السؤال حول معالجة الفساد في لبنان يراود الكثيرين ممن يرون أن تغيير النظام اللبناني هو الحل الوحيد لوقف الفساد، وآخرون يرون ببساطة أن سلطة القانون واستقلالية القضاء قادرتان على محاربة الفساد أو وضع حدّ له. فيكفي أن نحيّد القضاء عن التقاسم الطائفي والمذهبي والسياسي فتستقيم الأمور.أدّت تطبيقات اتفاق الطائف إلى نشوء دويلات طائفية تشكّل في ما بينها شكل دولة موحّدة، وهي أتت كردّ فعل على حكم المارونيّة السياسيّة التي تمسّكت وتسلّطت على كل مرافق الدولة ومؤسساتها، على رغم تناقص عدد الموارنة مقارنة مع زمن قيام دولة لبنان، فولّدت الحرب الأهلية التي لم تتوقّف معاركها إلا بإنتاج دستور مسخ ولد في مدينة الطائف. فانتقل لبنان من زمن المارونيّة السياسيّة التي حافظت على هيبة الدولة وشكلها، إلى دستور الطائف الّذي رفع عنها الهيبة ووزّعها على الطوائف، فانهارت دولة القانون.
هذا الشكل للدولة كان هو العنصر المؤسّس للفساد، فكل طائفة أخذت حصّتها وبدأت بالنظر إلى حصّة الطوائف الأخرى والتطاول عليها، فكانت تستباح حصص الطوائف بحسب قوة الطائفة الأخرى ما أحدث خللاً إضافياً يمكن اعتباره بما يشبه الحرب الأهلية، ولكن من دون سلاح. فتولّدت وتوالت الإحباطات عند الطوائف الخاسرة، ما حوّل لبنان فعلاً من دولة الدويلات إلى دولة المعسكرات المذهبية القابلة للانفجار في أي وقت لولا القرار الخارجي بضبط الأمن وقوّة من يملك القوّة في الداخل في عدم إدخال البلاد في حروب. وكانت كل طائفة منتصرة «في الاستيلاء» تفتخر بحصولها على مغانم من طائفة أخرى، مع حماية مطلقة من المرجعيات الدينية التي تضفي عليها شرعيتها.
هذه المنظومة جعلت من رؤساء الدويلات ملوكاً في طوائفهم، وكلّما زادت سيطرتهم داخلها أصبحوا أقوى على الطوائف الأخرى وداخل السلطة، ما جعل جماهير كل طائفة تفخر بقوة زعيمها حتى لو ملك كلّ المال والأنفس والثمرات فيها، ويتحوّل هذا الفخر إلى حصانة تضاف إلى الحصانة الدينية الراعية.
لم يصل لبنان بعد إلى مرحلة يقبل فيها ابن الطائفة أو المذهب الخروج عن زعيمه


لا يعني ذلك أن زمن المارونيّة السياسيّة كان ناصعاً، فقد كان الموارنة يتعاطون على أنهم هم الدولة والدولة هم، فقاموا بحمايتها ولم يتناتشوها، إذ لا شريك لهم فيها، إلا أن المشكلة الأساسية كانت، عدا عن الاحتكار السياسي، أن هذه الدولة غطّت السيطرة الاقتصادية المارونية على البلد من خلال التشريعات، فقوننت الاحتكار والإمساك بالاقتصاد، وبعد الطائف لم يقوَ حتّى الرئيس رفيق الحريري، على رغم قدرته الكبيرة، على خرقها.
هذه هي حال لبنان بعد الطائف، قبل دخول عاملَين أساسيين عليه يؤمّل منهما إحداث تغييرات جذرية يمكن أن تنقذ البلد، وهما التيار الوطني الحر وحزب الله، ولكن مع فارق كبير بين الطرفين.
فالتيار الوطني الحر ينطلق في حربه على الفساد من خلفيّة دولة ما قبل الطائف، مركّزاً على استعادة حقوق المسيحيين أولاً، ليصبح هناك توازن يحفّزه للحلم بعودة نظام المارونيّة السياسيّة، مستفيداً من فشل الطائف ببناء دولة القانون، ومضيئاً على إيجابيات تلك الحقبة من دون أن يتناول سلبياتها التي أدّت إلى اشتعال الحرب الأهلية عام 1975، وهنا يكمن الخوف والخطر من طروحاته التي لا تدلّ على النضج السياسي وأخذ العبرة من التاريخ، وهو ما يتوجّب عليه توضيحه للرأي العام وللطبقة السياسيّة لتقبّل مشروعه الإصلاحي.
أما حزب الله، فصحيح أنه يحمي ويحتمي بدويلة طائفته، إلّا أنه يعي تماماً أن المشكلة لا تحل بعودة النظام القديم إنما بأمرين اثنين:
• تحييد القضاء عن سلطة الدويلات ليكون رادعاً قويّاً لأي عملية فساد ممكنة في المستقبل.
• تقديم النموذج المميّز في إدارات الدولة من خلال تولّيه مؤخّراً وزارة الصحّة.
ويمكن حينها أن يؤدّي ذلك إلى تشكيل رأي عام كبير من كافة مكوّنات المجتمع اللبناني يمكّنه من محاسبة كل المفسدين ويعيد الانتظام العام إلى البلد.
إن المانع الأساسي لتغيير النظام في لبنان هو تكوينه المذهبي والتفاف الشعب حول قياداته المذهبية التي يعتبرها حامية له، ولم يصل لبنان بعد إلى مرحلة يقبل فيها ابن الطائفة أو المذهب الخروج عن زعيمه، وهو يقبل فقط في خروج أبناء الطوائف أو المذاهب الأخرى عن زعمائهم، وما التفاف الطائفة السنّية حول الرئيس فؤاد السنيورة الّا دليل على ما ذكر.
لذلك، يحتاج لبنان إلى خطوات أولية يمكنها إذا نجحت من أن تشكّل رأياً عاماً عابراً لكل الطوائف والمذاهب يقلب الطاولة على المفسدين، ويعيد إنتاج نظام المواطنة والقانون بدل نظام المذاهب وحماية الفساد والمفسدين.
*كاتب لبناني