في ذكرى مرور عام على الانتفاضة الشعبية في لبنان، وفي خضمّ الإعداد للمؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي اللبناني، وكون الباب ما زال مُشرّعاً للاجتهادات المختلفة، ما زال غسان ديبة شأنه شأن الفئة الأكاديمية التي ينتمي إليها، وهو عضو في المكتب السياسي، ومسؤول التثقيف المركزي الحزبي، يطرح العديد من القضايا الفكرية - السياسية المتعلّقة باستراتيجية الحزب وهويته وطبيعة القوى المحرِّكة لعملية تغيير النظام السياسي الطائفي في لبنان. لذا، لا بدّ من التوقّف مجدداً عند مقالة ديبة، «الاقتصاد السياسي لانتفاضة 17 أكتوبر»، لمناقشة بعض من هذه الطروحات على نحو مقتضب، لكونها تتضمّن تسويغاً وتسويقاً وإسقاطاً لمصطلحات ومفاهيم، ناهيك بالخروج باستنتاجات لا تتواءم وسيرورة نضالنا كحزب.في مقالته التي نُشرت في جريدة الأخبار بتاريخ 17 تشرين الأول / أكتوبر 2020، يحاول الكاتب الأكاديمي طرح رؤيته لبُنية القوى التي من شأنها قيادة عملية التغيير في البلاد نحو ما يسمّيه بالديمقراطية، وضدّ ما يسمّيه بالأرستقراطية المالية. وبين المسعى المنشود والعدو المزعوم، هناك فيض من المغالطات الفكرية (أي المغالطات المتعلّقة بتوصيف الواقع). تنبع هذه المغالطات من تمسّك حادّ بنهج ليبرالي أكاديمي من التحليل السياسي الذي يسود الفلك الأكاديمي المهَيمن على فضاءات الإنتاج المعرفي في العالم اليوم. يتّكئ هذا النهج على عماد المشهديات المقارَنة بين دول عالم الشمال ودول عالم الجنوب، فيحتسب أنّ ثمة صيرورة واحدة - صيرورة الفاعل - أي المستعمر الرأسمالي. أمّا الديناميات الحائمة حول ذلك الفاعل، فتبدو منسلخة عن خط الفعل المتصل الرأسمالي، وكأنّ الزمن ليس إلّا زمن الرأسمالية الأوروبية والخلاص لن يأتي إلّا من خلال إعادة إنتاج صيرورة الدولة الرأسمالية الحاكمة عالمياً. يقوم الأكاديميون أتباع هذا النهج، بنقد الواقع في بلادنا تبعاً لمدى تماثله والتطوّر التاريخي للبنية الاقتصادية والاجتماعية للدول الرأسمالية الكبرى. يلحق بهذه النظرة استعارات تشخيصية للبنية الاجتماعية، وبالأخص للشرائح وللفئات الاجتماعية التي تمتلك مكمناً ثورياً تغييرياً يخوّلها قيادة عملية التغيير بصيغتها المستوردة نحو الديمقراطية الرأسمالية. بهذا النهج، تصبح عبارة كـ«يمكننا تشبيه النضال الديمقراطي اليوم ضد الطائفية اللبنانية، بالنضال الديمقراطي بالأمس ضد القيصرية في روسيا»، معالجة تاريخية مقبولة على خلفية زعمها أنّ التاريخ عبارة عن جملة خطوط مستقيمة تتباطأ حركة مكوّناتها، أو تتسارع، وفقاً لتطوّر «الوعي الجماهيري» و«المقوّمات البرجوازية». أما بالنسبة إلينا كماركسيين، فليس في تلك المعالجة إلّا إسقاط بنيوي وبتر وتلقيح مكانيّ.
في بادئ الأمر، تجدر الإشارة إلى أنّ المفاهيم الخمسة الأساسية المطروحة على شاكلة مسلّمات، والتي يطرحها الكاتب، إما بشكل مباشر أو موارب وهي: الديمقراطية البرجوازية - الأرستقراطية المالية - العمال الواعون - المجتمع المدني - النظام الطائفي.
