شئنا أو أبينا، يبقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في مداخلاته الإعلامية وأدائه الحكومي للحدث الدينيّ الثقافيّ ذي العلاقة بالدين الإسلامي في فرنسا، محكوماً بموقعه الشعبيّ والانتخابيّ في استطلاعات الرأي العام. خصوصاً بعد هبوط شعبيّته في الشارع الفرنسي بشكل ملحوظ، وليس بسبب ثقافته الشخصيّة ومهاراته الدبلوماسيّة الّتي لا ينظر إليها الكثير من الفرنسيين إيجابيّاً بالمجمل. هذا الربط بين الحدث والأداء الرئاسيّ خلاله، ليس اتّهاماً، بل هو واقع حال أكّده الارتفاع الكبير والسريع في شعبيّته بعد إدلائه بتلك المقاربات والتصريحات وفي التأييد الواضح الذي اكتسبه من قادة وقواعد وإعلام اليمين وأقصى اليمين واليمين المتطرّف وحتّى بعض اليسار التقليديّ في بعض أجنحة الحزب الاشتراكي، لدرجة ضاعت فيها الحدود السائدة بين يمين الوسط الذي يُنسب إليه ماكرون واليمن المتطرّف وأقصى اليمين وبعض اليسار المتصهين.‬
(أ ف ب )

وبلغة الوقائع والأرقام، فقد أكّد استطلاع للرأي، أجراه «المعهد الفرنسي للرأي العام»، يوم 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، أن نسبة التأييد الشعبيّ لماكرون قد ارتفعت لتصل إلى 46 في المئة، في حين كان استطلاع آخر سبقه، أجراه المعهد نفسه، بطلب من صحيفة (Journal Du Dimanche) في شهر حزيران/ يونيو 2020، قد أشار إلى أنّ شعبيّة ماكرون انخفضت إلى 38 في المئة!
إنَّ هذه الحسابات السياسيّة والانتخابيّة ليست هي العامل المقرّر والفعّال والنهائيّ، على ما فيها من تأثير على الأفعال وردود الأفعال الرئاسيّة والحكوميّة الفرنسيّة، وقد تكون حالة ارتفاع شعبيّة الرئيس هذه موقتة وعارضة، في رأي عام فرنسي عُرف بتقلّبه الشديد ونقديّته في النظر إلى الأداء الحكومي. لكنّ هناك عاملاً آخر لا يقلّ تأثيراً، دخل الميدان، وسيضرّ بماكرون أشدّ الضرر، بل وبالدولة الفرنسية والاقتصاد الفرنسي، ألا وهو المقاطعة الاقتصاديّة التي دعا إليها أفراد وجماعات غير حكوميّة في بلدان عربيّة ومسلمة عدّة، وطُبّقت فعلاً، فأثارت قلقاً بل وذعراً في الأوساط الفرنسيّة والغربيّة عموماً. ولا يمكن أن نستبعد من التفكير أن المقابلة التلفزيونيّة التي بادر إلى إجرائها الرئيس الفرنسي مع فضائية قطريّة، وحاول من خلالها «النزول عن الشجرة» بقليل من المهارة واللعب بالألفاظ تأتي في سياق مواجهة تلك الدعوات الشعبيّة إلى مقاطعة المنتجات والبضائع الفرنسية. صحيح أنّ السلطات الرسميّة العربيّة لم تؤيّد أو تدعم هذه الحملة، بل إنّ بعضها تبرّأ صراحة منها، أو حاول التعتيم عليها وتوجيه أذرعه الإعلاميّة والسياسيّة للتثقيف بلا جدواها وبضرورة إجهاضها، وقد تمكّنت فعلاً من التخفيف من وطأتها، لكنّها لم تنجح في وقفها تماماً حتى الآن.‬
