أدّى غزو إسرائيل للبنان، صيف 1982، ودخولها بيروت لحقبة زمنية قصيرة، ثمّ خروجها قسراً منها إلى جنوبه لاحتلاله ردحاً من الزمن، ثم مغادرته إثر تحرير جزء منه أولاً في شباط / فبراير 1985، وكاملاً، عدا قسم صغير من أراضيه في 25 أيار / مايو عام 2000، إلى بروز جملة من النقاشات المطّردة من جانب العديد من المؤرّخين والسياسيين والمقاومين أنفسهم، بشأن مسبّبات ومستجدّات ما آلت إليه الأمور قبل التحرير وبعده.
فرانتز فالكنهاوس (بولونيا)

لذا، وجدتُ أنّ من الطبيعي، بعد السجال المستمر الحاصل حول هذه المسألة في الإعلام والمنتديات، وآخره مقالة أسعد أبو خليل في ردّه على أحمد بدران (قيادي سابق في الحزب الشيوعي اللبناني) بتاريخ 20/6/2020 العدد 4079، وغيرها من المقالات والردود في صحف مختلفة، أن أشارك في النقاش، لسببين:
الأول، أنني كنت في عداد هؤلاء المقاومين في المرحلة الأولى، ومن مباركي ومقدّري النجاحات في التالية. السبب الثاني، أنّي مؤرّخ للعمل الحزبي ونشاط المقاومة، وقد أبرزت ذلك في مقالات ودراسات خطتها أثناء عملي الصحافي، وفي كتب أصدرتها من بينها كتاب تضمّن سيرتي الذاتية «قيادات وهزائم»، في عام 2007، عن «دار عشتروت» ــــــ «بيسان».
لهذا الشأن، سأتناول في هذا النقاش الدائر مقولة التغيير في لبنان، وواقعها الراهن وذلك بعدما كانت مع مقولة تشريع وجود المقاومة الفلسطينية، إثر توقيع اتفاق القاهرة في نهاية الستينيات؛ منطلقاً من اندلاع الحرب الأهلية في نيسان / أبريل عام 1975.
بداية، أعترف بأنّني في هاتين المسألتين، منحازٌ إلى من كتب وتبنّى الكلام بأن أول أسباب هزيمة مشروع التغيير الذي أرادته الحركة الوطنية في تلك الحقبة التاريخية، كان فقدانه لمحفّز أساسي، وهو قوّة مادية فعلية اجتماعية وسياسية، تحرّكه في الاتجاه المعاكس للعنف الذي حصل لاحقاً. ولا يُقنع أحداً الكلام والتبرير الذي أُعطي، آنذاك ولاحقاً، عن أنّ ما حصل إنّما جاء عفوياً ومتدرّجاً، على نحو تورّطت فيه قوى الحركة الوطنية نحو مآل الأمور. هنا تبرز التبريرات المتأرجحة وغير الثابتة.
إنّ مشروع الحركة الوطنية، الذي كان إصلاحياً باعتراف قادته، تحوّل وبسرعة إلى حلم دموي مستحيل تحقيقه. يقول هؤلاء مواربة أو مباشرة، إنّه حصل بفعل رغبة قائد هذه الحركة كمال جنبلاط، الذي أراد قلبَ الواقع السياسي القائم والاستيلاء على الحكم، وذلك بواسطة رافعته المسلّحة، المقاوَمة الفلسطينية، بقيادة «فتح» تحديداً. لقد كان الحزب الشيوعي في تلك المرحلة فاقداً لثوريته المنشودة، رغم أنّ المناخ السياسي الذي كان ماثلاً، حرّض بناه وتكويناته على الثورة والانتفاض. وقد تزعّم الحركة الوطنية، التي عادت لتسير بخطاها نحو العنف الذي لاقى صدى لدى الشيوعيين وغيرهم من القوى الوطنية المتحالفة معهم.

اليسار يدفع ثمن خطايا الحرب الأهلية
إنّ الخلط بين الرغبة بتغيير النظام السياسي اللبناني بالاستناد إلى نضالات القوى الشعبية اللبنانية ومطالبها والدعم الفلسطيني المقدّم إلينا، أدى في نهاية المطاف إلى شطط كبير وخسارة معنوية ومادية هائلة. إنّ تطبيقاً واقعياً لبرنامج الحركة الوطنية لم يكن ممكناً، كونه دمج في المحصّلة بين الموقفين: السياسي الاقتصادي الداعي إلى إصلاحات تغيير النظام والعسكري المرتكز إلى أرضية نصرة المقاومة الفلسطينية سياسياً ولوجستياً وبشرياً. وكانت النتيجة ما آل إليه الوضع من هزيمة كبرى لمشروع التغيير، واحتلال إسرائيلي لصيدا والجنوب اللبناني.
لقد ظنّ قادة الحركة الوطنية، وفي مقدمهم الحزب الشيوعي، في منتصف السبعينيات، أي عشية الحرب الأهلية اللبنانية، ومعهم كمال جنبلاط الذي بدا أنّه كان جامحاً نحو الاستيلاء على السلطة وضرب الموازين القائمة، بأنّ باستطاعتهم القفز فوق الواقع الطائفي والطبقي وجذب نهوض الجماهير إليهم، وأخذ مقاليد الأمور بأيديهم لاحقاً، عبر التحالف مع المقاومة الفلسطينية والعصف بأبواب البرلمان اللبناني الذي حاصروه بشعاراتهم وأطاحوا به. لكن غاب عن بالهم أن هذه القوى المتفجّرة، لم تكن حرّة في خياراتها كي تقود معركة خلاصها الوطني والطبقي، بل كانت مجبرة على تجيير كل زخمها وهدرها لحركة الفعل والثقل الفلسطيني المحكومة بالسقف الإصلاحي والتسووي المساوم والمحدّد الرئيس لوجهة الصراع ونتائجه. فبدلاً من أن يستعملوا المقاومة الفلسطينية للعبور إلى التغيير، كما ظنّوا ونظّروا لذلك، استعملتهم هي بالمقابل وحوّلتهم إلى أدوات طيّعة لحركتها المتذبذبة والرجراجة والدائرة في فلك صراعات الأنظمة العربية.
لقد اختلط الأمر عليهم، وفرّطوا بالأولويات والأهداف الأساسية، إلى حدّ أنّهم ابتكروا معادلة خاطئة حكمت سلوكهم، وهي التحالف المصيري بينهم وبين المقاومة الفلسطينية لتحقيق أهداف انتصار الحركة الشعبية اللبنانية بآفاقها التحررية.
لم تكن لدى الحزب الشيوعي والقوى الوطنية الأخرى، التي كثّفت عملياتها بُعيد الاحتلال الإسرائيلي عام 1982، خطّة برنامجية بعيدة المدى


وقد وضعوا لهذا الغرض بيضهم كلّه في سلّتها. وكان لخيار الالتصاق الذي نفّذوه مع كمال جنبلاط وبقيادته، مع حركة ياسر عرفات، أبلغ الضرر عليهم وعلى حركة التحرّر العربية والجماهير اللبنانية في آن. ويبقى القول إنّ حقبة الحرب الأهلية اللبنانية، بخياراتها المغامرة، كانت معبراً بخسائر فادحة نحو التغيير الواهم المنشود، ونحو لبنان «الجديد» الذي هجره شبابه مرة ومرتين وثلاثاً، بسبب أزماته التي لا تُحصى وواقع مجتمعه الذي لا يعِد بآفاق مستقبلية، تتيح لأبنائه الباقين فيه العيش كمواطنين، لا كرعايا للطوائف والمذاهب بأمرائها القدامى والجدد.
كانت الحرب الطائفية المموّهة بشعارات شعبوية وتحرّرية، كما العسكرية، وفشل الحركة الوطنية التي سادها الفساد والانتهازية، قد كلّفت الحزب الشيوعي، كما منظّمة العمل الشيوعي واليسار ككل، خسائر فادحة (أعني باليسار في تلك الحقبة، تماماً ما كانت تمثله الحركة الوطنية بقواها المتعدّدة والمتنوّعة بازدواجيّتها التحرّرية المجتمعية الطبقية). وما زاد الأمر سوءاً، أنّ بنى الحزب كما المنظمة، أخذت تتفكّك وتضيّع ما لديهما من رصيد معنوي ومادي. آلاف الشهداء والعائلات المشرّدة، وقوى وممتلكات خاصة وحزبية، سقطت في ظلّ أزمات داخلية، ومواربات قيادية لمراكز القوى على المستوى المادي والمالي والتنظيمي، وانسداد للآفاق، كلّ ذلك أخذ ينمو ويؤثر سلباً على الواقع. (هنا أقصد مجمل اليسار الممثّل في الحركة الوطنية). كيف تصرّف الحزب الشيوعي؟ بدلاً من أن يسحب نفسه من أتون هذه المحرقة الطائفية، ويعلن حالة طوارئ داخلية وينزل تحت الأرض (بعمل سرّي، نصف علني)، اختارت قيادته الاستمرار في المغامرة والتجريب والنزف ومراكمة الخسائر. خلال تلك المرحلة التي استمرت وتصاعدت، فقَد الحزب الآلاف من أعضائه ومناصريه، في ما يشبه خسارة الحزب الشيوعي العراقي، كما السوري والأردني، في ظروف مختلفة طبعاً.
كذلك، دخل الحزب في صراعات دموية، كان يجب أن لا يدخلها، مع قوى طائفية ومذهبية وجماعات موالية لأنظمة تحرّكها. وعندما وصلت التطوّرات إلى مفصل مؤتمر «الطائف» وما تلاه، كان الاتحاد السوفياتي ومعسكره قد انهارا، (هذا الأمر كان مهماً جداً لاعتبارات عديدة، أوّلها اعتماده الدائم على دعمه مع عدم إرساء دعائم لمؤسسات ذاتية داخلية وخارجية ترفد الحزب بمقدرات مالية تخفّف من اعتماده على الدعم الخارجي)، وبدأت التحوّلات العالمية تفعل فعلها. دخلت العولمة، ونشأ جيل جديد في عالم متغيّر ومتحوّل. وفي لبنان تمكّن «الطائف» من فرض منطقه ومساره وولاءاته.

حقبة الاحتلال الإسرائيلي... المقاومة والعمليات المسلّحة
رغم مساهمة الحزب الشيوعي، كما المنظمة وغيرهما من قوى الحركة الوطنية، في مقاومة المحتل الإسرائيلي ــــــ وتلك ظاهرة كانت مضيئة في تاريخهم، ودفعوا أثماناً غالية بشهداء سقطوا لهم، وأشيد هنا بالنداء التاريخي الذي أطلقه الشهيد جورج حاوي والراحل محسن إبراهيم لمقاومة هذا المحتل الغاصب ــــــ غير أنّ الحزب، وبحدود أدنى المنظمة، لم يتمكّنا من استثمار هذا النضال على المدى البعيد. فبنيتهما المتهالكة ضُعفاً، وخطّهما السياسي العملي الاستراتيجي (أشدد هنا على الاستراتيجي، الذي لم يكن موجوداً لا على مستوى المصير ولا على مستوى المسار، كما النظري)، جعلاهما شبه مغيّبيْن عن مجتمع يتحوّل بمقاييس ومضامين جديدة، وقوى مستجدّة في إطار تنامٍ ملحوظ وسريع للتيارات الإسلامية، وانضباط الأنظمة العربية في حركيّتها. هنا أسمح لنفسي بفتح هلالين لأذكر أنّ القرار الإقليمي والدولي الذي فرض على الشيوعيين، بعد عام 1985، مراقبة عمليات المقاومة ضد إسرائيل التي كان الحزب قد بدأها وطلب الإذن قبل الشروع بها (رواية طلب غازي كنعان من إلياس عطاالله هذا الأمر)، لم يكن مقنعاً لإيقافها وإنهائها. فهذا القرار لم يظهر في مقدّمات مساره، دليل على أنه ألزمهم بذلك، على اعتبار أنّ الحزب كان قد باشر بتخفيف عملياته، ضمن تخبّط في الرؤى والخط الرمادي الملتبس سياسياً واستراتيجياً، وأيضاً لانعدام الإمكانات المادية واللوجستية. واقع الأمر أنّ الاستمرار في هذه العمليات، التي لم تكن على أساس استراتيجية مواكبة المشهد، أقلّها على مستوى بيروت ولبنان السياسي في عهد أمين الجميل، قبل وبعد 6 شباط / فبراير 1984، كان يتطلّب قراراً ورؤى واضحة لم يكونا متوفّرَين. إضافة إلى ما هو مهم وأهم، أنّ إمكانات الحزب وحالته وبنيته، لم تكن تسمح له بلعب هذا الدور، مثلما بدأه حزب الله وحركة أمل، في بدايات مواجهة العدو (1982ــــــ 1985)، فحزب الله الذي ظهر منذ تأسيسه، فتياً، منظماً، وحديدياً في تكوينه وواعداً، شرع يغرف من بحر جماهيري، مستفيداً من تراكم كلّ الأخطاء والخطايا المرتكبة من قبل اليسار، في مرحلة السبعينيات والثمانينيات، وكذلك من أجواء أيديولوجية دينية بدأت تنمو في ظلّ انتعاش القوى المذهبية.
أما الحزب الشيوعي والقوى الوطنية الأخرى، التي كانت قد كثّفت من عملياتها بُعيد الاحتلال الإسرائيلي، عام 1982، وخصوصاً في منطقة صيدا والخط الساحلي وأقسام من الجنوب، فلم تكن لديها خطة برنامجية بعيدة المدى، واضحة ومفهومة. أذكر هنا حادثة حصلت معي في باريس، التي كنت قصدتها كوني غادرت لبنان قبيل الغزو الإسرائيلي بشهر، حيث أقمت فيها، لتعذّر عودتي إلى منزلي في بيروت، ورفضي الإقامة في صيدا تحت ظلّ الاحتلال، إلى حين عودتي في أواخر تشرين الثاني / نوفمبر 1982. كانت صدفة أن التقيت الراحل جورج البطل، وكريم مروة، خلال الاحتفال بعيد صحيفة «الأومانيته» في جناح جريدة «النداء»، إثر تولّي أمين الجميّل الحكم، وفوجئا بوجودي، حيث دار معهما الحوار التالي: «لماذا أنت في باريس؟»، فأخبرتهما أنني هنا ومعي طفلتي مرغماً لأنني لا أستطيع العودة إلى بيروت، التي غادرتها قبيل الاجتياح على أمل العودة بعد مدة قصيرة وحصل ما حصل... ولمّا سألتهما عن الوضع المستجد في لبنان أجاباني: «لقد قرّرنا بناءً على دعوة الحزب لنا، العودة إلى بيروت والاستجابة إلى القرار، ونحن لهذا سنعود قريباً. وبرأي الرفاق هناك، أنّ أمين مختلف عن أخيه، وأنّ انتخابه الذي جرى سيؤسّس لانتهاء القتال، ويفسح المجال أمام النضال الديمقراطي». فكرت ملياً في ما قالاه لي، وخلصت في النتيجة إلى إلغاء فكرة استقراري في فرنسا والعودة إلى الوطن، فأنا لست من هواة اللجوء إلى أوروبا والعيش فيها. ولو كنت من هؤلاء لبقيت في ألمانيا الشرقية، أو فنلندا أو ألمانيا الغربية، حيث عُرض عليّ في الثانية اللجوء إليها بامتيازات مغرية، ثمّ إن سبب تفكيري بعدم العودة كان وصول بشير إلى السلطة، وما يعنيه ذلك. وهذا العامل انتفى باغتياله، كما أنّ الحزب الشيوعي أوعز إلى قيادييه بالعودة و«النضال ديمقراطياً»، فلماذا لا أعود وأنا الذي لا علاقة له بأيّ من التنظيمات ومجرّد يساري شيوعي سابق، وكنت على كل حال «ديمقراطياً»، اتخذت قراري وعدت.
أردت ذكر هذه الحادثة لأنها تُضيء على واقع كان مهيمناً على المناخ السياسي اللبناني، وعلى أجواء بقايا الحركة الوطنية وحالة «الحزب الشيوعي»، إذ لم تكن هناك خطة استراتيجية للحزب قبل الهزيمة وبعدها. وفي زمن الوجود السوري بعد عام 1987، وبدء تحكّمه بمفاصل الأمور، كان الحزب الشيوعي الذي خاض صراعات ومعارك غير مجدية وفي غير مكانها، قد بدا منهكاً، وتعصف به التناقضات والتكتلات والتنافس على القيادة. وبدأ يشهد تسرّب الأعضاء والمناصرين من جسمه وأجوائه. وزاد الأمر سوءاً، مع انهيار الاتحاد السوفياتي، فبدا عارياً بعدما بدّد إمكاناته المعنوية والمادية. وكانت عمليات المقاومة قد تضاءلت ولم يعد ينفع معها الاستيلاد. حينها، ظهر حزب الله حديدياً، مقاوماً، مرتكزاً على خلفية داعمة بحدود قصوى من الحكم الإسلامي في إيران، الذي شرّع استراتيجية المقاومة وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي بالقوة، مبدياً كذلك استراتيجية طويلة المدى.

عن لقاء السيد حسن نصرالله بجورج حاوي
هذا يوسف مرتضى يقول في «نداء الوطن» 20/6/2020 العدد 284: «طلب منّي الرفيق جورج حاوي أن أدبّر له موعداً مع السيد حسن نصرالله، أمين عام حزب الله، وكان ذلك في ربيع 1998، كوني صديقاً لعضو المكتب السياسي في حزب الله الحاج محمد سعيد الخنسا، وذهبنا معاً والتقينا بسماحته، بحضور الأخ أبي سعيد. في هذا اللقاء، شرح جورج وجهة نظره حول أهمية تأمين الالتفاف الوطني حول المقاومة، وكي لا يكون تطييفها سبباً لانقسام اللبنانيين عليها، بدل أن تكون عامل توحيد لهم، واقترح جورج على سماحته التعاون لتشكيل مجلس أعلى للمقاومة برئاسة السيد نصرالله، وعضوية الرؤساء والأمناء العامّين للأحزاب التي شاركت في أعمال المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي في المرحلة السابقة بمشاركة بعض الأشخاص، منهم النائب جان عبيد والراحل نسيب لحود، بهدف تشكيل غطاء وطني للمقاومة. جواب السيد حسن نصرالله كان: هل يسمح السوريون بذلك؟». مهلاً... ولو! خذني بحلمك يا رفيق أقول وأعلّق: هل هذا معقول؟!... كانت المشكلة في السوريين، أم أنّ العيد انتهى والتحرير حصل بعد سنتين... هل كان ممكناً أن يمنحوا كل هؤلاء المذكورين شرف إنهاء الاحتلال بالقوة! ولو... أين المنطق؟! ولو قبلت سوريا... هل يقبل الآخرون... لماذا سيتم منح الشيوعيين، ببقاياهم ومشكلاتهم، هذا الشرف الكبير والإمكانات الرحبة على الآفاق الاستراتيجية المقبلة؟
ويصح هنا قول المثل الشعبي: «يطعمك الحجة والناس راجعة»! أعود فأكرّر، أصبح الحزب الشيوعي في تلك المرحلة في حالة لا تمكّنه أبداً من متابعة دور المقاومة إلا رمزياً. ليعترف القادة والأذكياء والأغبياء بذلك، وكفى اتجاراً بالمقاومة. كيف بدأت ولماذا انتهت لدى الشيوعيين وبأي قرار؟ هل كان من الممكن لو أنّ القرار لم يصدر ـــــ وأنا غير مقتنع به ـــــ أن يتابع الحزب الشيوعي، آنذاك، وما يجمع من أصدقاء وحلفاء، المقاومة المسلّحة لإخراج المحتل الإسرائيلي؟
قليلٌ من التواضع! ولا ضرورة لتعليق كل الفشل على الغير. الآن، وقد وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، من تدهور سياسي وانحطاط كاملَين وأزمة اجتماعية خانقة، اقتصادياً وحياتياً، وحصلت الانتفاضة الشعبية، في 17 تشرين الأول / أكتوبر 2019، أين هو الحزب الشيوعي، في تاريخه وموقعه عشية عام 1975، ممّا يحصل اليوم؟
ما زال يعمل؟ نعم، ولكن كيف؟ إلى أين؟ ماذا عن بنيته؟ وحدته التنظيمية، مراجعة تاريخه، استراتيجيته الفكرية والسياسية؟ لبنان الحديث مأزوم منذ التأسيس، وهو راهناً يعيش هبّة شعبية مضطربة، كثر يريدون أن يطبخوا فيها، بينما تتنوّع أهدافهم ومقاصدهم. الحركة الشعبية الماثلة ـــــــ مضافاً إليها ما وفد إلينا من فيروسات الـ«كورونا»، التي عقّدت الوضع أكثر ممّا هو معقّد ـــــــ تعيش وتعاني من أزمة برنامج، وصدقية قيادة خارج الأطر الانتهازية الوصولية. صحّ القول إن «الوجع كبير والأزمة قديمة أساسها بؤس التكوين والتطوير»، مع ذلك يجب على الأعيُن أن تستمر مصوّبة ضد مؤامرات التجويع والتخويف. إنّ السعي لإنجاح التغيير، يكون بضرب الفساد من جذوره وتعزيز الأمن الاقتصادي لكسب المناعة ضد استهدافات إسرائيل وداعميها.

* كاتب وسياسي لبناني