الديمقراطية البرجوازية: «العمّال، بشجاعتهم وعزمهم وتضحياتهم، هم المسؤولون الرئيسيون عن تحقيق النصر. إنّ البرجوازية الصغيرة ستتردّد لأطول فترة ممكنة، وستظل خائفة ومرتابة وغير فاعلة؛ لكن عندما يمسي النصر مؤكداً ستدّعي أنه من صنيعتها، وستطلب من العمّال أن يتصرّفوا بكياسة وسوف تستبعد البروليتاريا من ثمار النصر...»، ماركس 1850. هذا هو حكم الديمقراطية البرجوازية، طائفية كانت أم غير طائفية. لفظة المدنية لا تلغي الطابع البرجوازي للديمقراطية تحت نير الرأسمالية، وبذلك لا تلغي آليات الاستغلال الممنهج ولا تحمل في مسارها أدوات تحطيم النظام القائم، بل على العكس تماماً، هي تساهم في تمييع الصراع الطبقي بتحويله إلى نضالات حقوقية وهوياتية متفرّقة ومتقطّعة باسم التمرحل. هكذا يطبّع العامل مع استغلاله باسم المواطنة تارة، والأمن القومي والوطني تارة أخرى، وغيره من المفاهيم البرجوازية (التي زرعتها الثورة البرجوازية الفرنسية).
في ما خصّ مصطلح الأرستقراطية المالية الذي دأب الكاتب على استخدامه وتكراره، يهدف إلى تسويغ التشبيه الذي ابتدعه بين الثورة ضدّ القيصرية والانتفاضة التي شهدتها الساحة البنانية، وهنا لا بدّ لنا أن نعرّج ولو بشكل سريع على هذا المصطلح. إنّ مفهوم الأرستقراطية يعود إلى النظم الاقتصادية الإقطاعية، لذلك فإنّه يزعم في استخدامه لهذا المفهوم بأنّ النظام الاقتصادي في لبنان ليس باقتصاد رأسمالي، وهذا ما يحاول الخطاب الليبرالي ترويجه بألفاظ أقل تأريخية كـ«الاقتصاد المتخلّف»، أو «الرأسمالية المتأخّرة»، إلخ.... لكنّ الواقع البنيوي يؤكد أنّ معالم «التخلّف» أو «الريعية» أو حتى «الفساد»، هي جزء أساس من اقتصادات دول العالم الرأسمالي التي تتفاوت معالمها، وتتغيّر حدّتها، تبعاً لحركة رأس المال وأماكن تمركزه ما بين عالم الشمال وعالم الجنوب (نستخدم لفظتَي «الشمال والجنوب» لأنّهما الأقرب لا الأمثل، لتسييق الصيرورة الاستعمارية). إلّا أنّ الدول، وبمعزل عن إمكانياتها نسبةً إلى القدرات الصناعية، هي جزء فاعل ومتأثّر بالنيوليبرالية «المؤمولة».
لعلّ الحضيض الذي وصل إليه يسارنا يعود في جوهره إلى استفحال ثقافة التغريب الممنهج للطبقة العاملة عن مراكز إنتاج المعرفة وإنتاج القرار


إنّ النيوليبرالية «المؤمولة» اللبنانية، كانت سابقة في حدّتها لتلك التي شهدتها أوروبا (بدأت عمليات الأمولة الرأسمالية في لبنان، مطلع الستينيات، مع إرساء دعائم النظام البنكي المنكشف)، لأسباب كثيرة لسنا بصدد عرضها الآن. إشكاليّتنا مع لفظة الأرستقراطية لا تقف عند دلالتها المضلّلة، فبالتعريف تتكوّن الأرستقراطية من طبقة ذات طبيعة سياسية وكانت (في فترة الإقطاع) أكثر نفوذاً على المستوى السياسي من الطبقة البرجوازية، لجهة العلاقة الشخصية من السلطة (عادة الملكية) الحاكمة. لذا، فإنّ استدعاء ذلك التباين وإسقاطه على واقع رأسمالي معاصر يهدفان بشكل أساس إلى تغييب لفظة الـ«برجوازي» تماماً عن مشهدية الصراع الطبقي، في حين أنّ الطبقة البرجوازية - ولا سيما في حقبة ما بعد الثورة الفرنسية في أوروبا، وما بعد موجة «الاستقلالات» في عالمنا العربي - هي الطبقة القابضة على الميدان السياسي وأروقة صناعة القرار المستتبع داخل الدولة الرأسمالية. الطبقة البرجوازية هي مالكة رؤوس الأموال ووسائل الإنتاج من تجّار ومالكي عقارات وبنوك وصناعيين، وضمن المنتظم «المؤمول» في لبنان ينضمّ إليهم حلفاء: مثل فئة الإداريين والتقنيين من الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات الخاصة على وجه التحديد. فالمشهدية العمالية والنقابية التي خاضتها الساحة اللبنانية في العقود الثلاثة الأخيرة، وما زالت تخوضها، خير مثال على انحياز تلك الفئات الأخيرة - التي هي في حالة طبقية ما بينيّة - إلى البرجوازية وهذا واضح من خلال إصرارها الدائم على الحلول الإصلاحية التكنوقراطية في كلّ نشاطاتها. كما أنّ استخدام هذا المصطلح يحمل الكثير من المراوغة في تحديد معالم المعركة الطبقية، شأنه شأن مصطلح الأوليغارشية الذي يرمي إلى تبرئة الشرائح البرجوازية الصغيرة وتلك الطفيلية من مشهدية الاستغلال، بحجّة أنّ تلك الفئات هي الرافعة نحو اقتصاد «إنتاجي»، فيسوّغ لها «تمرحُلياً» المضي في عملية الاستغلال، لطالما كان في مواجهة «الأوليغارشيا» و«الأرستقراطية المالية».
