ثورة أكتوبر اللبنانية أو الحركات الشعبية أو الانتفاضات الملوّنة ــ وأنا أفضل العامية اللبنانية الجديدة تيمناً بعاميات لبنان في القرن التاسع العشر ــ كلّها أسماء متعدّدة لحالة شعبية غير مسبوقة، عابرة للمناطق والطوائف والأحزاب والأعمار، تُعبّر بأشكال مبتكرة وجريئة عن رفض الناس لنظام وحكم فقد قدرته على إيجاد الحلول السياسية والاقتصادية، وإقناعه جمهوره الذي يعاني الفقر والحرمان والإهانة. ويتطلّب ذلك أولاً دراسة ميدانية من أصحاب الاختصاص لمعرفة الواقع وتداعياته وتعقيداته ومآلاته.بداية، نحن أمام حدث في حالة الصيرورة لم يتوضّح بعد، ولم يكتمل، وهو لامركزي متعدّد الساحات والمكوّنات، طابعه اجتماعي مطلبي معرّض للتوظيف والاستغلال السياسي، فضح أزمة النظام والحكومة، وأسقط التفاهمات السائدة، وفجّر التناقضات بين أهل السلطة، وأعاد الاعتبار إلى دور الناس، وفرض أسئلته وشكّل تحدياً، وأظهر عجز الشبكة الحاكمة عن اتخاذ قرار موحّد وإيجاد حلول جدية مقنعة. كما دعا قوى التغيير إلى بلورة وعي جديد للإنقاذ. هذه الحالة تستدعي من قوى السلطة والجماهير إجراء نقد ذاتي لتجربتهما حتى لا تنجر البلاد إلى الفوضى والفتنة، كما انتهت العاميات الفلاحية بفتنة 1860، وحتى لا تضيع الفرصة بإجراء إصلاح جذري أو تغيير سلمي منشود.
الإرباك والتناقض هما السمَتان اللتان طبعتا معظم الفئات رغم تباين مواقعها. سأتوقف في هذه المقالة عند دور حزب الله وقوى التغيير بشكل خاص، والقوى التي أظهرت استعداداً للتفكير والنقد والمسؤولية. برغم الصعوبات والتحديات، تمكّن حزب الله من ترصيد خبرات وتجارب، وفرض حقائق جديدة على الأرض، هي مكامن قوة ومواطن ضعف. جرت محاولات لعزل حزب الله داخل شرنقة طائفة ومنطقة محددة، عبر أسره في منطق مبدئي مغلق من الشمولية والجمود. هذه الحالة قد تلتقي مع نمط عمل ومفاهيم داخل الحزب نفسه، يسعى إلى عزله عبر تخويفه من الاختراق الأمني والتسلّل المخابراتي إلى عقر داره. برغم هذا الحرص حصلت خروق محدودة ومؤذية. حاول حزب الله ألا ينعزل داخل الطائفة الشيعية، فكان تفاهمه مع التيار الوطني الحر وشبكة التحالفات مع الأحزاب والقوى والتيارات والشخصيات، عبر توليف أُطرٍ سياسية، عُرفت سابقاً بفريق «8 آذار» بالإضافة إلى «سرايا المقاومة» ولقاء الأحزاب والقوى الوطنية. صيَغٌ ما زالت تفتقر إلى البرنامج الإصلاحي الوطني والإدارة المشتركة الفعّالة. فحزب الله بدا وكأنه يفضل التعامل مع هذه القوى مرة بالجملة، ومراراً بالمفرَّق.
أما محاولات حصره في الجنوب وداخل شريط محدّد وقرى معيّنة، تحت لافتة مقاومة العدو الإسرائيلي، فقد خرج منها حزب الله عبر تفعيل وجوده وتحالفاته في مختلف المناطق والجهات اللبنانية الأربع. علماً بأن معرفته بطبيعة هذه المناطق محدودة، وبعض رجالاته تنقصهم خبرة في التعاون الفعّال مع جهات وأفراد من خارج وسطه.
ولكي لا يتورط حزب الله في «لبننة» تفقده عمقه العربي والإسلامي والعالمي، اندفع إلى طرح معادلة تجمع بين أولوية مهامه للتحرير الوطني اللبناني (مزارع شبعا، ترسيم الحدود، الأسرى اللبنانيون، النفط والمياه)، من دون أن يتنكّر لدعمه للمسائل العادلة على الصعيد القومي والإسلامي، لا سيما في فلسطين وسوريا والعراق. وهذا ما دفع حزب الله، أخيراً، إلى طرح معادلة جديدة لتحرير الجليل في فلسطين المحتلّة والجولان السليب، فضلاً عن دوره الفاعل والمميز ضد قوى التكفير في سوريا. لكن برغم هذه الحقائق لم يتمكّن حزب الله، حتى الآن، من مواكبتها بالوعي والفكر والإعلام.
من وسائل عزل حزب الله «تخصيص» نضاله في مسألة تحرير الجنوب وابتعاده عن تحرير النظام من الفساد والطائفية


من وسائل عزل حزب الله، أيضاً، «تخصيص» نضاله في مسألة تحرير الجنوب وابتعاده عن تحرير النظام من الفساد والطائفية والمحاصصة والهيمنة، وذلك من خلال مشاركته في الحكم عبر مجلس النواب والحكومة وتطبيع أداء وزرائه في ظل طبقة سياسية فاسدة وعاجزة. قَرَن حزب الله نضاله في المقاومة، مع حراكه في المشاركة السياسية، لكن هذا البعد ما زال خجولاً وأسير توازنات داخلية. ودلّت تجربته في الحكم على تردّدٍ أحياناً و«تعقّل» مفرط أحياناً أخرى، و«قلّة حنكة» على الطريقة اللبنانية في أحيان كثيرة. لقد نجح في مواجهة إسرائيل، وكان أقل نجاحاً في محاربة الفساد واستبداد أهل الحكم والنظام، مع أنه يبرّر إرباكه بتخوفه وحذره من شبح الفتنة التي يضرمها أخصامه لحرقه وإلهائه.
ومن الفخاخ الصعبة، كيفية تعامل حزب الله مع التركيبة اللبنانية والأوضاع العامة، فبات البعض من داخل صفوفه وبعض أخصامه يعتقد بأن الحزب فقد شيئاً من مثاليته وأخلاقياته التي تميز بها في مقاومته العدو الإسرائيلي، بينما لم يكن بارعاً في مقارعته أخصامه في الداخل اللبناني، لأنهم أكثر «دهاءً» وأقدر على المناورة والتكتيك والإعلام اليومي. كذلك، اختار حزب الله، أو اضطر إلى التعاون مع حلفاء، البعض منهم غارق في الفساد والعجز والانتهازية.
أمام هذه التحديات، هل يقدر حزب الله على تجاوز العقبات والفخاخ والمآزق؟ هل يستفيد من تجربة «منظمة التحرير الفلسطينية» و«الأجهزة الأمنية السورية» و«الحركة الوطنية اللبنانية»، في انخراطها في الفسيفساء اللبنانية حتى الغرق في تلوثها؟
يقول السيد حسن نصرالله إن «قوة المقاومة في موضوع التوازن الناري منطلقة من سريتها. وهي منطلقة من كونها حالة مغلقة ومقفلة». وهذا صحيح لأن العدو الإسرائيلي يجهل هذه القوة. ولكن الصحيح أيضاً أن هذه «القوة المقفلة» هي نقطة ضعفه، إذا تحولت المقاومة إلى «طائفة مغلقة» أو منطقة معزولة، يسهل جرها إلى مستنقع الحروب الأهلية والفِتن الداخلية.
التحدي الكبير هو: كيف تحافظ المقاومة على «القوة المقفلة» ضد إسرائيل، في ظل تجذّر نظام طائفي ومجتمع طائفي وجمهور طائفي؟ الحالة الطائفية لا تولِّد إلا حروباً أهلية، وفتناً وانقسامات دائمة. المقاومة المدنية، ضرورة لمواجهة مشروع الهيمنة الأميركية ــ الإسرائيلية على منطقة هي على مفترق طرق الأزمات وساحة الصراعات، حيث مخططات التقسيم والتجزئة.
إلى أي مدى تقدر «القوة المقفلة» للمقاومة، على مواجهة إغراءات مكاسب ومحاصصات السلطة الحاكمة، ولبنان ليس وطناً جميلاً فقط، هو نظام أمني/ طائفي/ فاسد، ومائدة مكاسب؟ كيف يتمّ تجاوز المنافسة بين المقاومة والدولة، ما دامت المقاومة إسلامية والدولة طائفية؟ هل التنسيق ممكن من دون تغيير بنية السلطة الطائفية واستراتيجية المقاومة؟ هل يستطيع «حزب الله» أن يتحوّل إلى حركة مقاومة مدنية شاملة، من أجل بناء مجتمع مقاوم وحرّ من خلال شبكة أمان عابرة لمختلف الفئات والاتجاهات والطوائف اللبنانية؟ أم سيضطر إلى العزلة، فيخسر طليعيته وريادته، كما حصل سابقاً مع الحركات القومية واليسارية؟
المبتدأ من إعادة النظر في التحالفات القائمة على أساس الطائفة والمنفعة والتبعية. خوفاً من الفتنة، تحالف حزب الله مع حركات إسلامية سنية تحت عنوان «الصحوة الإسلامية»، وسرعان ما انكشف بعضها بانتهازيته وتكتيكه. فما إن تراءى لها إمكان تغيّر موازين القوى، حتى انقلبت وتبدّلت وتحوّلت. ومن أجل توسيع شبكة تواصله، دعم حزب الله شخصيات ودكاكين والته على قاعدة المنفعة والارتزاق المالي والخدماتي والتشبيح المحلّي. ومن أجل إرضاء بعض الأحزاب والتنظيمات، دعم حزب الله قيادات ووجهاء ومتزعمين ضعفاء فتبعوه ليستقووا به على جماعتهم. فشلت إسرائيل في إلغاء حزب الله من الخارج، لذا تجري محاولات من الداخل من أجل تطويقه بالفتن والعزلة، وتل أبيب تدعم الفوضى والعقوبات الأميركية وتترقّب. هل حزب الله في مأزق؟ أم أن المقاومة قادرة ــ بما تملك من تجربة ورؤية ــ على الاستجابة للتحديات وتجاوز الأزمات؟
للأسف، نحن نعيش في وطن بطابقين: واحد للمجتمع وآخر للسلطة، والمقاومة في حيرة بينهما: من جهة، هي في تسوية سياسية مع أهل الحكم. ومن جهة أخرى، تتطلّع إلى شارع المحرومين الذي خرجت منه. لكن على قاعدة وحدة المجتمع، يمكن وضع خطة وطنية للمقاومة والتغيير. الوطن اليوم منزِلٌ بغرف مقفلة. المقيمون فيه يتجاورون ولا يتفاعلون ولا يتضامنون، يتساكنون جنباً إلى جنب ولا يتفاعل بعضهم مع بعض على امتداد دورة الحياة في المجتمع الواحد.

