من اللافت في لبنان، حتى قبل استشراء الفساد، أن تطبيق القانون كان دائماً استنسابياً. والدليل الساطع على ذلك، أنه رغم ما يعمّ مجتمعنا من فساد متمادٍ فحتى الآن لم يحاسب القانون فاسداً واحداً. هذا مع العلم أنه، حتى في دول العالم الثالث (أو الرابع)، عوقب سياسيون ورؤساء على فسادهم، حتى عندما يكون فسادهم بعيداً عن حجم وصفاقة ما لدينا منه. وفي بعض المجتمعات، كان مصير الفاسدين هو البهدلة إلى جانب العقاب القانوني، مثل السياسي الأوكراني الذي ألقى به المتظاهرون في حاوية النفايات، قبل أن تنال منه المحاكمة.أخيراً، غدت بهدلة الفاسدين في لبنان واتّهامهم بالأرقام والوقائع والأغاني والشتائم، بعض خبزنا اليومي الذي نجده على الهواتف والحواسيب، كما في الحفلات والمطاعم وهتافات المتظاهرين، فهل تردع البهدلة الفاسدين عمّا اعتادوه من اقتطاع العمولات الباهظة من كل عقد أو من إجراء عقود تذهب غالبية أكلافها إلى جيوبهم وجيوب أزلامهم المتعاقدين بالتراضي، وأحياناً من دون أن يتمّ العمل الذي دفعت الدولة ثمنه، بل من دون أن يباشر به؟
في غياب المساءلة القانونية، أخذ الناس على عاتقهم مساءلة لصوص الدولة، وفي غياب الثورة العنفية والدموية لجأوا إلى أضعف الإيمان، فكانت البهدلة. أمّا وقع البهدلة على متلقيها، فيتفاوت وفق رهافة أو غلاظة إحساسه ووفق ما سبق أن رسخ في نفسه من قيم. فمن كان لا تزال لديه بقية من إحساس وغرّر به استشراء الفساد فظنه من بعض «عدّة الشغل»، فقد يفضّل لو أنه مات واندثر قبل ما أصابته بهدلة لم يكن أبداً يتوقعها. ومن يحمل قيماً تعتبر اللصوصية أمراً مشيناً بالنسبة إلى السمعة رغم انعدام الضمير عنده، فقام بما قام به من سرقة أو هدر آملاً ألا يظهر عمله للعيان، يعتبر حياته الاجتماعية انتهت، وأن عليه التقوقع في ما تبقّى له من عمر. أمّا من كان ممّن يرى كثرة المال على حقيقتها، خدعة قبيحة لا تجلب السعادة، فقد يستحق الشفقة كأي من غرّر الزمان به فانزلق بالبهدلة إلى حضيض لا قاع له ولا فرح من بعده، فقد يكون ضحية قيم مقلوبة لم تحمه مما استجدّ عليه من بهدلة في ظل قيم أخرى فاجأته. أما من كان إحساسه غليظاً، فقد يعوّل على إدارة الأذن الطرشاء لمن يسمع تهامسهم أو شتائمهم، وقد يقابل البهدلة بتحية الجماهير علّه يقنعهم بأنهم يهتفون له! فإن كان المال أهم لديه من الكرامة، فقد تزحلقت البهدلة من على جلده السميك كما يتزحلق المطر من على المظلة. وعندما يعتبر أحد هؤلاء اللصوصية ذكاء وشطارة، كما هو الحال في القيم اللبنانية التي يعتنقها كثيرون وقامت الثورة عليهم وعليها، فقد يؤلمه ما يطاول عظمته من دون أن يشعر بالمهانة لما يوصف به، وقد يرى نفسه ضحية أناس «اخترعوا» قيماً غير التي ألفها واعتنقها وترسّخت في نفسه. وقد يحتار بعض اللصوص من هؤلاء، بين إن كانت قيمته بين الناس لا تزال إيجابية كعندما يهتفون بفدائه بالروح والدم أو يضعون بينه وبين المساءلة خطاً أحمرَ، أم سلبية كعندما تلاحقه البهدلة ويُطرد من أي مكان أو تظاهرة عامَّين. وعندها، يغدو من كان زعيماً أو موظفاً كبيراً وكأن في غرفته مرآتان، واحدة تعكس صورته مشرقة منوّرة، والأخرى تعكسها قبيحة مزرية، وفي هذا حيرة لا يُحسد أبداً عليها.
