انقسم الشيوعيون المصريون في الموقف من سلطة ما بعد 23 تموز/ يوليو 1952: شارك ضبّاط، مثل خالد محي الدين ويوسف صديق وأحمد حمروش، كانوا أعضاء في التنظيم الشيوعي: (الحركة الديموقراطية للتحرّر الوطني ــ حدتو)، في الحركة العسكرية التي أطاحت بالملك فاروق. كان رأي «حدتو» بأن السلطة التي نتجت عن حركة الضباط ستقود إلى ثورة وطنية ديموقراطية تقضي على الإقطاع وتُنهي التخلّف. في المقابل، كان رأي «الحزب الشيوعي المصري» ــ «الراية»، بأنّ أزمة السلطة في مصر ــ بدءاً من تظاهرات عام 1946 ضدّ معاهدة صدقي ــ بيفن، وصولاً إلى حرب العصابات في منطقة القنال ضدّ البريطانيين التي أعقبت إلغاء حكومة حزب «الوفد» في تشرين الأول/ أكتوبر 1951 لمعاهدة 1936 مع لندن ــ لم يكن الحكم الملكي قادراً على حلّها بالطرق التقليدية، وكان رأي حزب «الراية» أنّ العسكر قفزوا إلى السلطة بانقلابهم العسكري على هذه الخلفية، بدعم من واشنطن التي كانت تسعى لخلافة لندن في زعامة العالم الغربي. التنظيمان الشيوعيان دعما الرئيس جمال عبد الناصر لما قادت تناقضاته مع لندن إلى سياسات وطنية، مثل تأميم شركة قناة السويس عام 1956 ورحّبا بتقاربه مع موسكو منذ أيلول/ سبتمبر 1955، وعلى خلفية تقاربهما هذا في رؤية السلطة المصرية، كان توحّدهما في تنظيم واحدٍ هو «الحزب الشيوعي المصري» في يوم 8 كانون الثاني/ يناير 1958.انفجرت التناقضات سريعاً: في تموز/ يوليو 1958 تمّ إبعاد ممثّل «حدتو» في قيادة التنظيم الجديد، كمال عبد الحليم، من القيادة، وسيطر ممثّل «الراية» الدكتور فؤاد مرسي على قيادة الحزب، وهذا ما أدّى إلى انشقاق «حدتو» بعد شهرين. خلال تسعة أشهر، بانت وحدة التنظيمين الشيوعيّين هشّة، ويبدو أنّ تقاربهما في الرؤى كان مقتصراً على الشكل، وليس على المحتوى في رؤية السلطة المصرية، حيث اعتبرت «حدتو» أنّ صدام عبد الناصر مع البريطانيّين وتأميمه لقناة السويس وتقاربه مع السوفيات يثبت وجهة نظرها بأنّ سلطة 23 يوليو ذات طابع وطنيّ تقدمي فيما كان رأي حزب «الراية» بأنّ هذا الصدام ناتج عن شروط لندن الصعبة التنفيذ من قِبل عبد الناصر (مثل الدخول في «حلف بغداد» المؤسّس في شباط/ فبراير 1955) وبأنّ هناك اتّجاهاً عند الأخير لاستخدام العلاقة مع السوفيات لتحسين الشروط المصرية تجاه الغرب، في وقت لم تكن فيه واشنطن ضمن نغم واحد مع البريطانيين، وهذا ما ظهر جلياً في حرب 1956. لم يأبه عبد الناصر بتناقضات التنظيمَين الشيوعيَّين المصريين، وقام بشنّ حملة اعتقالات عليهما (مع الحزب الشيوعي السوري) بدءاً من ليلة رأس سنة 1959.
