تطرح مسألة توجيه رئيس الجمهورية رسالة إلى مجلس النواب عملاً بالصلاحية المحفوظة له في الفقرة العاشرة من المادة 53 من الدستور معضلة نظرية خطيرة تتعلق بصلاحية مجلس النواب بوصفه السلطة التشريعية في تفسير الدستور. وبغضّ النظر عن تفسير المادة 95 من الدستور والتأويلات المختلفة التي باتت السلطة السياسية في لبنان تبرع في اجتراحها وفقاً لتقلّب الظروف السياسية، لا بدّ من الإجابة عن السؤال التالي: هل يملك مجلس النواب الصلاحية الحصرية لتفسير الدستور بحيث يمكنه فرضه كالتفسير الوحيد المقبول على سائر السلطات وأجهزة الدولة المختلفة؟نصّ اتفاق الطائف على إنشاء مجلس دستوري يتولّى تفسير الدستور ومراقبة دستورية القوانين، وقد اعترض عدد مهم من النواب خلال جلسة تعديل الدستور في 21 آب 1990 على منح المجلس الدستوري صلاحية تفسير الدستور وقد اعتبر البعض منهم أن هذه الصلاحية تعود لمجلس النواب. وبالفعل قرر المجلس تعديل النص كما ورد في وثيقة الوفاق الوطني عبر إلغاء تفسير الدستور من صلاحيات المجلس الدستوري. يظنّ البعض أن هذه الحادثة كفيلة بمنح مجلس النواب صلاحية تفسير الدستور ويرون فيها تأكيداً لمقولة «المجلس سيد نفسه» التي غالباً ما يتم تكرارها دون التدقيق بها علمياً. للإجابة عن سؤالنا لا بدّ لنا من شرح كلمة تفسير من الناحية القانونية ومعرفة ما هو المعيار الذي يسمح لنا بالتمييز بين التفسيرات المختلفة.
تنطوي الدساتير عادة على أحكام عامة تحتمل قراءات مختلفة ما يجعلها عرضة للجدل أكثر من سائر النصوص القانونية العادية. وتقوم السلطات الدستورية في معرض تطبيقها للنصّ الدستوري بتفسيره إذ يشكل هذا التطبيق شكلاً من أشكال التفسير، وذلك بغضّ النظر عن مدى صوابيته أو تجرّده عن كلّ مصلحة سياسية. فرئيس الجمهورية مثلاً عندما قام بتأجيل اجتماع مجلس النواب عملاً بالمادة 59 من الدستور برسالة وليس بمرسوم، قدّم تفسيره الخاص للدستور إذ اعتبر أن الدستور منحه صلاحية فردية يمكن له ممارستها دون الحاجة إلى إصدار مرسوم يحمل أيضاً توقيع رئيس مجلس الوزراء. كذلك عندما رفض رئيس مجلس النواب تسلّم مشاريع القوانين التي أحالتها حكومة فؤاد السنيورة عقب الأزمة الوزارية التي اندلعت سنة 2006، قام رئيس المجلس بتفسير الدستور وفقاً لقراءته الشخصية ومن ثم طبّق تفسيره كونه الجهة المسؤولة عن تسلّم مشاريع القوانين التي تحيلها الحكومة على مجلس النواب. والأمثلة تتعدّد ولا يمكن استعراضها جميعها هنا كرفض وزير ما التوقيع على مراسيم أقرّها مجلس الوزراء معتبراً أن عدم وجود مهلة دستورية للوزير تسمح له برفض التوقيع، أو رفض رئيس مجلس الوزراء دعوة مجلس الوزراء دورياً إلى الاجتماع، معتبراً أن كلمة دورياً لا تفرض عليه دعوة مجلس الوزراء بانتظام، بل إن إرادته تظل حرة طليقة بحيث يمكن له الامتناع عن الدعوة لأجل غير محدّد.
جرّاء ما تقدم يتبيّن لنا أنّ تطبيق الدستور من قِبل المؤسسات الدستورية هو شكل من أشكال التفسير التي لا تُلزم سوى الجهة التي تطبقها، كونها غالباً ما يتم انتقادها والتشكيك بها إن لم يكن رفضها بالمطلق كتفسيرات مخالفة للدستور.
لكنّ تفسير الدستور لا يقتصر على السلطات السياسية بل هو أيضاً عمل يقوم به فقهاء القانون من خلال تعليقهم على الحياة الدستورية ومراقبة تطوّرها، وهم يعرضون تفسيرهم الخاص للنصوص الدستورية وفقاً لمنهجية علميّة تختلف أو تتفق وفقاً للمدارس الفقهية التي ينتمي إليها هذا القانوني أو ذاك. في مطلق الأحوال يظلّ السؤال قائماً: هل من معيار يسمح لنا بتصنيف تلك التفاسير المختلفة بحيث نستطيع تحديد الجهة المخوّلة بتقديم التفسير الصحيح للدستور، ذلك في حال افترضنا أن وجود تفسير كهذا هو أمر ممكن.
للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ لنا من العودة إلى العالم الكبير هانس كلسن الذي تشكل كتاباته حول نظرية القانون، المرجع الفكري حول بنية النظام القانوني وعلاقة النصوص القانونية فيما بينها. يميّز كلسن بين التفسير العلمي (interprétation scientifique) والتفسير الأصلي (interprétation authentique). فالتفسير العلمي أو الفقهي هو التفسير الذي يصدر عن فرد أو جهة معيّنة لكنه بغضّ النظر عن قيمته العلمية غير ملزم. أما التفسير الأصلي فهو التفسير الذي يصدر عن جهة خوّلها القانون تفسير النص. فالمحاكم مثلاً في معرض تطبيقها للقوانين تقوم بتفسيرها وهي تستطيع فرض هذا التفسير بصرف النظر عن مضمونه. فالتفسير الأصلي لا يكترث بالمضمون بل هو فقط ينظر إلى الجهة التي تبنّته وهل هي مخولة قانوناً لفعل ذلك. فالنص الذي جرى تفسيره بشكل أصلي لا يمكن له أن يحتمل أي تفسير مغاير للتفسير الذي صدر عن الجهة المخوّلة قانوناً بذلك، حتى لو جاء هذا التفسير غريباً جداً أو كان مخالفاً لرأي غالبية فقهاء القانون. فالتفسير الأصلي ينتج مفاعيل قانونية بينما التفسير العلمي لا مفاعيل قانونية له. فهل تفسير مجلس النواب للدستور هو تفسير علمي أو أصلي؟ هذا هو السؤال الحقيقي الذي ينبغي علينا الإجابة عليه.
إن المبدأ الذي يحكم تفسير النصوص القانونية يتم التعبير عنه بالتالي: «Eius est interpretari legum cuius est condere» أي إن السلطة التي تصدر القانون هي المخوّلة بتفسيره. فمن الطبيعي والمنطقي أن يتولى مجلس النواب تفسير القوانين التي يصدرها وكي يصبح تفسيره ملزماً عليه أن يقوم بالتفسير عبر التصويت على قانون جديد يشرح القانون المبهم. وبما أن كل تفسير هو شكل من أشكل التعديل المبطن كان لا بد أن يصدر التفسير بالطريقة ذاتها التي يصدر بها التعديل. لذلك يُعتبر تفسير الدستور نوعاً من التعديل وذلك في حال أردنا أن يصبح هذا التفسير ملزِماً للجميع. وبالتالي فإن الجهة التي يحقّ لها تفسير الدستور ليست إلا الجهة المخوّلة بتعديله، وهي في لبنان وفقاً للقسم «ب» من الباب الثالث من الدستور مجلس النواب، لكن ليس كسلطة تشريعية بل بوصفه السلطة التأسيسية المتفرّعة التي يحقّ لها تعديل الدستور وفقاً لشروط تختلف لجهة النصاب والتصويت واقتراح التعديل عن الشروط المفروضة من أجل إقرار وتعديل القوانين العادية. فلو كان من الممكن أن يقوم مجلس النواب وفقاً لصلاحياته التشريعية العادية بتفسير الدستور، لكان ذلك يعني أنه يستطيع تفسيره بغالبية عادية ونصاب عادي دون احترام الشروط المشددة التي يفرضها الدستور من أجل تعديله، ما يخل بمبدأ سمو الدستور الذي يُعتبر حجز الزاوية في كلّ النظام القانوني القائم في لبنان.

تفسير أصلي وتفسير علمي
لذلك عندما يجتمع مجلس النواب لتفسير المادة 95 من الدستور فهو لا يقوم بتفسير أصلي كون الدستور لا يخوّله هذه الصلاحية، بل هو يقوم بتفسير علمي غير ملزم كون تفسيره هذا لا وجود له خارج محضر الجلسة التي تم عقدها والمحاكم على اختلافها غير ملزمة قانوناً بما تم إقراره في مجلس النواب.
لقد منح الدستور في المادة 19 منه صلاحية مراقبة دستورية القوانين للمجلس الدستوري ما يعني أنه منحه حكماً صلاحية تفسير الدستور في معرض رقابته حتى لو تم شطب هذه العبارة سنة 1990. وهذا يعني أن المجلس الدستوري هو الجهة المخولة لتقديم التفسير الأصلي للدستور، علماً أن هذا التفسير ليس صلاحية اعتباطية كون المجلس الدستوري ملزماً أولاً بتعليل قراراته، والأهم ثانياً أن تلك الرقابة لا يمكن ممارستها إلا على القوانين، بينما كل الأعمال الأخرى التي تصدر عن السلطات الدستورية لا تخضع لرقابته ما يجعل كل تطبيق للدستور لا يصدر بقانون صريح خارجاً عن صلاحية المجلس الدستوري. وهنا أيضاً تتجلى بوضوح نظرية التفسير الأصلي، فلو فرضنا أن مجلس النواب قرر تفسير الدستور لكن ليس فقط عبر مجرد نقاش عام في مجلس النواب بل أيضاً من خلال إقرار قانون يفرض تفسيراً معيناً للدستور، فإن هذا القانون يمكن الطعن به أمام الجلس الدستوري الذي سيتولّى حينها «تفسير التفسير» أي مراقبة هل هذا القانون هو مخالف للدستور.
وفي الجلسة ذاتها التي تمّ فيها إقرار تعديلات اتفاق الطائف صرّح أكثر من نائب أن تفسير الدستور يجب أن يتم بقانون دستوري، كاعتبار وزير العدل «أن كلمة تفسير الدستور هي كلمة تقنية تفرض أن يكون هناك قانون دستوري». وأيضاً أعلن النائب البير منصور التالي: «إما أن يكون تفسير الدستور له أصول خاصة كتعديل الدستور ويعود هذا الأمر للمجلس النيابي. وإما أن يكون تفسير الدستور أمراً عادياً كقانون عادي، عندها للمجلس الدستوري حق مراقبة هذا التفسير».
إن اعتبار مجلس النواب بغالبيته العادية الجهة المخوّلة بتفسير الدستور له نتائج خطيرة جداً كونه يسمح لغالبية الحضور بتقديم تفسيرات تختلف وفقاً لتقلّب المصالح والأهواء، بحيث يصبح الدستور خاضعا كلّياً لنظام التوافق السياسي القائم في لبنان ما يجرّده من حصانته الفعلية ويعزز سلطة الطبقة الحاكمة. فلمجلس النواب أن يناقش ويعطي التفسير الذي يشاء للدستور، لكن هذا لا يعني أنه الجهة الوحيدة والحصرية المخولة بإعطاء التفسير الأصلي الملزم للدستور.
* أستاذ الأعمال التطبيقية للقانون الدستوري في الجامعة اليسوعية