وبين هذا وذاك، تبقى الطبقة العاملة في حالة تغريب عن ماهية صراعاتها اليومية التي تختصر ببساطة - لمن يود بالفعل الدفاع عن الطبقة العاملة - من خلال فهم نمط العلاقات التي تجمع تلك الطبقة مع سائر طبقات المجتمع، والأهم مع الدولة.
وأمّا عن غاية هذا التغريب الذي يُمعن الأكاديميون التنظير فيه، تكمن في تنحية مفهوم الصراع الطبقي بشكل أساس، من أجل التمهيد لمصطلح «تضامن الطبقات» و«المصالح العابرة للطبقات»، أو «المؤسّسات المناسبة لكل الطبقات»، وكلّ ذلك بغية التمهيد لمفهوم يتمّ تبنيه بين الشيوعيين على وجه التحديد، بضرورة وضع المجتمع على «سكة التراكم الرأسمالي»، ناهيك بترويج عبارات ذات طابع إصلاحي كـ«إعادة هيكلة الدين العام»، أو «توزيع الخسائر بشكل عادل» و«محاربة الفساد» و«اقتصاد ريعي واقتصاد منتج»، إلخ... خلاصة القول إعداد ما يلزم من مشاريع من أجل إعادة ترميم الهيكل وليس العمل على تغييره.
من هنا، ننتقل إلى مفهوم مغالط آخر، لا بل مهين لنا كطبقة عاملة، يعمل الكاتب على تسويقه ألا وهو «العامل الواعي». يزعم الكاتب أنّ الثورة لا بدّ أن تُقاد من قبل شرائح «المجتمع المدني»، و«العمّال الواعين»... ما هو الوعي العمّالي؟ من هم الواعون؟ وعن أيّ نوع من الوعي نتكلّم؟ تضعنا رؤية الكاتب أمام المزيد من الغموض المفتعل. ففي سياق بنية المقالة، نجد الانحياز الكامل لفكرة أنّ المكمن الثوري الحقيقي لا يوجد إلّا في فلك نماذج تفسيرية معيّنة لوعي اقتصادي اجتماعي سياسي ذي «مصداقية» أكاديمية. وفي ذلك زعمٌ أنّ قيادة الثورة عبارة عن كوادر جاهزة، وأنّ الطبقة العاملة يمكن تقسيمها فئوياً على أساس ذاك الوعي «ذي المصداقية». هكذا تُبتدع الهرمية في صف الطبقة العاملة المعاصرة بين العاملات / العمّال الذين يُعتبرون أقرب لذاك الفلك المعرفي المهيمن، ومن أبرزهم عاملو منظمات المجتمع المدني وبالتحديد من مواطنين ومواطنات وخرّيجين وخرّيجات الجامعات الخاصة بالتحديد.
بالطبع، بدورنا لا ننفي المكمن الثوري الذي تحمله هذه الفئة العمّالية، إلّا أنّ شأنها شأن كلّ الفئات الأخرى في القطاعات الاقتصادية المختلفة، لا بد من أن تحقّق شرطين لتنتقل من حيّز القوة الثورية الكامنة إلى القوة الثورية الفاعلة، ألا وهما:
1- التنظيم المؤدلج القاعدي المشتبك الذي يتحقّق، قبل وبالتوازي مع:
2- عملية الانتقال من الوعي الطبقي في ذاته إلى الوعي الطبقي لذاته.
إنّ الشرط الثاني في علاقة جدلية مع الشرط الأول، فالوعي الثوري لا يكون ثورياً إلا إذا كان في عملية اشتباك نقدية ومستمرّة مع الواقع في ركوده وحركته وفي دهاليز ثناياه كافّة. هكذا، يصبح التنظيم بنية وحركية تحوي وتحرّر رؤية الواقع من ميدان التطبيع وعلاقات الاستغلال الكائنة إلى ميدان نقضها ومواجهتها.
أما في ما يتعلّق بالنظام الطائفي، كما هو معلوم لدى الكثير من الشيوعيين، فإنّ النظام الطائفي اللبناني ما هو إلا النظام السياسي والأيديولوجي للبرجوازية اللبنانية الكولونيالية، إلّا أنّ الكاتب يبتكر بدعة التفرقة غير المعلنة بين النظام الرأسمالي اللبناني المتمثّل بالنظام البرجوازي وبين الصيغة الطائفية لذاك النظام، وكأنّ البنية الرأسمالية في لبنان شائبتها الأساس هي العلّة الطائفية. هذه المعالجة السطحية تؤدي إلى إعادة تكريس فهم مُغالط في أن الطائفية كظاهرة هي حكر على الخصوصية اللبنانية، وأنها ظاهرة متأصّلة بـ«طبيعة» النسيج الاجتماعي اللبناني، في حين أنّ الطائفية، ما هي إلّا نمط من أنماط شتّى (إثنية وعرقية ومناطقية وقومية ودينية) للزبائنية الليبرالية، التي تسيطر على تطور العلاقات الاجتماعية وعلى رأسها نمط علاقة الأفراد والجماعات مع مستغلّيهم. لذا، نكرّر ونقول ما هو بديهي لأيّ تحليل ماركسي (اقتصاد سياسي) أن النظام البرجوازي اللبناني الكولونيالي، ولكي يقمع تبلور الوعي الطبقي في المجتمع، يقوم بفرض أنماط تباين وتفرقة تفكيكية طائفية تحول دون الوصول إلى أيّ مستوى من مستويات الوعي الطبقي، التي ذكرناها آنفاً، وعليه تُرسّخ الطائفية في أجهزة الدولة التي بدورها تعمل على فرض هيمنتها الثقافية، في المناهج الدراسية والخطابات والإعلام والمؤسّسات الدينية. تلك هي البنية الفوقية التي تحافظ على جبروتها من خلال الدوائر الزبائنية غير المقوننة والمقوننة، على غرار مؤسّسات المجتمع المدني الإغاثية. فمن دون البنى الزبائنية، لا مصير للـ«طائفية» إلّا التصدّع والتهاوي. لا طائفية من دون بنية تحتية زبائنية، ولكن العكس ليس بالضرورة أن يكون صحيحاً، وستجد الزبائنية لنفسها مكاناً طالما أنّ النظام ذو طبيعة برجوازية تابعة.
خلاصة القول، لعلّ جوهر المشكلة في هذه المقالة والكثير من المقالات التي تدّعي تحليل انتفاضة 17 تشرين، هو لا واقعيّتها لجهة رفضها الإقرار بالطبيعة البسيطة الواضحة للغضب العمّالي الذي بفعل تخاذل النخب اليسارية الليبرالية، أو اليسارية الممانعة الرجعية المستتبعة، لم يتمكّن هذا الغضب من أن يتبلور وينتقل إلى مرحلة الثورة. وعوَضاً عن ذلك، تذهب تلك الكتابات «المرموقة» إلى إرساء ثقافة تعقيدات تسطيحية للمشهديات والمقاربات بهدف نيل المصداقية الأكاديمية والوصول إلى السوق المعرفي الاستهلاكي.
ولهذا نقول، لعلّ الحضيض الذي وصل إليه يسارنا يعود في جوهره إلى استفحال ثقافة التغريب الممنهج للطبقة العاملة عن مراكز إنتاج المعرفة وإنتاج القرار. أما التغريب، فيعود بدوره إلى تربّع المؤسّسة الأكاديمية على عرش التنظير الماركسي، تلك المؤسّسة التي تبتاع برأسمالها الثقافي من الواقع الرأسمالي مآسيه لتعود وتُسلّعها في سوق الرأسمالية المعرفية، فتغدو الطبقة العاملة وقوداً ومُشاهِداً لعملية استغلالها اللامتناهي على أيدي دعاة تحرّرها من المنظّرين «العلميين التخصّصيين».
*باحث وأكاديمي لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا