في نهاية الأمر، لم يكن مناهضو أميركا وأعداء المنظومة الغربية هم من أوقف زحف العولمة و«تسطيحها» للكوكب، بل شاء القدر أن تنتهي هذه الحقبة على يد أميركا نفسها. الثمانينيات والتسعينيات كانت مرحلة «استيعاب»، حين كان الجميع مدعوّاً للانضمام إلى منظومة «السوق العالمي الحرّ» والاندماج في الاقتصاد المُعَولم. الفكرة كانت أنّك ستتخلّى عن جزءٍ أساسي من سيادتك الاقتصادية، وتُحرّر سوقك في الداخل وتفتحه على التجارة الحرّة خارجيّاً. ولكن، في المقابل، فإنك ستعيش في عالمٍ «يرتكز إلى قواعد» (منظمة التجارة العالمية، الاتفاقات الدولية، أنظمة التحكيم، إلخ)، وهذه القوانين السوقيّة المحايدة ستكون ضمانتك، وأنّ أميركا ــــــ الفاعل الوحيد الذي يقدر على «حالة الاستثناء» بتعبير كارل شميت ــــــ لن تمارس هذه السّلطة وستكتفي بدور الحارس لمنظومة السوق ولن تُخضع الاقتصاد للسياسة.
ملصق إيراني ضد الهيمنة الأميركية

كانت الدول «المعزولة» عن المنظومة قليلة وصغيرة، العراق أوّلاً ثم يوغوسلافيا وكوريا الشمالية، وكانت العقوبات التي تحاصرها أمميّة الطابع (والعقوبات الأميركية الأحادية كانت أقل عمقاً وأثراً بكثير، تقتصر غالباً على منع الشركات الأميركية من التعامل مع بلدٍ ما أو قطاعات وشخصيات فيه). اليوم، هذا كلّه تغيّر ولم يعُد العالم «مسطّحاً»، بحسب التعبير الانتصاري لتوماس فريدمان قبل عقدٍ ونصف؛ السياسة الأميركية الجديدة قرّرت ذلك (وبمساعدةٍ أيضاً من الوباء وتأثيراته المتشعّبة). لا يهمّ المصير الآني لـ«الهدنة» التجارية بين الصين وأميركا، والمصالح بين الصين والغرب أصبحت متشابكة لدرجة أنّ سيناريو «القطع» ــــــ decoupling ــــــ أو العزل الفوري مستحيل: عدا عن اعتماد سلسلة الإنتاج الغربية بكثافة على موردين صينيين، فإنّ أكثر الشركات الغربية تملك مصانع وشراكات في الصين، وهذه مصالح لا يمكن تصفيَتها واستبدالها في أشهر أو سنوات قليلة؛ ولهذا السبب، فقد تسبق التوترات «الجيوسياسية»، من ملف بحر الصين إلى ملف هونغ كونغ وشينجيانغ، الحرب الاقتصادية المفتوحة بين أميركا والصين. الأساس هو أنّك، حين تفقد الثقة بحيادية المنظومة وضماناتها، فإنّ بلدك يبدأ تلقائياً بالعمل ضمن عقلية مختلفة: كيف تحمي نفسك وكيف تتحوّط للأسوأ؟ وهكذا تبدأ دينامية تغييرٍ تتسارع ولا يمكن وقفها. في «ساوث تشاينا مورننغ بوست»، مقالٌ كتبه رئيس التحرير السابق للصحيفة، يانغ شيانغوي، يشرح فيه أنّ القيادة الصينية تتداول فكرة جديدة اسمها «نظرية الدورة المزدوجة» في تسيير الاقتصاد، وأنّها ستكون في قلب الخطة الخمسية المقبلة، التي ستُقرّ قريباً (2021 ـــــ 2025). التعبير هو شكلٌ جديد من نظرية «الاعتماد على النفس»، التي وجّهت نمط التنمية في