كَثُرَ في العقدين الماضيين، التداول باسم ساحتي الشهداء ورياض الصلح (سنسمّيهما الساحة)، إمّا من خلال نشرات الأخبار أو وسائل التواصل أو الجلسات المغلقة. كانت الساحة، ولا تزال، الـ«منصّة» الشعبية الأشهر لتوجيه رسائل سياسية، اجتماعية، ومؤخّراً مطلبية معيشية. ساهم موقعها الجغرافي، بمحاذاة مجلس النواب وعلى مرأى من السراي الحكومي، بجعلها الـmegaphone المزعج دائماً لمن تداور على تسلم الحكم. عناصر عديدة وضعت الساحة على الخريطة السياسية المطلبية، عفوية كانت أو منظمة.عُرِفَتْ هذه الساحة، منذ تأسيس لبنان القديم والحديث، بـ«مكة» المتحرّرين والمناضلين، يحجّ إليها الشعب من مختلف الطوائف والمناطق، يجمعهم مطلب واحد: الحرية. ذاع سيطها لأوّل مرّة منذ 104 أعوامٍ، عندما شهِدَتْ على إعدام 17 وطنياً شريفاً بتهمة المطالبة بالاستقلال من الاحتلال العثماني. 89 عاماً إلى الأمام، تحديداً إلى عام 2005، الذي كان محورياً للبنان والمنطقة ككل. ضاق الشعب ذرعاً من احتلال آخر (وما أكثرها)، هذه المرة الجيش السوري. شكّل اغتيال رفيق الحريري الشعرة التي قصمت ظهر البعير، ففاض الشعب إلى الساحة وبُحّت حناجره مطالباً بالحرية والسيادة والاستقلال. 15 عاماً إلى الأمام، وصولاً إلى نهار مجيد آخر (وما أكثرها)، 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2020. تجدّد في هذا اليوم عطش الشعب اللبناني للحرية وجوعه لترسيخ مواطنيّته، ومع ما يُلازم ذلك من حقوق. الفرق أنّ المُحتل هذه المرة كان داخلياً: نظام طائفي فاسد. فتوجّهت البوصلة مجدّداً نحو الساحة. شهدت هذه الساحة، في آخر تسعة أشهر، على صرخة شعب جائع مٌثقل بهموم وصلت فيه إلى الذروة، هدفه الأساسي هو العيش الكريم. لم تعتَد الساحة على نوع كهذا من التحرّكات الذي يتميّز بشعبويّته ومطالبه المعيشية. فقد جرت العادة أن تكون هناك أطراف داخلية أو خارجية مموّلة أو موجّهة للتحرّكات المطالِبة بتغيير سياسي معيّن.
لو أن الساحة تتكلّم لربما تساءلت: هل التجمّع والتظاهر كافيان للتغيير؟


ولكن، لو أن الساحة تتكلّم، لربما تساءلت: هل التجمّع والتظاهر كافيان للتغيير؟ هل التعبير عن الغضب يؤمّن مشروعاً بديلاً أو طرحاً تنظيمياً معيّناً؟ كيف ننتقل من مرحلة التعبير إلى التغيير؟ تشكّلت من خلال تجربة 17 تشرين، وانتفاضة الشعب على الفساد، فرصة ذهبية لإحداث نفضة جذرية في النظام الطائفي ومنظومة الفساد، التي استشرت في كيان لبنان على مدى الثلاثة عقود الماضية. الطبخة كانت على وشك أن «تنضج». اكتملت المكوّنات، ولكن ما الذي كان ينقصها؟
1 ــ رشّة تنظيم: عندما انطلقت الثورة، كان الإيمان بأنّ عفويتها ووحدة المطالب المعيشية كفيلَتان بتحقيق الأهداف المرجوّة. ولكن مع مرور الوقت، وفي ظلّ تعنّت طبقة حاكمة متماسكة متراصّة مسيطرة على معظم مفاصل الدولة، أصبحت الحاجة ملحّة لتنظيم الصفوف والأجندة، أكثر من أيّ وقت مضى. وهنا، تبرز نقطة ضعف الثورة الأبرز، وهي أيضاً نقطة قوّتها: تشعّب الثورة، وكونها عابرة للمناطق والفئات، ممّا يُعقِّد الرسو على هيكلية تنظيمية واحدة تمثّل الشعب الثائر، وتنال ثقته. أحد الحلول المعقولة، قد يكون اعتماد استفتاء شعبي (رقمي إذا أمكن)، تديره وتنظّمه الثورة بشكل عضوي. يُفتَح باب الترشّح للمجموعات المختلفة، بشرط أن تطرح برنامجاً اقتصادياً إصلاحياً مالياً واضح المعالم. تقوم المجموعة المنتخبة بتشكيل لجنة شبابية تكنوقراطية، هدفها رفع الخطة البديلة إلى المعنيين في الحكم والعالم والمحاربة لتحقيقها.
2 ـــ رشة عصيان (منظّم): نعم، العصيان. السبيل الوحيد لتحقيق الخطة البديلة، هو إرفاقها بضغط منظّم على مرافق الدولة وزعمائها. ولكن يجب التنبّه إلى وجود خيط رفيع يفصل بين العصيان المفيد والعصيان المضر. السر في نجاح العصيان هو التنظيم. يجب تحديد الأهداف بحسب «ثقلها» وأهميتها؛ ثم يليها اختيار المجموعات التي ستنفّذ العصيان على أسُس أخلاقية واضحة؛ وبالتوازي، تأمين مواكبة إعلامية فردية وتطوعية على وسائل التواصل.
3 ــــ على نار هادئة: التغيير يتطلّب الكثير من الصبر، الإصرار وطول البال. خصوصاً عندما يكون «الخصم» متعصّباً، طائفياً، متمسّكاً بولائه الأعمى لزعيمٍ أو دولة خارجية. لا يجوز الاستعجال في الوصول إلى المبتغى كي لا تُحرَق الأوراق. ومن الخاطئ الاعتقاد بأنّ مسار الثورة يجب أن يكون تصاعدياً سلساً كي يصل إلى الهدف. ستواجه الثورة تعرّجات ومطبّات ومفترقات طرق عديدة. الحنكة تكمن في تحويلها إلى فرص واحتمالات جديدة وخلّاقة لمقاربة الأمور.

* باحث لبناني