ثمّة أمور في السياسة لا تحتمل الخيارات أو وجهات النظر؛ فظاهرُها يفضح ما تحمله من نوايا مبيّتة. هو مسار امتدّ لأكثر من قرن من الزمن، تواجهت فيه متناقضات كثيرة، جلّها كان بين ضفّتين متقابلتين يفصل بينهما وادٍ سحيق، لا يلتقيان إلّا في ساحات القضايا وهموم البشر؛ رأسمالية إمبريالية متفلّتة بطبيعتها، يحكمها رأس المال ومصالح أصحابه، همّها الربح ولو على حساب حياة الشعوب، سلوكها الهيمنة واستلاب مستقبل الدول وإمكاناتها. وطبقة من المسحوقين الواقعين تحت ظلم المسار السابق الذكر، والمدعوم بنُظمٍ تابعة وبديكتاتوريات الطوائف، أرباب العالم الغيبي، الذين يستغبون الناس ويحرفونهم باتجاه «الغامض» حيث «السعادة الأبدية» على حدّ زعمهم. وعلى ذلك الفالق المهدِّد دائماً لحياة ملايين البشر، ستسير الأمور وستحدّد أشكال التعارض وكيفية التعبير عنها.
ملصق من تصميم Matt Peppler ـــــ الولايات المتحدة الأميركيّة

اليوم، ونحن نواجهُ أخطر أزمة اقتصادية ومالية، وأبشع وباء يضرب العالم ـــ بعد الرأسمالية طبعاً ـــ وهو الـ«كورونا»، الذي فتك بجميع الدول، بغضّ النظر عن أحجامها أو مكانتها، إلّا أنّه عرّى، بشكل خاص، النظام العالمي الحاكم منذ تسعينيات القرن الماضي باسم الانتصار «التاريخي» للرأسمالية والليبرالية، المتحكّمة في السياسة والاقتصاد، على حساب قوى الطبقة العاملة وأحزابها، في نهايات مرحلة الانقسام الذي وسم العالم بطابعه بعد الحرب العالمية الثانية. مستجدّاتٌ أرخت بثقلها على كاهل البشرية جمعاء، ما يدفعنا إلى طرح أسئلة مفصلية، المطلوب منّا التجرّؤ عليها بإجابة واضحة، لا تحتمل التأويل أو التغيير أو الالتباس: لماذ لم ننجح، نحن كأحزاب وقوى وطنية ـــ عمْرُ بعضنا اليوم قارب القرن من الزمن ـــ في بناء، أقلّه الدولة الوطنية القادرة على تحمّل عبئَي التحرّر الوطني وبناء البنى الاقتصادية المنتجة من جهة، وفكّ أواصر التبعية وكسر الهيمنة من جهة أخرى؟
لتنشيط إمكانيات خوض هذا الامتحان بالردّ عن هذا السؤال الصعب والمعقّد، لا بدّ لنا من الركون إلى ثوابت، كي ننطلق منها لنستطيع بناء أجوبة مقنعة، وإذا التبس علينا، أو عند البعض منّا، فكّ رموزه أو فهمه، فلنذهب إلى سؤال آخر ـــ مفتاحٌ أشدّ وضوحاً وأسهل جواباً: أليست الولايات المتحدة الأميركية ومشروعها الإمبريالي، وبكلّ أدواته، هما الخصم والمشكلة التي علينا التصدي لها؟ هنا الإجابة واضحة وضوح الشمس، وإذا التبست عند البعض، فهذا يعني بأنّ خياره يصبّ إلى جانب المشروع السالف الذكر، سواء أكان يدري أم لا. وفي هذه الحالة سيكون في موقع المشتبه به.
إنّ تجهيل السبب، كما الفاعل، يساهم في الابتعاد عن مقاربة لبّ القضية واستكمالاً اختلالاً في المعالجة. ولكي لا نقع في فخ التجنّي أو الافتراء وسوء النيّة، فإنّنا سنعاود فكفكة أحداث مئة عام في منطقتنا بجملة واحدة: أليس ما جرى ويجري هو استعمار غربي لمنطقة، شتّت كياناتها وسرق خيراتها وأورثها نظماً هجينة، وأوجد في قلبها نظاماً عنصرياً قاتلاً وعدوانياً، شكّل بوظيفته موقعاً متقدماً للمشروع الإمبريالي، الهادف إلى منع شعوب المنطقة من التلاقي والوحدة؟ وأليست هذه بواكير الغزو الغربي لمنطقة الشرق الأوسط؟
هو، بالطبع والشكل والنتائج، غزوٌ وقد اتّخذ أشكالاً وشعارات متعدّدة، وحملت رايته دولٌ متنوعة، وإن غلب عليها جميعاً الطابع الاستعماري القائم على الحروب والقتل والنهب. فالنتيجة المحقّقة، كانت هيمنة استعمارية وكيانات تابعة واستلاباً اقتصادياً، حوّلت الإمكانات والموارد الطبيعية ومصادر الطاقة ومشتقاتها والمياه، بالإضافة إلى الموقع الجيوسياسي... إلى ميدان تتجاوز فيه الارتكابات الخارجية مصالح شعوبنا وتهدّد مستقبلها. فالبلاء هنا مزدوج؛ مشروع إمبريالي غربي مسكون بعقلية التعالي والفوقية والهيمنة، ونظم سياسية حاكمة، مسكونة بالدونية والعجز أمام كلّ قادم من جهة الغرب، وعليهما تكوّنت رذيلة الاستتباع وتبادل الخدمات ولو على حساب الشعوب، وهذا ما حصل.
لقد أعلنت الولايات المتحدة أنّ مصالحها هي الأبدى وهيمنتها هي الأبقى، وما على العالم إلّا أن يكون في خدمة ذلك اليانكي المتغطرس


على هذه الأرضية، لا تستوي الأمور على صراط قويم وواضح، فالعبور فوق نار المشروع، المتمادى فيه في منطقتنا إلى حدّ الإجرام الموصوف، لن يكون بكثرة الدعاء عليه ولا بالتمنّي لو يعود من حيث أتى، بل بمشروع آخر نقيض، واضح الأهداف: تحرّر وطني ناجز، بناء دول حقيقية بمضمونها السياسي والاقتصادي، وقطع يد التدخّل الغربي بكلّ أوجهه، وخلق ديناميات محلية قادرة على المواجهة والتكامل بين شعوبها. هنا، نستطيع أن نقول بأنّ خط انطلاق المواجهة سيصبح معقولاً ويمكن البناء عليه. لقد بدّلت دول الاستعمار أشكالها وسلوكيّاتها وطرقها وسياساتها، بشكل يتلاءم مع المستجد الحاصل على الصعيد الدولي. فمسار النظام الرأسمالي، بشقّيه الاقتصادي والسياسي ـــ العسكري، والمتحالف مع منظومات مالية وغيبية، ومتسلّحاً بأمرَي الدنيا وما وراءها، لم يواجَه بشكل جدّي طيلة القرن الماضي وبداية الحالي، إلّا مرة واحدة إبان الحرب الباردة: عندما قدّم الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية نفسهما كمشروع نقيض، وبديل جدّي أمام البشرية، معادٍ للرأسمال المعولم، ومن موقع أيديولوجي وطبقي مُعلن ومنصوص عليه.
لم ينجح ذلك البديل، ثم سقط، لأن استشعار الغرب خطورة طرحه المبدئي جعله يستنفر كلّ عدّته وعديده، من دول تمتلك إمكانات كبرى، عسكرية واقتصادية ومالية، إضافة إلى نظم تخلف، خليط من ديكتاتوريات متوارثة أو انقلابية، بالتكافل والتضامن مع منظومات دينية، سخّرت حاجة المواطن وفقره وسيطرت عليه بأمر السماء، وصولاً إلى الحروب المباشرة، السياسية والاقتصادية والعسكرية، والتي استنزفت مقدّرات كبرى كانت بحاجة إليها الشعوب الفقيرة في معركة التحرّر الوطني؛ لقد كانت منازلة غير متكافئة، أسقطت البديل لمصلحة مشروع الهيمنة والابتزاز، المدّعي الانتصار النهائي، مزيّلاً بمقولة نهاية التاريخ ودخول العالم في أتون نظام أحادي النموذج.
من هنا، نجد أنّ وضوح الأشياء يجعلها في متناول التحليل الصحيح والاستنتاج المؤكّد؛ فالولايات المتحدة الأميركية لم تألُ جهداً إلّا واستخدمته في سبيل تنفيذ مخطّطاتها، ما يهمّها هو النتيجة، حتى ولو لم تكن من فعلها. فهي لم تتوانَ عن استخدام أيّ كان في سبيل تسهيل مهمتها وفتح الطرقات رحبة أمام تحقيق مبتغاها. الأمر هنا يتخطّى المنطق الرياضي إلى المنطق المقلوب، القائم على أنّ الغاية من الشيء هي الهدف المفترض الوصول إليه. وعليه، تصبح الوسيلة أمراً ثانوياً؛ فما من إمكانية أو سلوك، ومن أيّ جهة أتى أو كان، يمكنه أن يقدم خطوة إضافية في مسار التنفيذ، فليُستخدم، بغضّ النظر عن اليد التي تشغّله. لقد أعلنت الولايات المتحدة الأميركية، جهاراً نهاراً أن مصالحها هي الأبدى، وأنّ هيمنتها هي الأبقى وما على العالم، بدوله وشعوبه وخيراته، إلّا أن يكون في خدمة ذلك اليانكي المتغطرس. أشعلوا الحروب بمختلف أنواعها، والحصار والعقوبات والنهب والبلطجة... لم تردعم رادعة أو توقفهم حدود. جاروا واستبدّوا، صنعوا الإرهاب على شاكلتهم وموّلوه ونشروه كوباء ابتُيلت به البشرية، وها هم اليوم يبتزون، وبالأخص حلفاءهم، من أجل كسب مال إضافي كانوا قد نهبوا جلّه آنفاً. على تلك الأرضية، تصبح آلية المواجهة واضحة؛ كسر الإمبريالية الأميركية و«سلبطتها» على العالم هو فعل أملٍ لكلّ الشعوب. ومنع الهيمنة والسيطرة والتدخّل ولجم السرقة الموصوفة، باسم «دولرة» اقتصادات العالم كي يسهل التحكم، أصبح بدوره ممراً إلزامياً لوقف القهر والثورة عليه. وفتح أفق آخر أمام البشرية ـــ مساراته تناقض ما هو سائد وتتعارض معه ـــ أضحى ضرورة موضوعية تستوجبها حالة العالم المثقل بتداعيات أمراض الرأسمالية وآفاتها.
هو عالم موصوف بما يحدث فيه، وموسوم بنكهة استعمارية لا تزال تجدّد نفسها عند كلّ استحقاق، تمارسها نظُمٌ وحكومات غربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية؛ الأفق المعقول أمام الشعوب، هو دحر ذلك المشروع، وعلى قاعدة كسر الهيمنة الإمبريالية على العالم، وقطع يد السارق الممدودة إلى جيوبنا إذا أمكن، ومن ثمّ وضعه في الحجر. هو مسار حتمي عندما تكون الرؤية واضحة: نظام عالمي، معولم ببطشه وبقلة أخلاقه، معروف بانحيازه إلى رأس المال وعدائه المفرط لكل فقراء العالم... فليكن إذن السيل جارفاً في اتجاهه، وإن تغذّى من روافد متعدّدة، نهاية المطاف سيكون كسر التبعية والاستبداد، نراه بهذا المعنى هدفاً مشروعاً... ويستحق.
أخيراً... وفي يوم النكبة، تحية للأرض التي تنجب زعتراً ومقاتلين.

* افتتاحية العدد الأخير من مجلة «النداء»
* عضو المكتب السياسي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني