الطائفية، الطوائف والمذاهب، التركيبة التعدّدية اللبنانية، لعلّها العبارات الأكثر تداولاً في يومياتنا السياسية المقيتة. هي كلمات لازمت الكيان اللبناني منذ نشأته، وترسّخت وتترسّخ تداعياتها على امتداد ماضينا وحاضرنا. على أنّ إحدى مفارقات الواقع اللبناني، هي أنّ كتب التاريخ المدرسية لم تذكر سوى صخب إعلان ولادة «لبنان الكبير» من جانب الجنرال هنري غورو المندوب السامي للانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا، وذلك في احتفال قصر الصنوبر في 01/09/1920. ولكنّ ذلك الإعلان ليس عموم الرواية، فلكلّ رواية شيطانها الكامن في التفاصيل. ولعلّ أبرز تلك التفاصيل، أنّ لبنان كان منذ نشأته، ولا يزال، أسير التركيبة الطائفية والتوازنات الإقليمية والدولية.
(أ ف ب )

كان لبنان (لبنان المتصرفية)، في زمن السلطنة العثمانية، صغير المساحة بلا سهول زراعية أو منافذ بحرية مؤهّلة لحركة تجارية، ما أدّى إلى خسارته حوالى ثلث سكّانه نتيجة المجاعة التي ضربته، خلال الحرب العالمية الأولى. لكنّ الحرب المذكورة أفرزت توازنات جديدة أدّت في ما أدت، إلى خسارة الأرثوذوكس لراعيتهم التاريخية روسيا القيصرية بعد انتصار الثورة البلشفية وسقوط آخر القياصرة. والأمر نفسه انسحب على المسلمين السُنّة الذين اعتبروا أنفسهم خاسرين بهزيمة السلطنة العثمانية. أمّا الدروز الذين حالفوا بريطانيا، منذ فتنة 1860، فتكفّلت مفاعيل سايكس ـــــ بيكو بإنزال الخسارة بهم، بما أنّ لبنان كان من حصّة فرنسا، في حين أنّ الشيعة في لبنان خاسرون تاريخياً، حيث لازمتهم ألوان الاضطهاد المذهبي المتعاقِب منذ أيام المماليك وصولاً إلى نهاية الوجود العثماني وما تلاه.
كان الموارنة الرابحين الوحيدين فعلياً، بانتصار «أمّهم الحنون» فرنسا. وعليه، فقد أعلن الجنرال غورو، بالاتفاق مع البطريرك الحويك، قيامة «لبنان الكبير»، بعدما أضيف للبنان المتصرفية، السهول (عكار والبقاع والجنوب) والموانئ (بيروت وطرابلس) وباقي المدن الساحلية، وذلك بالاستفادة من درس المجاعة التي ابتلي بها لبنان المتصرفية إبان الحرب.
ويحدّثنا شيطان التفاصيل أنّ «لبنان الكبير» هذا، لم يتّفق عليه فعلياً سوى غورو والحويك. أمّا معارضوه، فأكثر من أن يُعدّوا ولكلٍّ أسبابه وخلفياته. فرنسياً: أبدى روبير دو كي الذي كان آنذاك معاوناً أول لغورو معارضته الشديدة، نتيجة ضمّ مدينتي بيروت وطرابلس للكيان الجديد، معتبراً أنّ من شأن ذلك أن يقلب المعادلة السكانية، عاجلاً أم آجلاً، لصالح المسلمين السنّة. أمّا جورج كاترو الذي كان حاكماً لدمشق فقد شاطر دو كي معارضته، ولكنّه خالفه من حيث النظرة إلى طبيعته، معتبراً أنّ إقامة كيان متميّز بتوجهاته المسيحية على حساب سوريا الإسلامية، من شأنه أن يسبّب لفرنسا عداوة الأكثرية الإسلامية.
في الداخل اللبناني، وفيما عدا الجزء الأكبر من الموارنة الذين خرج من بينهم من عارض الكيان الجديد بشدّة، فقد أجمعت باقي المكوّنات الطائفية بمعظمها على رفضه. أرثوذكسياً، صرّح المطران غريغوريوس حداد الذي لقّبه السوريون بـ«بطريرك العرب»، أمام لجنة كينغ ـــــ كراين الأميركية، بأنّ «النصارى الأرثوذكس في هذا البلد، عرب غساسنة تدعونا عروبتنا لنكون يداً واحدة مع أبناء قومنا، ومع الدولة العربية الشريفية التي ارتضيناها وقبلناها». ولا يخفى على أحد الصراع التاريخي بين الموارنة والروم الذين لطالما اشتهروا تاريخياً بمقولة «التركي ولا بكركي» و«رب ثلاثين ولا جزين». ولم يشذ الكاثوليك عن رأي الأرثوذكس، حيث يذكر فواز طرابلسي في كتابه «تاريخ لبنان الحديث» أنّ «غالبية سكان زحلة مثلاً، الحاضرة ذات الأكثرية الكاثوليكية، صوّتت إلى جانب الانضمام إلى سوريا وضد الانتداب».