الخمسينيات والستينيات، حين كانت الصين معزولة أميركياً، ثم قطعت علاقتها بالاتحاد السوفياتي، فلم يكن هناك من بديلٍ عن الانكفاء إلى الداخل. «الدورة المزدوجة» تركّز أيضاً على تدوير الإنتاج والاستهلاك ضمن البلد (من دون القطع مع السوق الخارجي)، وأن تكون الصين قادرة على «الاستقلال» تكنولوجياً ومالياً، في حال وقع الانفصال مع المنظومة الغربية. استفادت الصين من مرحلة «الانفتاح» والتصالح (أو الهدنة الطويلة) مع أميركا على أكثر من مستوى خلال العقود الماضية. عدا عن الاقتصاد والتقنية والنمو، استغلّت الصين التقارب مع الغرب لاستعادة هونغ كونغ وماكاو مثلاً (هل كان ذلك ليحصل، وبالشكل نفسه، لو ظلّت الصين تحت المقاطعة؟) وأبقت بكين على مطالبتها بتايوان باعتبارها إقليماً منشقّاً. ولكن هذه المرحلة أيضاً قد انتهت، وعلى الصين ــــــ بحسب شياو بينغ ــــــ أن تستجمع نقاط القوة التي راكمتها وتتحضّر لمستقبلٍ مختلف.
بكين اليوم، وليس موسكو أو طهران حتّى، هي العاصمة الوحيدة التي لا تنتظر نتيجة الانتخابات الأميركية المقبلة، أو تراهن على فوز مرشّحٍ معيّن، فسياسة واشنطن لن تتغيّر تجاهها أيّاً كان الفائز. مرحلة احتواء الصين وتشذيب قوتها «من ضمن قواعد السوق»، أي استراتيجية باراك أوباما في نسج تحالفاتٍ وشراكات تجارية بديلة، ومحاصرة بكين بتكتلات آسيوية موالية لأميركا، قد انتهت وانقضت مع نهاية عهده؛ وأصبحت المواجهة المباشرة هي المنهج الوحيد المتبقّي. الحزبان في أميركا، إن كانا يتّفقان على أمرٍ اليوم، فهو «حتمية» مواجهة الصين، على كلّ الجبهات، كأولوية عليا للسياسة الخارجية الأميركية. هذا المقال ليس عن الصين، ولكنّ الصين هي دائماً في الخلفيّة. سنعرض هنا، باختصار، تجربة بلدٍ حاول التأقلم مع سياق العقوبات والعزلة في السنوات الماضية، هو إيران، وكيف أوصل تحوّل العلاقة مع السوق الدولي إلى تغييرات عميقة في قلب البلد وبنيته الداخلية ومستقبل السياسة فيه (مع ملاحظة عن مفهوم «دولة الرعاية» في إيران).

كيف تستقل عن النفط؟
بين عام 2010 و2020، تلقّى الاقتصاد الإيراني صدمتَين كبيرتَين (أو صدمتَين ونصف). عام 2012 ــــــ 2013، وصلت العقوبات على إيران إلى مرحلة العزل شبه الكلّي (عدا عن «استثناءات» كانت توافق عليها الحكومة الأميركية) وأصبح بيع النفط الإيراني كبيع السلاح المهرّب، وتوقفت فوراً الاستثمارات الخارجية في إيران. عام 2018، حصلت صدمة مشابهة مع خروج دونالد ترامب من الاتفاق النووي، انقطع بعدها تقريباً تصدير النفط الإيراني وانسحبت غالبية الشركات الأجنبية من البلد وأوقفت مشاريعها؛ وما كاد الاقتصاد الإيراني يبدأ باستعادة توازنه، عام 2019، حتى أتى وباء «كورونا» والأزمة العالمية ليرجع النموّ إلى السالب.
خسر المستهلك الإيراني في المعدّل، خلال هذا العقد المضطرب، ثلث قدرته الشرائية تقريباً، وانهارت العملة إلى ما يقارب عشر قيمتها قبل اشتداد العقوبات (بسعر السوق الحرّة). إلّا أنّ هذه المرحلة تُخفي دروساً وتغييرات أبعد بكثير من هذه الأرقام ــــــ التي لا تعني شيئاً كثيراً من غير تفسيرٍ وسياق. ما زلت أذكر، على سبيل المثال، التقارير التي كانت تنشرها الصحافة الغربية (وبعض مراكز الأبحاث والمنظمات الدولية) والتي تؤكّد أنّ الدولة الإيرانية «تحتاج» إلى سعر نفطٍ يفوق الـ90 دولاراً فقط لكي تغطّي موازنتها، أو تنهار الماليّة العامّة. وإيران، منذ ما قبل العقوبات، لا تملك احتياطات هائلة بالدولار مثل روسيا أو السعودية، وقد أمضت أكثر العقد الماضي وهي إمّا لا تصدّر النفط تقريباً، أو تبيع أقل من نصف قدرتها، وسعر النفط في الحضيض. أكثر من ذلك، فإيران مقطوعة عن أسواق المال العالميّة ولا يمكنها أن تستدين في سنوات القحط؛ إن نفدت دولاراتها فهي ستعجز فوراً عن استيراد حاجاتها. والبلد حصّل خلال السنة الماضية (حتى آذار/ مارس 2020)، مثلاً، أقل من تسعة مليارات دولارات من بيع النفط ومشتقّاته، وهو مبلغٌ تافه حتى ولو قارنّاه بسنوات الثمانينيات، فكيف لم يُصِب الانهيار هذه «الدولة النفطية الريعية» بعد هذه الصدمات؟ ولم تحصل مجاعة، ولم يتدمّر مستوى الاستهلاك أو تنقطع الخدمات العامّة؟ وهذا بعد عقودٍ من الحصار والحرب الاقتصادية، فيما الدول النفطية المجاورة، ما إن ينخفض سعر البترول، حتى تقع موازناتها في عجزٍ هائل وتبدأ بالاستدانة وإفراغ الاحتياطات؟
العقوبات، بمعنى ما، أجبرت إيران على تنفيذ الهدف الاقتصادي الذي تتكلّم عنه دول المنطقة منذ اكتشاف النفط ولم تصل إليه: أن تتمكّن دولةٌ «حباها» الله بالثروة النفطية على الاستقلال عن هذا المورد، وعن شكل الروابط التي ينسجها بينك وبين السوق الدولي ومنظومة الدولار ـــــ وكان على إيران أيضاً أن تستغني عن مركزية النفط وسط حالة حصارٍ وأزمة. يكتب الاقتصادي الإيراني اصفنديار باتمانجليدي في «بلومبرغ»، أنّ الصادرات الإيرانية «غير النفطية» قد فاقت، السنة الماضية، الصادرات النفطيّة بفارق هائل (41 مليار دولار مقابل أقل من 9 مليارات لصادرات النفط الخام)، ويجزم بأنّ القطاع الصناعي التصديري، الذي نما وتوسّع في السنوات الأخيرة، قد «أنقذ» إيران في هذه المرحلة، عبر تأمين القطع الأجنبي حين شحّت عوائد النفط. هناك توقّعات بأن تقلّ قيمة صادرات النفط هذه السنة عن الـ5 أو 6 مليارات دولار، ما يعني أنّ أميركا لو فرضت عزلةً من هذا النمط على إيران قبل عشرين عاماً، حين كان هناك سعر صرفٍ موحّداً، ولم يكن هناك «اقتصاد مقاومة»، أو صادرات صناعية بعشرات مليارات الدولارات، واكتفاء ذاتي من القمح وأكثر الغذاء، لكان من المستحيل على البلد أن يغطّي حاجاته الأساسية.
بكين اليوم هي العاصمة الوحيدة التي لا تنتظر نتيجة الانتخابات الأميركية المقبلة فسياسة واشنطن لن تتغيّر تجاهها أيّاً كان الفائز


بالمعنى «التقني»، هناك استراتيجيّتان اعتُمدتا هنا. أوّلاً، بدلاً من المراهنة على بيع النفط والغاز مباشرة للخارج (وهو ما تميل إليه أيّ نخبة في العالم الثالث تقع تحت يديها ثروة نفطية: أن تنتج وتصدّر الحدّ الأقصى مقابل دولاراتٍ «فورية» لن تحصل على مثيلها من الإنتاج المحلّي)، فقد أجبرت العقوبات المخطّطين على البحث عن سبلٍ بديلة لتحويل موارد إيران إلى صادرات. من السهل على أميركا وغيرها، تقنياً، تتبّع شحنات النفط الخام، فأماكن تصديره وتحميله قليلة ومعروفة، ومنافذ بيعه (وهي مرافئ متخصّصة أو مصافٍ) من الممكن مراقبتها بسهولةٍ أيضاً. ولكن من الأصعب بكثير أن تراقب وتحصي شحناتٍ من السلع المصنّعة المختلفة: البلاستيك مثلاً، أو الفولاذ، أو حتى المشتقّات النفطية؛ فهذه يمكن بيعها بوسائل متعدّدة وعبر وسطاء ونقلها من تاجرٍ إلى آخر حتى يضيع أصلها؛ فالعقوبات عليها تظلّ أقل فاعلية بكثير من الحظر النفطي. كانت إيران مستورِداً كبيراً للفولاذ على المستوى العالمي في التسعينيات، ولكنها صدّرت قرابة العشرة ملايين طنّ من الحديد إلى الخارج في السنة الماضية. البيتروكيميائيات أصبحت مورداً ضخماً للدولارات لا يقلّ عن النفط (الأهمّ هو أن الشركات الإيرانية قد تمكّنت من تصميم هذه المصانع والمصافي وبنائها بنفسها، وإلّا لكان توسيع هذه القطاعات مستحيلاً في ظلّ الحصار والعقوبات). والبيتروكيميائيات هي وسيلة لتصدير النفط والغاز بعد تحويله وإضافة قيمةٍ عليه، والفولاذ هو ـــــ جزئياً ـــــ تصديرٌ للطاقة (أي الغاز أيضاً) على شكل سلعة. والشركات الإيرانية التي تمتلك هذه الصناعات التصديرية (بيتروكيميائيات، فولاذ، أدوية، صناعات غذائية…) تشكّل معظم قيمة بورصة طهران اليوم.
من جهةٍ أخرى، حصل تركيزٌ على التشبيك في التجارة مع دول الجوار، والتصدير بشكلٍ مباشر إلى العراق وأفغانستان وتركيا ودبيّ. هذه صادرات، كما يقول باتمنجليدي، ليست هائلة بالمقياس العالمي، ولكنّها «تصمد» وتستمرّ أمام الأزمات الدولية والعقوبات. جعل انخفاض العملة الإيرانية هذه السلع تنافسية، وتؤمّن الصادرات إلى الدول المذكورة أعلاه أكثر من عشرين مليار دولارٍ سنوياً لإيران اليوم. كما أنّها صادرات متنوّعة (من الوقود إلى المواد الغذائية والاستهلاكية المختلفة)، فلا ترتفع قيمتها وتهبط بشكلٍ فجائي كأسعار النفط.

إجراءات استثنائيّة
ولكن، قبل هذا كلّه، يبدأ السؤال من الحاجات. هذه القطاعات النامية في إيران تعوّضها عن النفط لأن إيران تحتاج سنوياً، في سنوات الحصار وإن استثنينا تأثير الـ«كورونا»، ما يقارب الخمسين مليار دولارٍ لتغطية وارداتها، فيما صادراتها «غير النفطية»، وحدها، أصبحت تقارب هذا القدر. حجم الصادرات هذا ليس كبيراً البتّة بالنسبة إلى بلدٍ في حجم إيران. هو يصنع تأثيراً لأنّ واردات إيران اليوم، في المقابل، هي صغيرة بشكلٍ استثنائي بالنسبة إلى بلدٍ في حجمها ومستوى استهلاك شعبها ومعيشته (للمقارنة، فإنّ لبنان الذي يصغر إيران عشرين مرة استورد بقيمة عشرين مليار دولار عام 2018). التصدير، إذاً، ليس الأساس هنا؛ العامل الفارق هو أنّ البلد ينتج ــــــ أصلاً ــــــ أكثر سلعه واستهلاكه داخلياً ولا يحتاج إلى دفقٍ هائلٍ من الدولارات لتغطية حاجاته. الصعوبة الحقيقية هي في بناء هذا القطاع الإنتاجي الداخلي، قبل أن تبدأ بالتصدير، فلا يعود موقعك أمام السوق الخارجي ضعيفاً وهشّاً. والواردات الإيرانية، إن تفحّصتها، أكثرها مواد أولية ومواد وسيطة، أو ماكينات صناعية أو أعلاف وذرة لإنتاج اللحوم ـــــ أي الحدّ الأدنى الممكن استيراده لأيّ بلد.
يقول علي القادري باستمرار إنّ الدول في العالم النامي لا يمكن لها أن تمتلك سيادة اقتصادية بغير أن تتمكّن من التحكّم بالاستهلاك والاستيراد، وهي لن تقدر على ذلك سوى عبر اعتماد أسعار صرفٍ متعدّدة لعملتها، وبرمجتها باستمرار بحيث تكون عملتك «ضعيفة» تجاه الخارج و«قوية» تجاه الداخل، وتكون لعملتك قيمةٌ مختلفة بحسب الاستخدام (فيصبح استيراد المواد الاستهلاكية، مثلاً، باهظ الثمن، بينما شراء القمح، أو المواد الوسيطة للصناعات، رخيصاً ومتاحاً). هذه السياسة التي كانت شائعة في أواسط القرن العشرين تُعتبر «تجديفاً» مطلقاً اليوم بالنسبة إلى المنظّمات الدولية وبيوت الخبرة والأورثوذوكسية الاقتصادية. وإيران، بالفعل، كانت قد سعت لسنواتٍ لتوحيد سعر الصرف لديها، ولكن اشتداد العقوبات خلال رئاسة أحمدي نجاد أجبرها على عكس الآية والعودة إلى أنظمة الصرف المتعدّدة. أنت، حين تقرأ عن سعر الريال الإيراني اليوم، فهو غالباً سعر «السوق الحرّة» في طهران، وهو لا يمثّل فعلياً كلفة الدولار في البلد. دولار «السوق الحرة»، هو الدولار الذي تحصل عليه لغاياتٍ مثل استيراد سلعٍ كمالية أو السفر إلى تركيا أو تخزين النقد في بيتك. هناك سعرٌ آخر للدولار، ثابت ومدعوم، هو اليوم أقل من خمس سعر السوق الحرّة، وهو السعر الذي يتمّ عبره استيراد الأساسيات والأدوية والغذاء. وهناك سعرٌ ثالث بين الاثنين هو سعر «المنصّة»، وهي مركز صرفٍ تجبر الحكومة شركات التصدير على إيداع دولاراتها فيه، وفي المقابل تحصل منه الشركات الإيرانية على حاجتها من القطع الأجنبي، وهو يشكّل بذلك سوقاً مغلقة لها سعرها الخاص.
بتعابير أخرى، هناك حجّةٌ تقول إنّ هذه السياسة، التي يحرّمها «نظام العولمة»، هي الوسيلة الوحيدة لجعل صادراتك تنافسية من غير أن تدمّر معيشة شعبك، وأن تكون لرواتب الناس قدرة شرائية تغطّي حاجاتهم الأساسية من غير أن تفتح البلد على الاستيراد الاستهلاكي. هذه الإجراءات، مثل فكرة «الاعتماد على النفس» وخفض الاستيراد ما أمكن وتجنّب تصدير خاماتك الطبيعية، لم تكن حكمةً رائجة في السنوات الماضية ولكن، من دون هذه المنهجية، لكانت إيران اليوم في مكانٍ مختلف تماماً. الصمود الاقتصادي هنا لا يقلّ أهمية عن الصواريخ، والانهيار على جبهةٍ واحدة يكفي.
فوق ذلك، فإنّ هذه التحوّلات التي جرت تحت ضغط الأزمة والعقوبات لها تأثيرات سياسية بعيدة المدى. تاريخياً، كانت البرجوازية الإيرانية في القطاع الخاص، والتي تتولّى التبادل مع السوق العالمي، هي فئات البازار والتجار في قطاع الاستيراد والتصدير. كان هؤلاء من يمتلك الدولارات في البلد (كغالبية دول العالم الثالث)، ومن مصلحة هذه الطبقة عموماً أن يتعزّز الاستيراد والتبادل مع الخارج، وأن تستثمر الشركات الأجنبية في البلد، وتفتح فيه فروعاً يكونون هم وكلاؤها ووسطاؤها ــــــ وكثيراً ما يحصل تحالف وتشابك بين البرجوازية التجارية وبين البيروقراطية التي تتحكّم بعوائد النفط وتوجّهها للاستيراد والاستهلاك. اليوم في إيران أكثر الدولارات تنتج، كما أسلفنا، عن الصناعات التصديرية، وهذه الشركات (أكثرها مملوك من مزيج من رأس المال الخاص وصناديق ومؤسسات عامة) تمثّل، بنيوياً، نمطاً مختلفاً من البرجوازية: مصالحها مرتبطة بالدولة، أرباحها تعتمد على حق الوصول إلى الموارد العامّة ومدّها بالطاقة أو الغاز الرخيص، وليس في صالحها أن تأخذ مكانها شركات أجنبية أو تزاحمها على الموارد الطبيعية. أكثر التراكم الرأسمالي سيحصل في هذه الفئة والقطاعات المرتبطة بها (شركات هندسية، شركات خدمات، إلخ)، وهم من سيمتلك الدولارات والاستثمارات الكبرى ـــــــ وبالتالي الصوت السياسي ـــــــ في قطاع الأعمال مستقبلاً، بدلاً عن النمط التجاري التقليدي الذي هشّمته العقوبات.

خاتمة: مصائر الدولة الاجتماعية
بعيداً عن التحليلات السطحية التي سادت في الغرب حول إيران ومرحلة الثورة وما بعدها، من نظرية «الدولة الريعية» إلى نظرية «الدولة الدينية» (في بلادنا، ما زال البعض يحلّل ظاهرة الخميني عبر مقولاتٍ مثل «رصاصة انطلقت من القرن السابع الميلادي لتستقرّ في قلب القرن العشرين...»)، هناك باحثٌ شاب اسمه كيفان هاريس من بين عددٍ متزايد من الأكاديميين يدرسون الأساس الاجتماعي لإيران ما بعد الثورة (كتابه اسمه «ثورة اجتماعية: السياسة ودولة الرعاية في إيران»، منشورات جامعة كاليفورنيا 2017، وهو مترجمٌ أيضاً إلى الفارسية). يعتبر هاريس أنّ إيران «الثوريّة» هي ما يمكن تصنيفها على أنّها «دولة تنموية معادية للمنظومة». أي دولة تحاول تحقيق المهمّة التنموية (مثل الصين أو البرازيل أو إيران الشاه أو أكثر دول العالم الثالث في القرن العشرين)، ولكنّها في حالة تحدٍّ وعداء مع القوى الدولية المهيمنة، ومعرّضة لحروبٍ وعقوبات. هذا يجبر الدولة الثوريّة، على عكس دولة الشاه «التنموية من فوق»، على تحشيد الفئات الشعبيّة للحفاظ على النظام والدفاع عنه في الحرب، كما جرى خلال حرب العراق حين تأسّست آلاف المنظّمات الشعبية التي تقوم بأدوار اجتماعية وتعبوية وطبّية واقتصادية وإغاثية.
في الوقت ذاته، يقول هاريس، لم ينتج عن النخب الثورية التي حكمت إيران «حزبٌ واحد» حاكِم، أو تنظيمٌ يجمع مصالحها ويوحّدها، بل امتازت مرحلة ما بعد الثورة وحرب العراق بتعدّد الأقطاب والأجنحة والتنافس ضمن النخب الحاكمة، وهذا التنافس كان يجري أيضاً عبر التحشيد الشعبي وتسيير المنظمات الاجتماعية وكسب النفوذ داخلها (لذلك كثيراً ما يجري تفسير الاحتجاجات والتظاهرات في إيران على أنّها تحشيدٌ من جناحٍ سياسي ضدّ آخر). هذا المزيج في رأي هاريس هو ما أنتج شكلاً خاصّاً من دولة الرعاية ــــــ يسمّيه أيضاً «دولة رعاية الشهيد» ـــــــ هو نموذج للدعم الاجتماعي «من تحت»، عبر شبكات اجتماعية واسعة ومتداخلة وشعبيّة. مقابل نموذج الشاه، حيث كانت دولة الرعاية تمارس عملها «من فوق»، أي تدعم فئات معيّنة بحسب تصنيفات بيروقراطية (موظّفون، جيش، باحثون، إلخ) والباقي يحصل على ما يشبه «العطايا الملكية» التي يجود بها الحاكم على الفقراء.
دينامية التحشيد والتنافس، يزعم هاريس، هي ما حدّد شكل الدولة الاجتماعية في إيران ونمط السياسة ما بعد الثورة. ولكن التحدّي، يضيف الكاتب، هو حين تصل هذه الأنظمة الاجتماعية في الدول متوسطة الدخل إلى مفترق طريق: إمّا أن توسّع نظام الرعاية لديك ليصبح على طريقة أوروبا الغربية، أي نظام متقدّم ولكن بكلفة عالية (فبناء مدارس إعدادية في الثمانينيات أقل كلفة بكثير من تأمين تعليم جامعي عالٍ للطبقة الوسطى الكبيرة التي نشأت بعد الثورة، ونشر عيادات بسيطة في الأرياف أرخص من كلفة طبابة متقدّمة ومتخصّصة للجميع)، أو أن تبدأ بتقنين الدولة الاجتماعية وحصر بعدها الشعبي، والعودة إلى ما يشبه دولة الشاه التنموية ـــــــ البيروقراطية التي تترك الكثير من الناس خارجها. سوف تنعكس هذه الخيارات على الاصطفافات والتنافس السياسي في إيران مستقبَلاً، ولكن مسار التصادم مع الغرب، وضرورات الدفاع والحصار، ستلعب دوراً لا يقلّ عن دور السياسة الداخلية في توجيه البلد. وفي عالم «ما بعد كورونا»، عالم الصراع الأميركي ـــــــ الصيني، حيث تتقطّع أوصال العولمة كما نعرفها، ويبدأ بالاختلال النظام المالي الذي يسند كلّ شيء، فقد تعود أسئلة من نمط «ماذا تنتج» و«من أين تأكل» و«النموذج التنموي» إلى صدارة الأولويات، بعدما كادت تختفي في عالمٍ «مفتوحٍ» يحكمه السوق، بلا مواطنين ولا سيادة.