لماذا تحتفظ الأحزاب التي حاولت ركوب موجة الحراك بمقاعدها في البرلمان؟ بل أكثر من ذلك، هي تبدع في إصدار تصريحات موالية للنظام وتعترف بشرعية الحكومة. وقد وصل الحدّ بهذه الأحزاب إلى اللعب على الانقسامات ذاتها، التي قام بها المرتزقة الإلكترونيون المأجورون من النظام في الأشهر الاولى من الحراك.بسبب الانتهازية البحتة أو لإيمانها بإلإصلاح، فإن ما يجمع هذه الأحزاب بالسلطة هو النظرة الاستعلائية للشعب. شعبٌ يشبه الكتلة الجاهلة، قاصرٌ (وبالتالي وجب وضعه تحت الوصاية)، وغير قادر على التفكير في وسائل تحرّره. أليس هذا هو النموذج الذي لطالما بيع لنا من طرف النظام، والذي تم تصديره واستهلاكه من قبل الغربيين لشرح دعمهم للديكتاتوريات أمام رأيهم العام؟ كذلك، فإن لهذه الأحزاب قاسماً مشتركاً ثانياً مع السلطة، ألا وهو الزعيمية والمفهوم الهرَمي للسلطة. وبالتالي، لا يمكنهم تصوّر أي تنظيم من الأسفل، بينما يتّهمون خصومهم بـ«الشعوبية». طبعاً، لأنّ هذا التصوّر يهدّد وجودهم، ومصالحهم، وامتيازاتهم.
مواقف عبد الرزاق مقري، رئيس حزب «حركة مجتمع السلم» الجزائرية، معبرة جدّاً. ينتمي هذا الحزب إلى تيار «الإخوان المسلمين» (مرشد الإخوان في الجزائر ليس مقري، بل عبد القادر بن قرينة رئيس «حركة البناء الوطني»). وكان قد دعا في السابق إلى ضرورة تدخل الجيش. ولفهم موقف هذا الحزب، يجب على المرء أن يهتم بالإسلام السياسي، فالهدف من هذه الحركة هو التمكين، وهو يمثّل خطراً حقيقياً على الديموقراطية.
لا علاقة لذلك بخطر تطبيق الشريعة كما يدّعي كثيرون. أعتقد أننا تعلّمنا الدروس الضرورية من التاريخ الحديث لبلدنا، ولا يمكن لأحد الاستثمار مجدداً في هذه القضية. زد على ذلك، فإنّ توغل الدين في القانون الجزائري هو حقيقة واقعة، الأمر الذي يتعلّق أيضاً بأسس الديموقراطية. بعض الناس يربط الديموقراطية باختيار الأغلبية، لكن التاريخ  يعلّمنا أن الغالبيات ليست دائماً على حق (مثال النازية)، وأن هذا التصوّر يمكن أن يتحوّل إلى طغيان الأرقام. الديموقراطية مرتبطة بميكانيزمات وقائية، ولا يمكن ممارسة السيادة الشعبية إلا في ظل المبادئ التعدّدية.
لهذا، وجب النظر إلى جذور انتمائهم العقائدي (بالمعنى الليبرالي). هم ينتمون إلى اليمين المحافظ والتكيّف مع كل قوة مهيمنة، مهما كانت طبيعتها مكتوبة في جيناتهم. تاريخياً، استُخدم «الإخوان» لمحاربة «الخطر الشيوعي»، لأنه «أيديولوجيا غربية»، ولأن «الإلحاد هو دين الماديين»، ولكن أيضاً لأنّ إحدى عقائد اليمين تقول إن النظام الاجتماعي هو نظام طبيعي. لذا، كلّما قلّت مشاركة الدولة، كان السوق حرّاً، وانعكس ذلك إيجاباً على الاقتصاد (هذا منطقي، «ألم يخلق الله الفقراء والأغنياء؟»... نعم، سمعت  هذه الحجة).
النظام الاجتماعي ليس طبيعياً ولا غريزياً هو ينبع من النظام السياسي الذي يقوم نفسه على اتفاقات


بهذا، لا يمكنهم الانضمام إلى الثورة، بل يعارضونها حتى النخاع، لأن، كما ذكرت من قبل، هدفهم التمكين والتعايش مع السلطة، وهذه هي وسيلتهم الوحيدة. علاقتهم بالسلطة هي علاقة منفعة ومصالح متبادلة. ولكن ما يجهله هذا التيار، هو أنّ النظام لن يسمح أبداً بظهورهم كقوة سياسية يمكنها تهديد هيكله.   
النظام الاجتماعي ليس طبيعياً ولا غريزياً، هو ينبع من النظام السياسي، الذي يقوم نفسه على اتفاقات. ولبناء دولة القانون، حيث لا تملي الغاب قانونها، وجب التفكير في عقد اجتماعي جديد يمهّد الطريق أمام جسد سياسي موحّد، وذي سيادة. عقدٌ يضمن حقوق الفرد كمواطن، وفي الوقت نفسه يفرض عليه واجبات في سبيل المصلحة العامة. عقدٌ يبني الـ«نحن»، والتي هي روايتنا الوطنية، بهوية تعدّدية. عقدٌ يحصّننا من الأقطاب الثنائية التي استغلها النظام لفترة طويلة.
من بين أساليب مكافحة التمرّد، التي اعتدناها في الجزائر، اللعب على الأوتار الهوياتية أو الأيديولوجية. الاحتجاجات تخيفهم، لكن ما يخيفهم أكثر، هو كل محاولة هيكلة أو تنظيم. فمنذ الأسابيع الأولى، ظهر ما يُسمى الذباب الإلكتروني لنشر الفتنة بين الجزائريين، على أسس ثنائية تدعو إلى الكره (علماني/مسلم، قبائلي/عربي، ديموقراطي/إسلاموي...).
بعد مرور عام على الحراك، اتضح جلياً احتواؤه لتيارين: تيار ثوري يؤمن بالقطيعة لإدراكه طبيعة النظام الجزائري، الذي يعدّ نظاماً هرمياً شمولياً قائماً على ثلاث ركائز أساسية: المال (عبر خلق أوليغارشية لشراء الذمم وتمويل الحملات بطرق غير قانونية)، السلطة القضائية (لحماية نفسه وتجريم كل معارضة تمثل خطراً)، والصحافة (لنشر الفكر الأحادي وشيطنة الرأي المعاكس). أما التيار الثاني، فيؤمن بقابلية النظام للإصلاح عبر المؤسسات، أي عبر هياكل الدولة القائمة، إضافة إلى إمكانية التغيير بالدخول إلى البرلمان والتأثير في السلطة التشريعية.

*باحثة علمية وناشطة سياسية جزائرية