أما السُنّة الذين لطالما راودهم حلم الوحدة العربية، فكان رفضهم قاطعاً. ويقول المؤرّخ د.عبد الرؤوف سنو عن الموقف الإسلامي بشكل عام: «لأسباب دينية وديموغرافية وتاريخية، رفض المسلمون الكيان الجديد، وتطلّعوا إلى عمقهم العربي ـــــ الإسلامي، وبخاصة إلى سوريا، معتبرين أنّ دولة لبنان الكبير هي كيان بحدود مصطنعة وقوانين علمانية، ونتاج إدارة استعمارية وثقافة مسيحية غربية، وأنه إسفين دق في صدر بلاد الشام...». وعلى أساس هذا الموقف، قاطع سُنّة المدن إحصاء سكان «لبنان الكبير»، عام 1922، ورفضوا الحصول على الهوية اللبنانية، كما رفضوا المشاركة في الحياة السياسية، وامتنعوا عن قبول الوظائف العامّة في دولة «لبنان الكبير».
طبعاً، لم ترُق إقامة «لبنان الكبير» للدروز الذين لطالما تناحروا مع الموارنة أثناء الفتن التي عصفت بجبل لبنان، باعتبار أنّ الغلبة في الكيان الجديد للموارنة. ومن نافل القول إنّ المسلمين الشيعة كانوا من المعارضين أيضاً، إذ أطلقوا من «مؤتمر وادي الحجير» (24/04/1920) مقاومتهم لمواجهة الاستعمار الفرنسي ومشروعه التقسيمي، ودعماً للحكم العربي.
حتى الصهاينة، كان لهم رأيهم بلبنان «الخطأ»، حيث يورد المؤرّخ لويس صليبا، في كتابه «لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي»، أنّ «بن غوريون أوّل رئيس وزراء في إسرائيل، والذي اجتمع بالمطران الحويك، صرّح مراراً بأنّ لبنان خطأ تاريخي وجغرافي، ويجب إزالة هذا الخطأ وتصحيحه».
على الرغم من إعلان «لبنان الكبير»، لم يتم التعامل معه باعتباره كياناً كاملاً وشكلاً نهائياً حتى من جانب مؤسّسيه، وإنما كياناً هلامياً وغير ناجز. فقد حاول الجنرال غورو، وبعد أقل من سنة على إعلانه، أن يضمّه ضمن مشروع فدرالي إلى سوريا، إلّا أنه اصطدم بمعارضة شرسة من غالبية الموارنة، حيث هدّده الحويك آنذاك بالثورة. ويورد صليبا في الكتاب نفسه، أنّه حتى عام 1926، سنة قيام الجمهورية اللبنانية ووضع الدستور، كان الحويك يتحدّث عن لبنان المسيحي مقابل سوريا المسلمة، ويدعو إلى تبادل سكاني إسلامي ـــــ مسيحي بين لبنان وسوريا. واستمرّ هذا التجاذب بين أخذ ورد. ففي أواخر أيلول 1932، قدّم رئيس الحكومة اللبنانية السابق إميل إده، والذي أصبح في ما بعد رئيساً للجمهورية، ما يناقض مسعى الحويك، من خلال التضحية بالجغرافيا مقابل كسب الديموغرافيا، إذ اقترح التخلّي عن طرابلس شمالاً وجبل عامل جنوباً «للتخلص من أكثريتين خطيرتين: سنّية وشيعية في سبيل عودة لبنان بأكثرية مسيحية طاغية».
في كتابه «هذا الجسر العتيق»، يورد المؤرّخ كمال ديب عبارة تختصر المشهد: «كان إعلان لبنان الكبير مناسبة سعيدة للموارنة، ويوماً مشؤوماً للمسلمين»، هذا الإعلان الذي عارضه جبران خليل جبران، وحدا به لكتابة مقالته الشهيرة «لكم لبنانكم ولي لبناني»، منصرِفاً بعدها عن السياسة نحو الفن والأدب، ومُطلِقاً نبوءته منذ مئة عام: «لبنان يتمخّض بثورة مذهبية، ومن يعش يرَ... لبنان البلد الصغير، الهادئ الآن سيكون مسرحاً لمجزرة هائلة، يذبح فيها المسلم المسيحي والمسيحي الدرزي، وسوف يذبح المسيحي أخاه المسيحي، ومن يعش يرَ». ولعلّ أصدق تعبير على شرذمة اللبنانيين، ما قاله السياسي والوزير السابق نجيب علم الدين، إنّ «في لبنان خليط من الناس، ولا يوجد فيه شعب لبناني، ولا يستطيع خليط من الناس أن يؤلّف شعباً، لذلك يتميّز اللبنانيون بالفُرادة، فينجح الأفراد، ولا تنجح الجماعة».
بعد خمسة عقود على قيام «لبنان الكبير»، تحقّقت نبوءة جبران خليل جبران، إثر اندلاع حرب أهلية في سبعينيات القرن الماضي، كرّست نتائجها واقعاً طائفياً جديداً من خلال «اتفاق الطائف»، الذي أفرزته توازنات داخلية وإقليمية ودولية جديدة. صحيح أنّ «اتفاق الطائف» نصّ على إلغاء الطائفية السياسية، إلّا أنه قنّنها وكرّسها من رأس الهرم وصولاً إلى وظائف الفئة الأولى، بعدما كانت عُرفاً غير مكتوب منذ عام 1943. أمّا في حاضرنا، فقد بلغت أسوأ وأخطر أشكالها، متملّكةً من النظام بأسره، حيث وصلت إلى أدنى المستويات الوظيفية في الدولة.
لطالما تشكلت الأوطان من أرض وشعب وسلطة. أما وأننا كلبنانيين بعد مئة عام على قيام «لبنان الكبير» لم نشكّل شعباً، يحدونا الأمل بالعمل على ألا نحتاج إلى قرن آخر حتى نستيقظ من غيبوبتنا الطائفية... لنصبح شعباً في وطن، لا طوائف في شبه دولة.

* كاتب وأكاديمي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا