثاني لمصلحة الحلف الثلاثي الطائفي الرجعي). لم تكن الساحة خالية يوماً لـ«النهار» كما يرد في روايات ما يُسمّى - من قبل جماعة «النهار» - بـ«الزمن الجميل». كان هناك منافسة حقيقيّة للجريدة من «الأنوار» و«المحرِّر» وغيرهما من الصحف. لكن الجريدتيْن الأخيرتيْن كانتا الأعلى صوتاً في معارضة النهج اليميني الطائفي الانعزالي للجريدة. وكان سعيد فريحة يستقطب كتّاباً لبنانيّين وفلسطينيّين وسوريّين ومصريّين في صحفه من ضمن الخط القومي العربي الذي انتهجه (وكان يستكتب أيضاً علي أمين، شقيق السجين مصطفى أمين في حينه، وإن كان ينشر له تحت اسم «كاتب عربي كبير»). لكن «الأنوار» اختلفت عن «المحرّر» إذ كانت أكثر رصانة وأقل زعيقاً (أذكر عنواناً لـ«المحرّر» من أواخر الستينيّات عن «طبول بغداد» في إشارة إلى حركة معارضة ضد النظام آنذاك، وكانت ناطقة باسم النظام البعثي هناك). لكن الجريدتيْن ساهمتا في تثقيف جيل كامل من القراء عن قضيّة فلسطين ومخاطر الصهيونيّة وعن حرب فيتنام ومعظم قضايا العالم العربي، فيما كانت «النهار» لا تنشر إلا الدعاية الغربيّة والدسّ والنميمة والتحريض ضد حركة المقاومة (باستثناء ملحق «النهار» الذي أخذه أنسي الحاج باتجاه أقلّ يمينيّة من الجريدة وإن بقي في خط الوطنيّة اللبنانيّة). وخصّصت «المحرّر» ملحقاً أسبوعيّاً عن فلسطين، فيما أصدرت «الأنوار» عام ١٩٦٧ ملحقاً أسبوعيّاً كردّ على ملحق «النهار» الأسبوعي وأوكلت رئاسة تحريره إلى العظيم غسان كنفاني (كم نفتقده في عصر مواقع التواصل الاجتماعي وهو الذي يطلُّ فيها يوميّاً وهو ميت، فما بالك لو لا يزال حيّاً؟). والملحق كانت كرّاساً أدبيّاً وفنيّاً وسياسيّاً فريداً يرصد القضيّة الفلسطينيّة ويفنّد الدعاية الإمبرياليّة حول العالم ويفضح دسائس المخططات الأميركيّة في منطقتنا (أصدرت «دار الآداب» كتاباً يضمّ كتابات كنفاني باسم فارس فارس، التي نشرها في الملحق، وهي تعطي فكرة عن عمق فكره وتحليله الثاقب).
وكما ساهم فلسطينيّون في «المحرّر» بصورة أساسيّة (دور شفيق الحوت وغسان كنفاني في ملحق فلسطين كان كبيراً)، فإن الدور الفلسطيني في دار الصيّاد كان كبيراً. كان نبيل خوري من المؤسّسين في «الأنوار» وباشر كنفاني الكتابة فيها مبكّراً. وفيما بقيت «الصيّاد» تجمع بين الكتابة الصحافيّة، وبين الفن الكاريكاتوري الساخر، فإن «الأنوار» كانت أيضاً تعرض رسومات كاريكاتوريّة، في الصفحة الأخيرة وفي الملحق الأسبوعي. وجان مشعلاني كان من أبرز رسّاميها وكانت رسوماته أكثر ابتكاراً وأقل مباشرة من رسوم بيار الصادق الفاقعة في مباشرتها وصبيانيّتها. حافظ سعيد فريحة على صداقة مع غسان تويني لكن صراعه ضد «الحوادث» ومؤسّسها كان عنيفاً. وعندما ذمّه سليم اللوزي بطريقته اللئيمة الجارحة ردّ عليه فريحة في «الأنوار»، متهماً إيّاه بكسب قوته بـ«عرق ركبتيْه». كانت «دار الصيّاد» داراً صحافيّاً أكثر مما كانت «النهار». الأخيرة كانت داراً لنشر الكتب وتخصّصت في نشر الدعاية اليمينيّة والتاريخ اللبناني الانعزالي ومعاداة الشيوعيّة. لم يتوسّع النشر الصحافي لـ«النهار» باستثناء «ملف النهار» الذي كان يُنشر دوريّاً عن مواضيع محدّدة، محليّة ودوليّة. «دار الصيّاد» ولّدت جريدة ومجلّات متنوّعة: كانت أوّل من نشرت القصص المصوّرة بالرعبيّة في مجلّة «سَمَر» ثم نشرت في مجال «الدفاع العربي» و«الإداري» ونشرت كتباً وثائقيّة عن حرب تشرين وعن الحرب اللبنانيّة. لكن الحرب كانت مُدمِّرة للدار، كما كانت وفاة فريحة في ١٩٧٨. ولم يكن أي من أولاد فريحة مؤهلاً للعمل الصحافي، كما كانت حالة غسان تويني الذي أضاف إلى الصحافة اللبنانيّة ما استورده من صحافة أميركا، خصوصاً الملاحق الأسبوعيّة وأقسام الصحيفة المختلفة. برعَ بسام فريحة في التجارة أكثر من الإعلام وفتح قنوات اتصال مع النظام الإماراتي مما درّ على الدار أموالاً لم تُحسّن البتّة في الإنتاج الصحافي لها منذ وفاة المؤسّس. ماتت «الصيّاد» بموت مؤسّسها لكن المال الإماراتي أبقاها في حالة موت سريري قبل أن تُعلن الوفاة رسميّاً (لم نكن نعلم أن أولاد فريحة يمارسون الكتابة لولا الاستشهاد الأسبوعي المصطنع والبليد لمارسيل غانم بمقالات إلهام فريحة).
موقع مقرّ الدار قرب خطوط التماس أضرّ بها، كما أضرّ بها خضوعها لخط تحرير ملائم لبشير الجميّل الذي لم يكن يحتمل أي خلاف في الرأي أو تنوّع في الخطوط التحريريّة في المنطقة الشرقيّة، على خلاف المنطقة الغربيّة، إذ لم تتوقّف «النهار» عن الدس ضد «منظمة التحرير الفلسطينيّة» رغم السيادة العسكريّة للأخيرة فيها. و«الأنوار» التي كانت تقدميّة علمانيّة وعروبيّة تحوّلت إلى جريدة طائفيّة من صحف بيروت الشرقيّة. لكن التعليق اليومي لرفيق خوري بقي أبهى وأمتع ما فيها (أخبرني الراحل جوزيف سماحة أنه كان مثلي مواظباً على قراءة العمود اليومي لرفيق خوري). كان أسلوبه أخّاذاً وكان يأخذ العمل الصحافي على محمل الجدّ. تعرّفتُ على السياسة الأميركيّة وعلى دور اللوبي الإسرائيلي من مقالات خوري في «الأنوار». منه، قرأتُ أسماء المعلّقين الأميركيّين (في حينه) مثل إيفانز ونوفاك وكرافت وجاك اندرسون وويليام سافير، وغيرهم. أخبرني خوري أنه كان متفقاً مع شركة طيران كي تأتيه بأعداد «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» قبل عصر الإنترنت. خوري هذا غنّت له فيروز موشّح «ارجعي يا ألف ليلة، غيمة العطر». مَن مِنكم ومنكنّ يستطيع أن يقول إن فيروز غنّت له؟ (كان رفيق خوري مستشاراً للأخوين رحباني في أعمالهم).