ممّا يتأتّى عن حلول البهدلة محل المساءلة القانونية أنها قد تطاول من لا يستحقّها كما أنها قد تغفل عن أكبر الرؤوس الفاسدة


وممّا يتأتّى عن حلول البهدلة محل المساءلة القانونية، أنها قد تطاول من لا يستحقّها كما أنها قد تغفل عن أكبر الرؤوس الفاسدة. ذلك أن الشائعات وغياب الكاريزما، أو توافرها، يلعبان دوراً في هذا الحيّز. والموضوع الطائفي له وزنه في تحييد البهدلة عمّن ينتمي إلى طائفة المبهدِل (بكسر الدال). أمّا القانون المرتكز على الوقائع والاستقصاءات، فهو في حالاته المثلى أقرب إلى معاقبة المرتكبين دون سواهم، بغضّ النظر عن الدور الذي يلعبون أو الكاريزما التي قد تميّزهم أو الطائفة التي قد ينضوون تحت رايتها وبحمايتها.
ومن أهم حسنات البهدلة، أنها قد تولّد التباساً حول القيم وصولاً إلى خلخلة القناعة بأن اللصوصية شطارة وذكاء. فإن استمرّت هذه الخلخلة، فقد تحقق إنجازاً، لبنان في حاجة ماسة إليه، هو قلب بعض القيم السائدة رأساً على عقب، بحيث إن من كان فخوراً بإنجازه في سرقة الناس أو الدولة، يغدو خجلاً بما ارتكبه، حتى بينه وبين نفسه، وليس فقط غريماً للناس يستقطب كرههم واحتقارهم.
فإن كانت المساءلة القانونية شرطاً أساساً في قيام المجتمعات السوية، فالبهدلة تلعب دوراً رديفاً مهماً في تقويم سلّم القيم وفي تغيير النفسيات. وقد لعبت البهدلة، في ثورتنا القائمة، دوراً مهماً في إيجاد الجرأة على مواجهة اللصوصية، وفي دراسة الوقائع والتفاصيل لعمليات منها قام بها مسؤولون لم يسائلهم أحد من قبل، فتتصدّى البهدلة لهم وإن كانوا في منأى عن المساءلة القانونية. ففي نشر هذه الوقائع على الملأ على أنها مُشينة، إعادة نظر بالقيم المقلوبة التي كادت ترسخ في نفوس كثير من اللبنانيين. ومن إنجازات البهدلة التي تُثلج الصدور وتجد الصدى الطيب عند الحق والمنطق، أنها تُشعر اللص الذي كان يعتبر نفسه مميزاً إيجابياً بين الناس، بأنه منبوذ وقذر ونموذج يشمئزّ منه الشبيبة بعدما كان يعتبر أنهم يطمحون إلى الاقتداء به. ومنها أن المبهدل يبقى كذلك مدى الحياة، في حين أنّ من يطاوله القانون يعاقب لفترة محددة.
أما من ناحية بذل المواطنين للوقت والجهد بالإضافة إلى ما لديهم من عمل أو دراسة، ففيه خسارة على صعيد نجاحهم العملي، لكن فيه إضافة إنسانية إلى شخصياتهم ومساراتهم تسمهم بالبطولة المضيئة، وقد تُدخلهم التاريخ كأول من عمل على تصحيح قيم البلد وأول المبدعين، بالنسبة إلى لبنان، في محاولة تطبيق ما سبق أن أقرّ العالم وكل فكر سياسي بأنه ضروري لقيام مجتمع سويّ أو قابل للاستمرارية، ألا وهو المساءلة وتفعيل آلية العقاب على خيانة المجتمع أو سرقته.

*أستاذة جامعية متقاعدة