كان رأي قادةٍ في «حدتو»، ومنهم شهدي عطية الشافعي الذي مات تحت التعذيب، أنّ الاعتقالات هي «سوء فهم». لم توحّد الاعتقالات رؤى التنظيمَين أو تقرِّبهما، حيث أنه عندما جرت تأميمات البنوك في شباط/ فبراير 1960، ثم توسّعت التأميمات لتشمل منشآت صناعية كبرى في تموز/ يوليو 1961، رأت «حدتو» أنها تخطّ طريقاً انتقالياً نحو الاشتراكية، وعندما طرح عبد الناصر «الميثاق» في أيار/ مايو 1962، بدأ سجناء «حدتو» يطرحون فكرة أنّ هناك «مجموعة اشتراكية» يقودها عبد الناصر داخل السلطة المصرية، وأن هناك حاجة إلى تنظيم واحد للاشتراكيين. مقابل ذلك، كان رأي فؤاد مرسي بأن التأميمات هي إجراء رأسمالي (هي والإصلاح الزراعي)، وبأنها تعبّر عن أزمة تنمية بسبب تمنّع الغرب عن الاستثمار في مصر ما بعد 23 تموز/ يوليو 1952، وبسبب هروب رأس المال المصري والأجنبي من مصر في فترة 1952 ــ 1960، وهذا ما استدعى تدخّل الدولة وإمساكها بالعملية الاقتصادية، ولأغراض رأسمالية، نحو سيطرتها على فائض قيمة العملية الإنتاجية الاقتصادية وعلى مصادر الادّخار والإيداع من أجل تمويل عملية التنمية. برأي فؤاد مرسي، أنّ هذا سيقود إلى «رأسمالية الدولة» بدل «رأسمالية السوق»، وقد ظلّ متشائماً بأن حدود المشروع الناصري ستقود إلى انفجار سلبياته وتطغى على إيجابياته، وهو ما تبعه تلميذه الدكتور سمير أمين، الذي كان عضواً في حزب «الراية»، مقيماً للدراسة في باريس في الخمسينيات، عندما اعتبر أنّ هزيمة 1967 قد عجّلت في انتصار ظاهرة أنور السادات، الذي برأي الدكتور أمين، لم يكن ثورة مضادة بل قوة تعجيل وتغليب للاتجاهات اليمينية في المشروع الناصري، حيث توازت عملية الانفتاح الاقتصادي الداخلي، من رأسمالية الدولة نحو اقتصاد السوق عند السادات، مع فك العلاقة مع موسكو، والاتجاه نحو واشنطن ثم التسوية مع إسرائيل.
هنا، يجب الاستدراك: صحيح أنّ الدكتور فؤاد مرسي خرج من السجن هو وباقي الشيوعييّن المصريين، في أيار/ مايو 1964، بالتزامن مع زيارة خروتشوف إلى مصر، ثم تمّ حلّ حزبَي «الراية» و«حدتو»، في عام 1965، لينضم أفرادهما فرادى إلى «الاتحاد الاشتراكي» تحت ضغط الاتحاد السوفياتي، الذي بدأ منذ، شباط/ فبراير 1964، بوصف نظام عبد الناصر بـ«النظام الديموقراطي الثوري»، وبأنه في «طريق التطوّر اللارأسمالي»، إلّا أنّ الدكتور مرسي لم يفعل ذلك الانضمام عن قناعة، بخلاف أعضاء «حدتو»، بل تحت ضغط موسكو. وهو رغم تبوئه مناصب، مثل عضوية إدارة البنك المركزي، ثم دخوله في وزارة الدكتور عزيز صدقي عام 1972، إلّا أنه سرعان ما أحسّ باللاانتماء وخرج سريعاً.
كمكثّف: ليس القصد من هذا المقال نكء جراح الماضي، ولا إشعال حساسيات أيديولوجية، بل هو نوع من المقاربة لتفسيرات تساعد على إلقاء الضوء على تحوّلات مصرية في ستة عقود أعقبت يوم23 تموز/ يوليو 1952، وقادت إلى نظام رأسمالي جديد في أرض الكنانة، يتحالف فيه ثالوث «العسكر» و«رجال الأعمال» و«المؤسسة الدينية الأزهرية». ليست سوريا ما بعد 8 آذار/ مارس 1963، وجزائر ما بعد 5 تموز/ يوليو 1962، خارج هذا المسار المصري، ولو اختلفت تفاصيل السياسات الخارجية عندهما عن تلك المصرية.

* كاتب سوري