إنَّ أهمية هذا العامل القاعدي ربما تفوق أهمية غيره من العوامل، ولو سُمِحَ له أن يتّسع ويتعمّق لتمكّن من تسجيل نقاط مهمّة، وغيَّرَ بعض المعادلات السياسيّة المهيمنة في المنطقة. وحين يدرك الناس مستقبلاً أهمّية سلاح المقاطعة التجاريّة لدول الغرب ويشهرونه في الدفاع عن قضايانا العربيّة والعالم ثالثية المهمّة والمصيريّة الأخرى، كقضية فلسطين والدعم الغربي والأميركي الهائل المقدّم للكيان الصهيوني ضدّ الدول التي اعتادت مثلاً على التصويت ضدّ القرارات التي تدين ممارسات الكيان ومجازره أو تلك التي تفرض الحصار وتسوّغ العدوان الغربي على بلداننا وتؤيّد الكيان الصهيوني في عدوانه المستمرّ على الشعب الفلسطيني وحرمانه من حقّه في الاستقلال التام، وبناء دولته وعاصمتها القدس، فإنّ تلك الدول ستعيد حساباتها جذريّاً بكل تأكيد.‬
بالعودة إلى تصريحات ماكرون الأخيرة، فهو حين يقول إنّ «دوري هو أن أهدّئ الأمور كما أفعل، وليس تبرير العنف، بالصدمة)»، لا يقدّم نموذجاً يُحتذى في أساليب التهدئة: لا بالإجراءات القمعيّة التي اتّخذتها حكومته ومنها قرارات الإغلاق أو التضييق على المؤسّسات والجمعيات الإسلامية المجازة والتي ذهب ضحيتها العديد من مدارس تعليم اللغة العربية والجمعيات الثقافيّة والدينيّة المجازة، ولا بالتصريحات المتواترة له ولرئيس حكومته جان كاستيكس الذي أدلى يوم 2 تشرين الثاني/ نوفمبر بخطاب ناريّ ندّد فيه «بالمساومات التي قامت بها أحزاب سياسيّة ومثقفون على مدى سنوات مع التطرف الإسلامي»، داعياً إلى «معركة إيديولوجية» ضده: «هذه المعركة إيديولوجية، والعدو يسعى أوّلاً إلى تقسيمنا ببثّ الكراهية والعنف، وإلى كسر المجتمع الوطني». وقد كان الأجدر بالسيد كاستيكس أن يندّد بنفسه وبأفعال حكومات بلاده المتتالية التي لم تقف عند حدّ التبرير لما يسميه التطرّف الإسلامي، بل بلغ الأمر درجة الدعم والتأييد والتبنّي وشحن الأسلحة والأموال ومنح الغطاء السياسي لجهات تكفيريّة ضمن ما يسمّيه «التطرف الإسلامي» في ليبيا وسوريا وغيرهما.‬
إنّ السيد ماكرون، حين يحاول التخفيف من وطأة الإساءة لمقدّس الآخرين، يلجأ إلى طريقة غريبة في التعامل معها بأسلوب تعميمها، فيقول مثلاً إنّ مجلّة «شارلي إيبدو» لم ترسم رسوماً كاريكاتورية تسخر فيها من نبي الإسلام فقط، بل سبق لها أن رسمت وسخرت من جميع الأديان من دون استثناء، ونشرت رسوماً كاريكاتورية عن البابا والحاخامات وعن المسيح ...إلخ. وماكرون هنا، شأنه شأن أيّ فرد من عامة الفرنسيين والغربيين يجهل أنَّ المسلمين يُجِلّون ويقدسون جميع الأنبياء التوراتيين والنبي يسوع المسيح أو عيسى بن مريم حسب التسمية القرآنية على جهة التخصيص، وأن القرآن، كتاب المسلمين المقدّس، يحتوي على سورة طويلة ومهمة باسم أمه مريم، مثلما يُجِلّون ويقدسون نبيهم العربي الكريم محمد بن عبد الله، ويطلقون أسماء هؤلاء الأنبياء على مواليدهم، وهذا ما لا يفعل مثيلَه معتنقو الديانتين المذكورتين، وهم بذلك يتفوقون عملياً على غيرهم في ميدان التعايش والتعامل الإيجابي مع الآخر عملياً بدفع من دينهم وقرآنهم.‬
وحين يقول الرئيس ماكرون مخاطباً المسلم الافتراضي أمامه «لن أقبل أبداً ألّا تحترم قانوناً من قوانين الجمهورية بدافع ديني إذا كنت تعيش على الأرض الفرنسية»، فهو، كما قلنا، يخلط عمداً ما هو قضائيّ وجنائيّ بما هو ثقافيّ ودينيّ، وصولاً إلى اختراع مشكلة غير موجودة أصلاً مع الإسلام كدين. ثم يحاول في تصريح تالٍ أن يوضح فكرته، ويخفّف من وطأة تصريحات سابقة فيقول: «المتطرفون العنيفون الذين يعملون باسم الإسلام ويحرّفون الدين ويعلمون أنه لا يجب احترام فرنسا ولا قوانينها وبطريقة ما يعلمون الخروج على القانون ويعلمون أن المرأة لا تساوي الرجل، لن يحدث هذا عندنا أقولها بكلّ وضوح لن يحدث هذا عندنا». ورغم أن هذا الكلام ينطوي على تفريق لا لبس فيه بين الإسلام كدين، والمتطرفين الإسلاميين الذين ينسبون أنفسهم إليه، لكنه منطقياً ينقلب ضده. فهو من جهة، يعترف ضمناً بأن المعنيّين بالتجاوز وخرق القانون الفرنسي أفراد «متطرفون عنيفون»، وليس عامة المسلمين بملايينهم الستة في فرنسا، وأن الأَوْلى أن يتم التعامل القضائي مع من يخرق القانون الفرنسي بغضّ النظر عن دينه، من دون الزجّ بالإسلام والمسلمين كجماعة دينيّة، في هذا الشأن القانوني القضائي. فكيف العمل والحال هي أن هؤلاء «المتطرفين العنيفين» قد غُضَّ النظر عنهم من قبل الدولة الفرنسية بل وتم استخدامهم استخداماً سياسياً ليذهب ضحية لممارساتهم العنيفة غالبية عظمى من المسلمين أنفسهم؟ ‬
نجد صورة واضحة لفكرة ماكرون الملتبسة، حول توظيف خطاب الدفاع عن حرية التعبير في السجال بشكل مقلوب، وبطريقة تنمّ عن اجتزائها لخدمة منطق الإساءة القصدية لمعتقدات ومقدسات ملايين الناس. يقول ماكرون حرفياً: «حتى لو كنت لا أتّفق مع هذه الرسوم الكاريكاتوريّة إلّا أني أحمي من رسمها فهذا حق يُمارَس في فرنسا... يجب عليَّ أنْ أحمي هذه الحرية وهذا الحق في التعبير وأنْ تجري هذه الأمور باحترام». في هذه الفقرة، يتبيّن لنا بوضوح، أن ماكرون يدافع عن الحق في حرية التعبير المطلق، وبضمنها رسوم الكاريكاتور المسيئة والمستفزّة لمليارَي إنسان مسلم. وهذا الحق، غير المقيّد بظرف، مشفوع بالدفاع الحكومي عمّن يمارس هذا الحق. ولكن العبارة الأخيرة في هذا التصريح، والتي تقول: «على أن تجري هذه الأمور باحترام»، تقلب أو ـــ بالحدّ الأدنى ـــ تحدّ من تطبيق هذا الحق! فهل تنطوي الإساءة إلى نبي الإسلام الذي يجلّه ويقدسه مليارا مسلم، أو أيّ نبي آخر على أيّ احترام؟
لنقُل إنَّ حقّ الاعتراض والتعبير عن الرفض السلميين مضمون لمن أساء إليهم هذا الحق، فهل يحسب العمل العنيف والإجرامي الذي يرتكبه فرد من المُساء إليهم على الرفض السلمي والتعبير عن الغضب؟ أليس المعيار الصحيح للتفريق بين مَن يحتجّ سلمياً، وهم الغالبية العظمى، وبين من يحتجّ بالعنف المسلّح والإجرامي، وهم أفراد معزولون ولا يستثنون المسلمين من عنفهم، هو القانون النافذ؟ وإذا اتّفقنا على صحّة هذا الاستنتاج، أفليست مشكلة فرديّة قضائيّة قانونيّة، لا مشكلة مع دين أو جماعة دينية ضخمة هي المسلمون؟ أين المشكلة إذاً؟ هل هي في جوهر حرية التعبير، أم في الاحتجاج على الإساءات الناتجة عنها؟ في الحقيقة المشكلة ليست في هذا الحق ولا في الاحتجاج، بل يمكن أن نقول لا توجد مشكلة على هذا المستوى الثقافي السياسي المجتمعي، بل هناك حالات عنف محدودة تمت إدانتها من قبل المُساء إليهم قبل غيرهم.‬
لنطرح السؤال بطريقة أخرى: إذا كان رئيس الدولة الفرنسية، قد تعهّد بحماية نشاط فنيّ ضمن منطق حرية التعبير، رغم أنه نشاط ينطوي على استفزاز وإساءة لملايين الناس، ورفض أن يدين هذه الإساءة أو أن يمنعها ـــ كما فعلت مثلاً السلطات البلجيكية التي بادرت إلى اتّخاذ إجراء تأديبيّ بحق مدرّس آخر عرض تلك الرسوم الكاريكاتورية على تلامذته وأوقفته عن العمل كما نقلت الصحافة البلجيكية (صحيفة «لو ليبر» عدد يوم 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2020) فهل يمكن أن نسمي هذا الأداء الرئاسي متوازناً وساعياً إلى التهدئة بين مكونات المجتمع بهدف عزل «المتطرفين العنيفين»؟ أم أنه كان منحازاً ومفتقداً للتوازن والموضوعية؟
بكلمات أخرى: أين المشكلة إنْ كانت هناك مشكلة جوهريّة وبنيويّة حقاً، هل هي في علاقة المسلمين بالدولة الفرنسية، أم بين الإسلام والمجتمع الفرنسي، أم إنها في مقاربات ماكرون «السياسوية» وإدارته للحدث موضوع النقاش؟ إنَّ كلّ المؤشرات والمعطيات والوقائع على الأرض، والتي استعرضنا بعضها في هذا النص، تؤكد بما لا يقبل الشك أنَّ المشكلة هي في منطق ماكرون ومقارباته ذاتها أولاً، وفي طريقة قراءته للشأن الإسلامي وعلاقته بالحدث الأخير، وفي إدارته له ثانياً. وليس أمام ضحايا هذه الإدارة السيئة للأزمة، وافتعالها مشكلة لا وجود لها بين الأديان، أو بين دين معين منها والدولة أو المجتمع، إلا أن يدافعوا عن أنفسهم بالوسائل السلمية وفي مقدمها الاحتجاج والتثقيف المضاد والمقاطعة الاقتصادية بوصفها أشكالاً تطبيقية متاحة لحرية التعبير يضمنها القانون الفرنسي نفسه.‬
أختم بالاستدراك التالي، إنَّ القول بعدم وجود مشكلة جوهرية وبنيوية بين الأديان أو بين دين معين هو الإسلام والدولة أو المجتمع، لا يعني عدم وجود تعقيدات وحوادث وأزمات طارئة في سيرورة العلاقات بين هذه الأطراف في الحياة الواقعية، كأية ظواهر اجتماعية وسياسية تفرز تداعيات وردود أفعال مختلفة حتى بين معتنقي الدين الواحد والطائفة الواحدة. ولعلّ مهمّة الدولة ومؤسساتها وقيادتها، تكمن في إدارة هذه الأزمات بشكل سليم ووضع الحلول الكفيلة بمعالجة أسبابها لتفادي تكرّرها.‬
* كاتب عراقي‬

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا