لا يبشر الهجوم الدبلوماسي الإسرائيلي الواسع والنوعي اللافت للانتباه تجاه القارة السمراء، بالخير، فالاختراقات الأمنية والسياسية الكبيرة على مستوى تطبيع العلاقات التي حققتها تل أبيب في الآونة الأخيرة في جدار المقاطعة الأفريقية لإسرائيل، تثير العديد من المخاوف، وتُنبئ بأن الدول الأفريقية ستتحول إلى ساحة جديدة للضغط على إيران وحزب الله، لا سيما أن الكيان الغاصب استطاع إيجاد موطئ قدم له فيها، وبات يمتلك الكثير من أوراق القوة في دول حوض النيل، خوّلته أن يكون لاعباً رئيساً ومؤثراً في بعض الأزمات كصراع المياه بين هذه الدول مستفيداً من نفوذها المتزايد في كل من أثيوبيا وكينيا ورواندا.أولت تل أبيب في العقود الأخيرة اهتماماً بالغاً لتطوير العلاقات الأفريقية ـــ الإسرائيلية، إلى حد أن السياسة الخارجية التي يتصدرها رئيس وزارء العدو بنيامين نتنياهو أضحى عنوانها: «إسرائيل تعود إلى أفريقيا وأفريقيا تعود إلى إسرائيل». ونتج عن ذلك إقامة تمثيل دبلوماسي مع أكثر من 34 دولة أفريقية، بحسب الإعلام الإسرائيلي، بعد أن كان اهتمامها منصبّاً على دول القرن الأفريقي كأثيوبيا وإريتريا وغيرهما من الدول الأفريقية القريبة من حوض النيل، أما منطلقاتها فترجع إلى نظرية «شد الأطراف» على مصر والدول العربية (أي محاصرتها من الدول الحدودية معها وذات المصالح المؤثرة)، ثم التغلغل فيها، ولاحقاً تنفيذ مخططاتها المتمثلة بهزيمة ومحاربة كل من يقف عقبة أمام مشاريعها الاستراتيجية لا سيما حربها ضد حركات المقاومة وتحديداً حزب الله.
يسعى نتنياهو من وراء التقرّب من أفريقيا من خلال زيارته المكثفة لها، إلى تغيير الموقف المعادي لإسرائيل في دول القارة السمراء والحصول على دعمها في المحافل الدولية، والأهم محاصرة النفوذ الإيراني الذي حقق نجاحات كبيرة تمثّلت بفتح الباب واسعاً أمام طهران لإقامة شراكة اقصادية وإبرام عقود استثمارية مهمة في قطاعات واسعة كالنفط وبعض الصناعات الزراعية. وهذا ما يفسّر عزم نتنياهو على تنفيذ استراتيجيته الأفريقية والتي ترجمها بزيارة القارة السمراء ثلاث مرات خلال سنتين ونصف، بما في ذلك زيارته التاريخية في حزيران 2017 إلى أوغندا، كينيا، رواندا، أثيوبيا وليبيريا.

تشاد الركيزة الاستراتيجية
الفتوحات الإسرائيلية في أفريقيا، دفعت قادتها إلى الحديث عن «ربيع إسرائيل في أفريقيا»، لا سيما بعد زيارة الرئيس التشادي إدريس ديبي إسرائيل في27 أيلول 2018، والتي وصفها الإعلام الإسرائيلي بـ «التاريخية»، فضلاً عن أنها كشفت العلاقات خلف الكواليس بين تل أبيب وتشاد التي كانت قد قطعت علاقتها مع إسرائيل في عام 1972، واستمرت حوالى 40 عاماً.
تشاد التي تتميز بموقع استراتيجي في قلب أفريقيا، قرب ليبيا والسودان، هي ذات أغلبية مسلمة أيضاً، وهذا الأمر سيمنح إسرائيل وفقاً لصحيفة «إسرائيل اليوم»، «شرعية متعاظمة لعلاقات تل أبيب مع دول عربية سنّية»، أما أوجه الإفادة الأخرى التي ستعمل إسرائيل على استغلالها، فتنبع من كون تشاد رئيسة مفوضية الاتحاد الأفريقي، وهذا المنصب سيمنحها بالتأكيد قوة سياسة كفيلة بأن تساعد إسرائيل على أن تُقبل من جديد في المنظمة كعضو مراقب، بعدما كانت حصلت على وضعية «عضو مراقب» في منظمة الوحدة الأفريقية، وتمتعت بهذا الوضع حتى عام 2002، قبل أن تُحلّ المنظمة وتُستبدل بالاتحاد الأفريقي كإطار ناظم للعلاقات الإقليمية الأفريقية.
إضافة إلى المصالح الاقتصادية والتجارية، تهدف إسرائيل من خلال تغلغلها المتسارع في أفريقيا إلى قطع الطريق على طهران وبتر «أذرعها العسكرية»


أسئلة كثيرة طرحت عن سبب الاحتفاء الإسرائيلي بديبي، أشهر قليلة وحُلّ اللغز، في 20 كانون الثاني الماضي حطّ نتنياهو في العاصمة التشادية انجامينا، واستقبله الرئيس ديبي، فيما الطبق الأساس على طاولة المباحثات، كان بحث سبل انضمام إسرائيل إلى مقر القيادة الأميركية في أفريقيا «أفريكا كوماند» والتي تضم فرنسا وخمسة بلدان أفريقية هي: بوركينافاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد، وذلك بهدف بناء مجموعة قوات خاصة عابرة للحدود يطلق عليها اسم «جي ـــــ 5» لمحاربة «الإرهاب الإسلامي»، وهو مصطلح متعارف عليه عالمياً يحمل تفسيرات وتأويلات كثيرة، ويستخدم كسلاح وورقة ترفع بوجه حركات المقاومة ضد إسرائيل، ساعة تدعو الحاجة لذلك، كما حصل مؤخراً مع بريطانيا التي صنفت حزب الله «منظمة إرهابية».
تمّ تدشين المجموعة لأول مرة في 27 كانون الثاني 2017، في دولة مالي بمساعدة فرنسية ـــ أميركية، وذلك لتمكين أعضاء المجموعة الأفارقة من تولّي مسؤولية أمنهم في منطقة الساحل التي تمتد إلى مناطق بين الصحراء الكبرى شمالاً إلى مناطق السافانا السودانية شمالاً، وتطوّق القارة الأفريقية من الأطلسي غرباً إلى البحر الأحمر شرقاً.
يبلغ عدد قوات «مجموعة الخمسة» نحو 5 آلاف مقاتل يتوزعون على سبع كتائب تنتشر في ثلاث مناطق في الغرب والوسط والشرق، ويجري العمل على نشر لواء في شمال مالي بحيث تؤمّن هذه القوات شريطاً بطول 50 كلم على كل جانب من حدود الدول الأعضاء، ويتولى رئيس مجموعة الخمسة الشأن السياسي للمجموعة بينما يتولى وزراء دفاع دول المجموعة الشأن الاستراتيجي.
يقع مقر قيادة المجموعة في مدينة سافارا بمالي، ويتم التخطيط لإقامة ثلاثة مقرات قيادة، واحد على المثلث الحدودي لمالي وبوركينافاسو والنيجر، واثنان في طور التشييد، وتعتبر تشاد أكبر المساهمين في المجموعة، حيث أبرم رئيسها الذي عبّر عن رضاه على أدائها (أي المجموعة)، خلال زيارة نتنياهو، مجموعة اتفاقيات اقتصادية وعسكرية، تقدم بموجبها تل أبيب الدعم الاستخباراتي والعسكري لمجموعة الخمسة مقابل زيادة العلاقات التجارية، كما وعد الرئيس ديبي بالتوسط بين إسرائيل ودول مجموعة الخمسة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
وبموجب تلك الاتفاقيات، التزم الجيش الإسرائيلي وجهازا «شين بيت» و«الموساد» بتقديم خبراتهم في المجالات التالية:
1 ــ تأسيس وتشغيل قوة مجموعة دول الساحل الخمسة.
2 ـــ تشكيل شعبة للاستخبارات وتدريب عناصرها.
3 ـــ التدريب على تكتيكات مكافحة الإرهاب.
4 ــ إنشاء ذراع سلاح جوي مؤلفة من طائرات استطلاع غير مأهولة لجمع المعلومات الاستخباراتية وشـن الهجمات الصاروخية على تجمعات «الإرهابيين».
5 ــ تشييد جدار لجمهورية تشاد كالذي بنته إسرائيل للمغرب في الصحراء الغربية في عام 1975، يمتد عبر الحدود الليبية ــ التشادية بعمق 100 كم
ووفقاً للاتفاقية، يلتزم الخبراء وعناصر الاستخبارات الإسرائيليون بتعقب ومحاربة ثلاث جماعات هي: «بوكو حرام»، وتنظيما «القاعدة في المغرب»، و«داعش»، وتزويد دول المجموعة بالسلاح والمنظومات الاستخبارية لهذه الغاية.
هذا في العلن، أما على أرض الواقع فالتاريخ الإسرائيلي يحفل بالوقائع التي تثبت أن مصالح تل أبيب فوق أي اعتبار، إذ إنها لم تتورع في الماضي عن دعم الفصائل العسكرية في جنوب السودان وفي الكونغو والجماعات الإرهابية في سوريا، باعتراف أجهزة استخبارية عالمية، لذا فمن غير المستبعد أن تعيد الكرّة نفسها في القارة السمراء وتلجأ إلى فتح قنوات اتصال وتوطد علاقاتها مع الجماعات المذكورة في الاتفاقية أعلاه، تمهيداً لاستخدامها لاحقاً ضد الوجود الإيراني في القارة، واستهداف البيئة الشيعية في أفريقيا للضغط على «حزب الله» من خلالها.
كما أن هناك جملة أسباب تعزز الانفتاح الإسرائيلي على تشاد وفقاً لتقارير استخبارتية إسرائيلية، أوّلها وقف التمدد الإيراني في القارة الأفريقية، وثانيها كبح الدعم الأفريقي التقليدي للفلسطينيين، والتصويت لصالحهم في المنتديات الدولية، وثالثها تقصير مدة الطيران من تل أبيب إلى أميركا اللاتينية من خلال اتّباع خط الطيران عبر مثلث الحدود بين السودان وتشاد وليبيا.
بعد التمعن قليلاً في بنود الاتفاقية، يبدو جلياً أنه، إضافة إلى المصالح الاقتصادية والتجارية، تهدف إسرائيل من خلال تغلغلها المتسارع في أفريقيا إلى قطع الطريق على طهران وخنقها، والعمل على بتر ما تصفه تل أبيب وواشنطن بـ«أذرعها العسكرية»، وتجفيف منابعها المالية لا سيما المقاومة في لبنان التي تعتبر وفقاً للمراكز البحثية الأميركية التهديد الأكبر والأخطر على الكيان الصهيوني.
أكثر من ذلك يرى القادة الأمنيون أن إسرائيل بإمكانها الاستفادة استخبارياً، من الدور الذي تقوم به تشاد في قوات حفظ السلام في أفريقيا، ومن مشاركتها في النشاط العسكري ضد المنظمات الإسلامية (التي لم تحددها إسرائيل)، معتبرين أن «هذا التقارب (بين إسرائيل وتشاد) كفيل بأن يساهم في تقليص النفوذ والوجود الإيراني في القارة».
أقوال القادة الأمنيين تقاطعت مع ما ذكره تقرير تلفزيوني إسرائيلي وفقاً لموقع «تايمز أوف إسرائيل» عن أن «قوات كوماندوس تابعة للجيش الإسرائيلي تقوم بتدريب قوات محلية في أكثر من 12 بلداً أفريقياً، كجزء من استراتيجية إسرائيلية أوسع لتعزيز العلاقات الدبلوماسية في القارة».

التدريبات الإسرائيلية
ما يستحق التوقف عنده، هو إشارة التقرير إلى «فائدة محتملة أخرى لإسرائيل من هذا التعاون والتي تأتي من حقيقة أن الكثير من البلدان التي يتم تدريبها تشارك في مهام حفظ سلام على الحدود الإسرائيلية في سوريا ولبنان»، إذ قال التقرير: «إن ذلك سيعود بالفائدة على إسرائيل، إذا تمت قيادة هذه القوات من قبل جنود دربتهم إسرائيل».
فالاستخبارات الإسرائيلية، التي تخوض حرباً أمنية ضروساً مع «حزب الله» في لبنان والعديد من الدول، لطالما اهتمّت بالنشاط اللبناني التجاري والمالي في أفريقيا، وتزعم أن للجالية اللبنانية في أفريقيا دوراً في دعم حزب الله ماليّاً. وقد أنشأت إسرائيل عدة مؤسسات استثمارية لمنافسة اللبنانيين وخصوصاً في ساحل العاج، كما أقامت شركات للحراسة والأمن لجمع قاعدة بيانات عن رجالات حزب الله في البلد، وخريطة انتشارهم ومستوى تأثيرهم الاقتصادي. وتتولى شركة فيزيوول ديفنس الإسرائيلية-الكندية تأمين مطار فليكس هوفيت بوني الدولي في العاصمة الاقتصادية أبيدجان، وكذلك تأمين ميناء أبيدجان المستقل؛ ما يعني أن حركة الأفراد والواردات والصادرات الاقتصادية للبلد خاضعة للرقابة الإسرائيلية.
وفي الوقت ذاته، تراقب إسرائيل النفوذ الإيراني في أفريقيا وتواجهه، إذ من المعلوم أن لإيران علاقة خاصة بجنوب أفريقيا. إذ وقفت طهران بقوة إلى جانب حزب المؤتمر الأفريقي في نضاله ضد الأبارتايد. زد على ذلك أن الاهتمام الإسرائيلي بالجاليات اللبنانية في أفريقيا، مردّه إلى أن إسرائيل باتت مقتنعة بأن حزب الله يقوم من خلال شبكات مالية وتجارية في أفريقيا بعمليات جمع أموال ضخمة من «اللبنانيين الأفارقة»، من هذا المنطلق تتحرك تل أبيب لوقف هذه الأنشطة، استناداً الى دعم ومساعدة أميركية واضحة وفعالة في هذا المسعى، حيث لم تكتف واشنطن باتهام البنك اللبناني الكندي فحسب بل ضغطت من أجل إغلاق العديد من البنوك اللبنانية في بنين وفي غانا وليبيريا وسيراليون.
وأمام هذه المعطيات، يبقى السؤال، هل تجهّز إسرائيل فرقاً عسكرية قائمة متخفية بثوب جنود أمميين أو «حفظ سلام»، لتتولى مهام التجسس ومراقبة عناصر المقاومة وربما القيام بمهام التخريب في الداخل اللبناني، ثم تمكينها عند عودتها لوطنها الأم من السيطرة على مناصب ومواقع عسكرية أو أمنية في بلادها لتكون الأداة الإسرائيلية غير المباشرة لمحاربة وعزل إيران ومعها «حزب الله»؟
* كاتب لبناني