إنّ الجريمة الأكبر التي يتمّ اقترافها أمام الحدث الكارثي الذّي ألمّ بلبنان مطلع هذا الأسبوع من حرائق طالت مساحات حرجيّة واسعة هي إضافتها إلى سيناريو «استثنائيّة لبنان» وسلخها عن الكوارث الطبيعيّة العالميّة التي تحدث بسبب التغيّر المناخيّ، إذ لام أغلب المعلّقين والمعلّقات على الحدث (ولهم/نّ الحقّ الكامل بذلك) الطبقة السياسية الفاسدة التي لم تموّل مشاريع مراقبة الأحراج وحمايتها أو صيانة طائرات الـ«سكورسكي»، أو لم تعلن حالة الطوارئ للحدّ من استشراء النيران. كلّها مطالبات محقّة، لا بل ضروريّة، لكنها لا تكفي. إنّ النيران التي التهمت أشجارنا هذا الأسبوع ليست خطأً فجائيّاً أو حدثاً استثنائيّاً، إنّها النتيجة «الطبيعيّة» لعقود من الانتهاكات البيئيّة في لبنان (كسّارات، تلوّث أنهار، تلوّث هواء، صيد عشوائيّ...) ومستمّرة (كمشروع سدّ بسري مثلاً) وهي أيضاً نتيجةٌ طبيعيّة للسياسات العالميّة في التوسّع الرأسماليّ والجشع في استغلال الموارد البيئيّة ونهبها، كما أنّها نتيجة طبيعيّة للأنتولوجيا الشائعة القائلة بتفوّق الجنس البشريّ على غيره من شركائه على هذا الكوكب، والتي تعلّمنا أنّ حياتنا أثمن من حياة أيّ نبتةٍ أو حيوانٍ آخر. من الجيّد أن تُسهم الحرائق في لبنان في زيادة نقطة ماء إلى كيل صبرنا على فساد حكّامنا علّه يطوف، لكن من الخطير أن لا ننظر أبعد من أنفنا وأن نتعامل بآنيّةٍ واهيةٍ معها. حرائق لبنان هذه السنة ليست استثنائيّة، وللأسف لن تكون كذلك، قد تتجدّد العام المقبل والعام الذي يليه، وستزيد قسوتها ومساحات امتدادها عاماً بعد عام، لأنّ الاحتباس الحراريّ حقيقةٌ عالميّة تلهينا عوالمنا الضيّقة عن الإلمام بها. حرائق لبنان ليست منفصلةً عن حرائق غابات الأمازون المؤلمة التي وقعت في آب الماضي، ولا عن حرائق ولاية كاليفورنيا هذا العام أيضاً، والتعاطي معها على أنها كذلك سيشلّنا عن القيام بأيّ تغيير حقيقي.
ليست الدولة اللبنانيّة فقط من يجب أن يُجرّم، بل الكثير من المعتقدات التي نحملها أيضاً عن هذا الكوكب


تتزايد حرائق الغابات الهائلة حول العالم في حدّتها وتواترها بسبب ازدياد حرارة الأرض، إذ إنّ العديد من الدراسات توقّعت أنّ كلّ ارتفاع بمعدّل درجة مئويّة واحدة سيزيد مساحة الغابات المحروقة بنسبة 600% ! ومنذ عام 1880، ارتفعت حرارة الأرض 0.8 درجة مئويّة بحسب مرصد ناسا الأرضيّ. ومن هنا شهدت مناطق مثل أستراليا، إندونيسيا، أميركا الشماليّة الوسطى والجنوبيّة، أوروبا الغربيّة، حرائق غابات مهولة في السنوات الأخيرة. مع تزايد حرارة الأرض، أيّام الصيف أصبحت أكثر حرّاً، وموجات الحرّ أكثر طولاً وأكثر تكرّراً وأنماط هطول الأنماط أكثر عشوائيّةً. يُساعد هذا الجفاف على جعل الغابات عرضةً لغزو الحشرات التي تضعف الأشجار وتجعلها أكثر عرضةً للاشتعال. كذلك فإنّ التغيّر المناخيّ يسبّب عقم التربة، ما يصعّب عليها التعافي السريع بعد الحرائق. كما تزيد الحرائق في نسب ثاني أوكسيد الكربون في الهواء، ما يُفاقم الاحتباس الحراريّ في حلقةٍ من التغذية الراجعة.
وعلى الرغم من أنّ أغلب الحرائق سببها الإنسان (فمثلاً 80% من الحرائق في الولايات المتّحدة سببها بشريّ)، لكنّ التغيّر المناخيّ، أي زيادة حرارة الكوكب وجفافه، يجعلها تمتدّ بشكلٍ كارثيّ. إذاً، حتّى لو تبيّن أنّ حرائق لبنان مفتعلة، إلّا أنّ التغيّر المناخي يجعل السيطرة عليها شبه مستحيل.
إنّ التوقّعات المستقبليّة محبطة. فبحلول منتصف القرن الحاليّ، أي بعد حوالى ثلاثين سنة، قد تزيد رقعة المناطق التي تطالها الحرائق بمعدّل ستّ مرّات ممّا هي عليه حاليّاً. كذلك فإنّ التغيّر المناخيّ سيؤثّر في نموّ الكثير من الأشجار ورقع انتشارها (شجر الأرز اللبنانيّ مهدّد بالانقراض مثلاً، لأنّ نموّه في المناطق المنخفضة سيصبح أصعب بسبب موجات الحرّ).
هذه المرّة، ليست الدولة اللبنانيّة فقط من يجب أن يُجرّم، بل الكثير من المعتقدات التي نحملها أيضاً عن هذا الكوكب. فالسياسات اليمينيّة المتطرفة، والجشع الرأسمالي، وأنماط استهلاكنا غير المدروسة، وغرورنا البشع الذي يوهمنا بأننا أكثر استحقاقاً من الكائنات الأخرى للعيش، كلّها يجب أن تُحاكم أمام خسارةٍ مُفجعة كهذه وأمام دراساتٍ تؤكّد أنّ المستقبل لن يكون أرحم.
كما عرّت النيران الأشجار من ورقها، عرّتنا من ورق التين الذي نخفي فيه عنجهيّتنا كبشر على باقي المخلوقات. في لبنان كما في كلّ العالم، الإنسان يبقى الكائن الأكثر تكبّراً أمام شركائه على الكرة الأرضيّة. الأحداث البيئيّة كهذه، على رغم كارثيّتها أو بسببها، هي دعوةٌ مهمّة لأن نراجع أنتولوجيّاتنا كبشر. هل حياتنا أثمن فعلاً من حياة الشجرة التي قُتلت في لبنان يوم الثلاثاء؟

* طالبة ماجستير في الأنتروبولوجيا
في الجامعة الأميركيّة في بيروت