برغم الصعوبات والتحديات تمكن حزب الله من ترصيد خبرات وتجارب وفرض حقائق جديدة على الأرض هي مكامن قوة ومواطن ضعف


للمقاومة قوتان: «قوة مقفلة» لمواجهة العدو، و«قوة منفتحة» لمواجهة النظام الطائفي التقسيمي الفاشل. قوة المقاومة من إرادة التحرير (وهي «قوة مغلقة» لضرورة سرية النضال)، ومن فعل الحرية (وهي «قوة منفتحة» متفاعلة لضرورة وحدة المجتمع). الأولى، عبّر عنها حزب الله بنجاح، أما الثانية فتنتظر ولادة جديدة واعدة بمبادرة من حزب الله والحركات الملتزمة بالتحرير والإصلاح معاً، لحشد القوى الحية، من أجل مقاومة العدو الإسرائيلي، ومقاومة الفساد والعدو الطائفي.
يُواجه حزب الله حرباً أمنية من قبل إسرائيل، وحرباً ناعمة من قبل الولايات المتحدة، وذلك بهدف الضغط على بيئته ومجتمعه لتطويقه وإرباكه وإثارة التناقضات والنزاعات الداخلية. لقد جرّب حزب الله التسوية السياسية في الحكم فانقلبت عليه، وهي تحاول الآن جرّه إلى المواجهة مع الجماهير الغاضبة في الساحات. فهل يجرّب حزب الله الحوار مع القوى الحيّة في المجتمع، من أجل عقد مؤتمر وطني يُؤسّس لجمهورية جديدة ودولة مدنية مقاومة؟
برزت في المدة الأخيرة مواقف مختلفة من منظمات المجتمع المدني NGO، وحاول البعض دفعها إلى التناقض مع حزب الله، مع العلم أن فعلها هو نتيجة لغياب الأحزاب والنقابات والبلديات والأندية الثقافية الاجتماعية، من دون تجاهل الجمعيات الأهلية الطائفية والخاصة التابعة لرجال الأعمال والسياسة. معظم هذه التنظيمات التقليدية فقدت حداثتها، فخطابها تقليدي، وأسلوبها بائد، بينما هيئات المجتمع المدني الحديث أصبحت أكثر حركية، تتميّز بحضور الشباب وإعلام بديل مبتكر ومتابعة مسائل حياتية معاصرة. وبالتالي، لا يمكن معرفة المشهد السياسي خارج فهم هذه التحولات وتطوير الخطاب والأسلوب والأدوات. الفعّالية السياسية لم تعد محصورة بمضمون المشروع، لأن الإعلام والتسويق وإبداع الوسائل، أصبحت كلها مؤثرة وفاعلة أكثر. وعلى هذا الأساس، يجب العمل من أجل ردم الهوة بين حزب الله والمجتمع المدني الواسع.
في زمن الصراع الوجودي المصيري، يستمرّ الوعي والالتزام الاستراتيجي أكثر، وهما أمتن وأصدق من الرابطة الطائفية النفعية ومن المكاسب الآنية العابرة. الحقائق التي فرضها حزب الله على الأرض، تفتح الباب أمام خيارات جديدة: التحوّل من المقاومة إلى التحرير، والتحوّل من قوة كيانية إلى قوة استراتيجية إقليمية، ومن حزب سياسي إلى حركة تغيير. البداية بالحوار والنقد الذاتي، والمصالحة والتسوية التاريخية بين المقاومة الإسلامية والحركات القومية واليسارية، والتقدمية والليبرالية الوطنية، والقوى الشعبية الحقيقية في الحراك، على قاعدة تغليب الالتزام بالأهداف المشتركة والقواسم الاستراتيجية، على الإيمان العقائدي، وذلك عبر صياغة برنامج مواجهة للتحديات الإسرائيلية والأميركية، وإيجاد صيغة تحالفات للقوى السياسية الوطنية، بهدف بناء جبهة المقاومة والتغيير، لتحرير الأرض والإنسان معاً.

* كاتب وناشر لبناني