موقع مقرّ الدار قرب خطوط التماس أضرّ بها، كما أضرّ بها خضوعها لخط تحرير ملائم لبشير الجميّل


قبل عشر سنوات زرتُ مبنى «الصيّاد» للقاء خوري الذي تابعتُه منذ كنت صبيّاً في «الصيّاد» ثم في «الأنوار». كان موعد اللقاء بعد الظهر وهالني أن غرفة التحرير كانت مقفرة. سألته عن سبب تمسّكه بالبقاء في «الأنوار» رغم ما أصابها فقال إن ذلك يعود لولائه لبيت سعيد فريحة. الوفاء يعني الكثير لرفيق خوري، وهذا نادر في صحافة لبنان. انتهت «الأنوار» قبل سنوات طويلة من إقفالها. يطبع المؤسّس منتوجته الإعلاميّة بطابعه الشخصي ولا يكترث لتأسيس صحافة مهنيّة تتخطّى حياة الشخص الواحد. في لبنان الاعتماد يكون، على طريقة الزعامات الطائفيّة، على الوريث البيولوجي لديمومة المطبوعة. وهكذا انتقلت «دار ألف ليلة وليلة» من ملحم كرم إلى أبنائه الذين سارعوا إلى بيع الممتلكات. وتعرّضوا لنقد كبير لكن ما فعلوه كان أحرص على المهنة من الذين واظبوا بالاسم على العمل الصحافي مثل نايلة تويني أو أولاد سعيد فريحة؛ وأساؤوا إلى المهنة.
هل نأسف على اندثار الصحافة المكتوبة ودور الصحافة أم نلوم أصحابها على تبذير موارد هائلة وإيلاء التمويل الأولويّة القصوى فوق أي اعتبار؟ أي إن عائلة الناشر بعد اعتزاله أو وفاته - أو حتى الناشر نفسه في الكثير من الحالات - يسعون إلى الإثراء من وراء العمل الصحافي بدلاً من تكريس المال الخاص للناشر وعائلته للعمل الصحافي. ووفرة النفط ومواردها، وغياب عبد الناصر عن الساحة العربيّة، خلق مجالاً لطغاة النفط والغاز والثورة والبعث لتحويل القادة إلى زعماء الأمّة - كما كان عبد الناصر - عبر الصحافة العربيّة، واللبنانيّة بصورة خاصّة. فتحوّلت الصحافة من عمل مهني مرتبط بقضيّة سياسيّة إلى قضيّة عبادة الفرد متردية قشرة العمل الصحافي. هذا النوع من العمل الصحافي يزول غير مأسوفٍ عليه.
ملاحظة: أودّ أن أشكر سعيد فريحة الحفيد. ففي ٢٠٠٣، شاركتُ في حملة مع مثقّفين يساريّين أميركيّين وغربيّين وغربيّات في صياغة ونشر وتوزيع عريضة ضد الغزو الأميركي للعراق. وأصرَّ المنظمّون يومها (من بينهم نوم تشومسكي وهوارد زين) على نشر العريضة في الصحافة العربيّة. ورويتُ يومها على محطة «الجزيرة» (التي تغيّرت كثيراً) كيف أن صحافة النفط العربيّة (مثل «الحياة») رفضت نشر العريضة مقابل مبلغ تلقّته الحملة من متبرّعين. فكان أن تلقيتُ عرضاً عبر البريد الالكتروني من فريحة الحفيد يعرض فيها نشر العريضة في جريدة «الأنوار».

* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)